الدوحة- الشرق

كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:

ونحن نتحدث هنا عن ثلاثة أمراض تعتبر من أشد الأمراض فتكاً، فشت في أمتنا الإسلامية، ولنا الحق أن نتساءل: لماذا؟ هل هي بسبب قلة الموارد البشرية، أو المالية؟

الجواب القطعي هو النفي، فنحن نملك موارد بشرية مختلفة التخصصات والقدرات تصل إلى أكثر من خمس العالم (مليار ونصف) موزعين في عالم واسع ولدينا من الموارد المالية من الطاقة (البترول، والغاز) والمعادن وغيرهما من المواد الخام مما يجعل العالم الإسلامي من أفضل المناطق في العالم ثراء وقدرة، وأما الموقع الجغرافي له فهو أفضل المواقع استراتيجية وتنوعاً وثراءً.

إذن القضية ليست قضية الموارد المالية والبشرية، وإنما قضية التنظيم والإدارة، والمناهج التعليمية والفساد الشامل الذي نخر في جسم هذا العالم فأضعفه، فخارت قواه.

ومن جانب آخر فإن مدارسنا وجامعاتنا ظلت تعمل منذ أكثر من مائة سنة في عالمنا حسب الأساليب المطبقة، ولكنها مع ذلك لم تحقق الغرض المنشود، بل عجزت في تحقيق الأهداف المنشودة، بل فشلت في المساهمة الفعالة إنشاء جيل الإبداع والمبدعين، إلاّ من رحم ربي.

لذلك فإعادة النظر في مناهج المدارس من الروضة إلى الثانوية العامة أو الاعدادية، والجامعات ضرورة تقتضيها الضرورة، وذلك لأن التنمية البشرية ضرورة فعلية لهذه الأمة، يفرضها الواقع، والمستقبل، وبقاؤها وكرامتها، وهي فريضة شرعية تدل عليها الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة.

وهذه التنمية الشاملة تعتمد على عنصرين مهمين هما: الاخلاص من خلال التربية، والقضاء على الفساد بجميع صوره، والاختصاص الذي يتحقق بالعلم، ومن هنا فإصلاح النظام السياسي، والنظام التعليمي والتربوي من ضروريات التنمية الشاملة، ولذلك نرى الربط الأساس في وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم بين التعليم والتزكية فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فالتعليم شمل التلاوة وتعليم الكتاب، والحكمة، أي التجارب والأفكار الحكيمة النافعة، والتزكية شملت تطهير النفس والروح والداخل من كل ما هو فساد على مستوى الأفراد والدولة، وحقاً فهما السبيل الوحيد للتنمية والسعادة.

ونحن في هذا الفصل تحدثنا، ونتحدث عن أسباب هذا الخلل، وسبل علاجه من صيدلية الإسلام مستفيدين كذلك من جميع الأقوال الحكيمة والتجارب الناجحة، والنظريات والأفكار النيرة، والنماذج الرائدة.

 

*الفساد

نتناول تحدي الفساد بمعناه الشامل (الفساد الاداري، والسياسي، والمالي، والبيئي، وما يمس أمن المجتمع اقتصادياً أو سياسياً):

 

*التعريف بالفساد

الفساد لغة: له عدة معانٍ، فهو يطلق على كل تصرف يترتب عليه اختلال، وضرر مباشراً أو غير مباشر للفرد أو الجماعة أو المجتمع، وسواء كان الضرر مادياً أم معنوياً.

وقد تكرر لفظ الفساد في القرآن الكريم ومشتقاته خمسين مرة، في حين أن لفظ الصلاح ومشتقاته قد تكرر فيه أكثر من ثلاثة الأضعاف منه، كما تكرر هذان اللفظان في السنة النبوية المشرفة بشكل أكثر تفصيلاً وبياناً.

وقد تناول النهي عن الفساد كل ما يعتبر إضراراً بالفرد أو الجماعة أو المجتمع سواء كان فساداً مالياً، أم سياسياً، أم اجتماعياً، وسواء كان فساداً إدارياً، أم فساداً فعلياً، وسواء كان إضراراً مباشراً، أم غير مباشر، كما في البيئة بحيث نستطيع القول إن هذه النصوص تعطي صورة كاملة وشاملة وواسعة ومرنة لكل ما يدخل ضمن الاخلال بأن الفرد والمجتمع والدولة، سواء أكان من الجوانب المالية أم السياسية أم غيرهما، كما تبين أن مصدر الفساد هو الانسان وما كسبت يداه..

فاتورة الفساد بسبب الغش التجاري في العالم العربي أكثر من 60 ملياراً، والفساد المالي العالم الإسلامي لا يحصى:

أصدر مجلس الوحدة الاقتصادية العربية إحصائية في عام 2009 تثبت أن الاقتصاد العربي يخسر سنوياً أكثر من ستين مليار دولار بسبب الفساد الذي يسود الأسواق العربية بدءاً من الغش التجاري، ومروراً بالاحتكار والجشع والغلاء غير المبرر، ودخول سلع غير مطابقة للمعايير والمقاييس الدولية، وأما الفساد المالي في العالم الإسلامي فلا يعدّ ولا يحصى.. على سبيل المثال دلت الإحصائيات على أن حجم الفساد في العراق قد بلغ ثلاثين مليار دولار في عام واحد.

