الدوحة- الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
إن التنمية الشاملة أو حتى التنمية الاقتصادية تعدّ من أهم شروط النهضة والتقدم والحضارة، وبدونها لن تستطيع الأمة الوصول إلى تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية، ولذلك فهي ليست مهمة سهلة بل تعتبر من أصعب الأمور وأكثرها إلحاحاً وحاجة إلى استكمال كافة الشروط المطلوبة، وإزالة العقبات والموانع التي تقف في طريقها.
ومن الناحية العملية والتجريبية فقد انفقت مئات المليارات من الدولارات باسم التنمية في العالم الثالث أو العالم النامي ومع ذلك لم تتحقق التنمية المنشودة بل ازداد الفقراء فقراً، وتوسعت دائرة الفقر كماً وكيفاً، ويزداد عدد المعدمين والمحرومين، وتضيق دائرة الوسط لصالح الفقر أيضاً كما سيأتي.
ومما لا شك فيه أن ذلك يعود إلى مجموعة من الأسباب من أهمها: أننا لم نأخذ بسنن الله تعالى في التمكين والتعمير والاستخلاف، ولم نأخذ بنظر الاعتبار العقبات الأساسية التي تقف أمام التنمية، والتحديات التي تواجهها، والموانع التي تعوق بل تمنع حركتها ونهضتها.
ونحن هنا في هذه العجالة (المدخل) نذكر أهم هذه التحديات والعقبات التي تقف أمام التنمية الشاملة، وهما: تحدي الأمية، والجهل والتخلف، وتحدي الفساد الشامل، أي: الفساد الاداري والسياسي والمالي والبيئي وتحدي عدم التوازن، في ثلاثة مطالب.
المبحث الأول: تحدي الأمية والجهل والتخلف:
لا أريد هنا أن ألج في التفاصيل اللغوية والفلسفية لهذه المصطلحات الثلاثة، وإنما أقصد بالأمية: عدم القدرة على القراءة والكتابة، وبالجهل: عدم العلم بحقائق الأشياء وبواطنها ومآلاتها، كما قال الله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وبالتخلف: عدم العلم بكيفية تعمير الأرض، والتقنيات (أي التكنولوجيا) المعاصرة للتمكين منها والاستفادة منها.
ومع الأسف الشديد فإن أمتنا الاسلامية لا تعاني من الجهل والتخلف فقط، بل تعاني من الأمية العادية أيضاً أي عدم القراءة والكتابة في القرن الخامس عشر الهجري والقرن الحادي والعشرين الميلادي في الوقت الذي وصل العالم الغربي إلى القضاء على الأمية بالكامل، بل هم اليوم يتجهون نحو تغيير معنى الأمية بجعلها شاملة لمن لا يستطيع التعامل مع آليات العصر ووسائل الاتصال الحديثة من الحاسوب وشبكة الانترنت ونحوهما.
وتدل الاحصائيات أن نسبة الأمية في أمة “اقرأ” كبيرة جداً، بل إنها كما يقول الدكتور التويجري لم تنخفض بل بدأت تزداد في عالمنا الاسلامي بسبب الحروب والكوارث والفقر والمجاعة، حيث يقول: (إن مرصد الاسيسكو لمحو الأمية سجل زيادة في نسب الأمية في بعض البلدان الاسلامية، مما يشكل ايذاناً باستفحال الأمور) وهذا الايذان بخطر الأمية في عالمنا صدر من منظمة اليونسيف، والأمم المتحدة أيضاً، حيث طالبت هذه المنظمات بضرورة القيام بتحركات فورية لتلبية احتياجات أكثر من 600 مليون طفل مسلم يعانون من الفقر والمرض وبالتالي عدم التعليم، ويقول الأمين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي: إن 11 — 16 دولة اسلامية توجد فيها أعلى معدلات لوفيات الأطفال في العالم حيث يموت 4.300.0000 طفل من دول المنظمة دون سن الخامسة، وبسبب سوء التغذية يتوفى أكثر من 60% منه قبل العام الأول، وأن أكثر من 40% من الأطفال في 17 دولة اسلامية لا يلتحقون بالمدارس أصلاً، وأن نسبة الأمية تصل بين النساء في مجموعة من البلدان الاسلامية أكثر من 70%، وأن ثلث أطفال المنظمة ما عدا دول الخليج العربي يعاني من سوء التغذية، وأن نسبة منهم تعاني من الايدز.
وتشير احصائيات البنك الدولي، وصندوق الأمم المتحدة للتنمية البشرية إلى أن الأمة الاسلامية هي أكثر الأمم تخلفاً في التعليم، حيث إن نسبة الأمية بمعنى القراءة والكتابة هي في حدود 50% ولكن الأمية بمعنى عدم إكمال الدراسة والتعليم هي 90%، وأن نصف سكان العالم الاسلامي لا يزيد معدل دخل الفرد عن مائتي دولار باستثناء الخليج العربي وأرجع الدكتور كينت ديفيد ذلك إلى الانفاق العسكري، والحروب، وإلى قلة العاملين المسلمين في مجال الصناعات أي قلة المصانع المنتجة، إضافة إلى تزايد عدد السكان بشكل عشوائي.
وذكرت احصائيات صندوق التنمية البشرية للأمم المتحدة أنه ينشر في المجلات العلمية العالمية المحكمة سنوياً 260.000 مقالة علمية، وأن نسبة العالم الاسلامي منها هي 1%.