ونحن نتناول في هذا المبحث أهم أنواع هذا الفساد الذي يعتبر من أكبر التحديات، والعقبات في سبيل التنمية الشاملة، بل إنه في نظري يعتبر أخطرها، وأكثرها تأثيراً، في ثلاثة فروع وهي:

• الفرع الأول: الفساد الاداري والمالي والسياسي

• الفرع الثاني: الفساد السياسي المتعلق بأمن المجتمع

• الفرع الثالث: الفساد البيئي، وأثره على الاقتصاد.

الفرع الأول: الفساد الإداري والمالي والسياسي

إذا نظرنا إلى الواقع والتجارب المريرة لعالمنا نرى أن ظاهرة الفساد منتشرة وتشمل مجموعة كبيرة من الجرائم التي يغطى عليها تحت أسماء مختلفة، أو تمحى تحت منطق القوة والسلطان، فهي تشمل الرشوة، والمتاجرة بالنفوذ، والتعسف في استعمال الحق، وسوء استخدام السلطة، والتلاعب بالأموال العامة باختلاسها، أو تبديدها، أو التبذير فيها وصرفها في غير وجهها، أو صرفها في المحسنات والكماليات في حين أن الأمة ما زالت في بداية الضروريات، إضافة إلى الجرائم المالية الأخرى من التزوير، والجرائم المحاسبية وغسْل الأموال، وتزييف العملة، والغش التجاري، والتعدي على حقوق الآخرين، وبخاصة الحقوق المعنوية ونحوها.

فهذه الجرائم تندرج في الفساد الاداري، والمالي والسياسي، بل إنني أعتقد بأنها حزمة واحدة مرتبط بعضها ببعض، فالفساد السياسي يترتب عليه الفساد المالي، والاداري، والفساد الاداري يترتب عليه الفساد المالي والسياسي، فليس أمام العالم الاسلامي إذا أراد النهوض والنهضة والحضارة والتقدم إلاّ القضاء أولاً على هذا الفساد الذي ينخر في جسم الأمة فأنهكه، بل أهلكه.

وقد ثار جدل كبير لدى علماء الادارة في تفسير الفساد الاداري، وتعريفه بسبب اختلاف المعايير التي اعتمدوا عليها:

1 – فمنهم من اعتمد على المعيار الكلاسيكي القائم على المصلحة فعرف الفساد الاداري بأنه: إساءة استخدام الوظيفة العامة، أو السلطات، أو الموارد العامة لتحقيق مصالح شخصية.

فهذا التعريف يشمل جوانب متعددة، فأي استخدام سيئ للوظيفة العامة، سواء كانت كبيرة أم صغيرة لصالح المصلحة الشخصية يدخل في الفساد الاداري، وأي استخدام للموارد العامة لصالح الشخص الموظف يدخل في الفساد الاداري.

2 – ومنهم من اعتمد في تعريفه على المعيار الأخلاقي، فعرفه بأنه: أزمة أخلاقية في السلوك تعكس خللاً في القيم، وانحرافاً في الاتجاهات عن مستوى الضوابط والمعايير التي استقرت عزماً أو تشريعاً في حياة الجماعة، وشكلت البناء القيمي في كيان الوظيفة العامة.

وهذا التعريف منتقد بأنه عام وعائم، وغير محدد بمعيار يمكن الرجوع إليه، كما أنه جعل مرجعية المعايير الأخلاقية إلى الجماعة، وحينئذ يمكن أن يكون الفساد الاداري ناتجاً عن سلوك غير صحيح ولكنه مستقر لديهم.

3 – ومنهم من اعتمد على المعيار القانوني فعرفه بما يدل على أنه خرق للقوانين والأنظمة التي يجب مراعاتها في عالم الوظيفة.

ومع أن هذا التعريف يقوم على معيار منضبط وهو القانون والنظام الخاص بالوظائف، ولكن الاشكالية تأتي في ان القانون قد يُصْدَر لإضفاء شرعية على تصرف بعض الحكام، مثل ما حدث لماركوس رئيس الفلبين الأسبق الذي أصدر قوانين وأكدها البرلمان لصالح نهب الثروة.

4 – ومنهم من عرفه معتمداً على معيار الجمهور، أو الرأي العام، بحيث ما يراه الجمهور من تصرفات الاداريين أنه من الفساد الأسود، فتجب إدانته ومعاقبة مرتكبه، وما يراه أنه من الفساد الأبيض وهو السلوك الذي يتغاضى عنه الجمهور، فلا تجب إدانته، وما يراه من الفساد الرمادي وهو المتوسط بين النوعين، الذي تردد فيه الجمهور بين الادانة، وعدمها) فيبقى متردداً.

وهذا التعريف في حقيقته أكثر غموضاً من التعريفات السابقة، بل اعتمد على معيار يصعب تحديده، فمن هؤلاء الأشخاص الذي يمثلون الرأي العام، هل كل أفراد المجتمع؟ هل المسجلون الناخبون؟ وبالتالي فكيف نعرف رأيهم، فهل نعمل استفتاء بينهم، أم أنهم عينة معينة؟ بالتالي كيف نعبر عن الرأي العام؟ ثم ان تصنيف الأنواع الثلاثة ليس له معيار منضبط وبالأخص في ما يخص النوع الثالث، وكيف يحكم فيه؟.