وفي العالم العربي الذي هو جزء مهم من العالم الإسلامي يوجد 100 مليون أميّ بينهم 60% من النساء، وان حجم الاستثمار في الاختراعات العلمية 0.14% من الناتج المحلي، بينما تصل في اليابان إلى 2.9% وأن الاحتراعات المسجلة في العالم العربي كله 400 اختراع في حين وصلت في أمريكا 134000 اختراع.
ولا شك أن هذا الوضع المأساوي للعالم الاسلامي حيال الجهل والأمية والتخلف والفقر تعود أسبابه إلى الحروب الداخلية والخارجية، والانفاق العسكري، وإلى التفرق والتمزق، وعدم التعاون والتكامل، وإلى السياسات الخاطئة القائمة على الكبت، والاستبداد والدكتاتورية……
كم يتألم المسلم أن أمة “اقرأ” لا تقرأ، وأن أمة يكون أول آية من دستورها هو الأمر بالقراءة والتعلم ومع ذلك تصبح جاهلة ولا تتعلم في القرن الحادي والعشرين، وتبقى في سلّم آخر الأمم في العلم والقراءة!!!
إن مفتاح الحضارة هو العلم بمعناه الشامل، وأن مفتاح التمكين من الأرض والكون، هو قراءة هذا الكون وما فيه قراءة متأنية للوصول إلى التركيب بين المكونات، وتحقيق الغايات.
لذلك فأمتنا مطالبة بوضع استراتيجية هادئة هادفة كاملة شاملة للخروج من مستنقع الأمية، وعار الجهل، ومأساة التخلف، يمكن أن نذكر معالمها المتمثلة فيما يأتي:
1 — العناية القصوى بالإنسان وكرامته وحقوقه، وتربيته على القيم السامية والأخلاق الفاضلة، والصلاح والرحمة، وحب الوطن والإنسان والقيم الحضارية الإنسانية لتحقيق الأمة الواحدة، إن لم تكن في جميع المجالات فلا بدّ أن تتحقق الوحدة، أو التكامل والتعاون البناء في مجالات الاقتصاد، والعلوم والتقنيات والمواصلات والأسواق الاقتصادية ونحوها.
2 — الخروج من الشعارات والرغبات إلى الخطط والبرامج التي تستجيب لحاجيات الأمة تحفظ لها أصالتها وثوابتها، وتحقق لها التقدم والمعاصرة، وتنهض بها في مختلف المجالات.
3 — العناية القصوى بالعلم النافع وهو العلم المطبق كما أمرنا بذلك الاسلام وأن نطبق على أنفسنا في هذا المال المبدأ الاسلامي القائم على البحث عن أحسن المجالات العلمية، وأحسن العلوم والنظريات والآليات والأساليب، والطرق والسيناريوهات، فإن الله تعالى أمرنا بالأحسن في القول والفعل وفي العلم في آيات كثيرة، وامرنا حتى في القرآن بأن نرتقي فقال صلى الله عليه وسلم: (اقرأ وارتق).
4 — الاهتمام بالجامعات، والمعاهد والمدارس ووضع البرامج الجادة، والمناهج العلمية القادرة على التعليم والتحليل والتفكير والابداع بدل التلقين والحفظ المجرد والحشو والتقليد.
5 — وضع ميزانيات سخية للمراكز العلمية، والعناية بها عناية قصوى، فالتنمية الحقيقية تبدأ منها، والعناية بالبحوث العلمية الجادة، والابداع، ووضع حوافز للموهوبين والمبدعين ورعايتهم رعاية كبيرة،وتوفير جميع حاجاتهم من الأجهزة والمواد، ووسائل البحث العلمي الموصلة للابداع في مختلف مجالات الحياة.
6 — الاعتماد على الذات مع الاستفادة من الغير، فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أن وجدها.
7 — تسليم المراكز القيادية لأهل الاختصاص على أساس الكفاءة وليس على أساس الولاء الشخصي.
8 — وضع اللوائح والقوانين المنظمة لأمور التعليم والابداع بشكل يقطع النزاع والصراع.
علماً بأن الأمة الاسلامية لو توافرت الادارة السياسية من حكامها لاستطاعت أن تصل في زمن محدد إلى تحقيق غاياتها، وذلك لأن جميع مقومات النجاح (الدينية، والبشرية، والجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية،….) متوافرة.
9 — ان أمتنا الاسلامية لديها الامكانيات الجيدة، ولكنها لا تبذل ما هو المطلوب للنهوض بالأمة من خلال بذل الغالي والنفيس في سبيل النهضة العلمية التي تتطلب ميزانيات ضخمة كما فعلت الدول المتقدمة وتفعله حيث تخصص نسباً عالية قد تزيد على 21% للبحث العلمي فقط في حين أن معظم دولنا تصرف على السلاح والحروب ما بين 30% — 75% من الدخل القومي، ولا تخصص للبحث العلمي والنهضة العلمية إلاّ في حدود 0.5% إلى 1.5% فكيف ننهض؟
وأخيراً فإن أمتنا لن يستطيع جزء منها أو بلد واحد أن يحقق النهضة العلمية الشاملة إلاّ إذا اتحد معه بقية الأجزاء، فهي حقاً كجسد واحد، ولذلك لا بدّ أن تكون خطط الدولة الاقليمية ضمن الخطة الشاملة، ولن يتحقق ذلك إلاّ إذا عادت جميعاً إلى أخوتها الايمانية، وإحساسها بجسد واحد، وهذا يتطلب اصلاح النظام السياسي مع النظام التعليمي، والسعي الحثيث معاً للتعاون والتكامل للوصول إلى الوحدة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).