الدوحة ــ بوابة الشرق

هذا الكتاب يخص به فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القره داغي ، جريدة الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. ويتحدث فضيلته اليوم عن:

غسل الأموال (Money Laundering )

لم يكن هذا المصطلح شائعاً في معناه الحالي إلى أن أصدرت الحكومة السويسرية الفدرالية القانون المتعلق بغسل الأموال، ثم بدأ الاهتمام به من قبل الدول والشركات والاعلام، حيث يضطر المجرمون الذين حصلوا على أموال بطرق غير مشروعة إلى استعمالها في الحسابات والتمويلات بطرق مقبولة قانوناً، وهنا يوجدون طرقاً لتحقيق هدفهم، فكأن هذه الطرق بمثابة تنظيف قانوني لأموالهم.

ومن هنا نستطيع القول ان غسل الأموال، أو بالأحرى “الجريمة البيضاء” هو عملية اضفاء المشروعية على الأموال المحرمة قانوناً من خلال طرق ملتوية لتسجل في الأخير في حسابات البنوك وتظهر أنها مشروعة.

فقد عرض قانون مكافحة غسل الأموال المصري هذه الجريمة بأنها: (كل سلوك ينطوي على اكتساب مال، أو حيازته، أو التصرف به، أو إدارته، أو حفظه، أو استبداله، أو إيداعه، أو ضمانه، أو استثماره، أو نقله، أو تحويله، إذا كان متحصلاً من جريمة من الجرائم المنصوص عليها… متى كان القصد من ذلك السلوك هو إخفاء، أو تمويه مصدر المال، أو تغيير حقيقته، أو الحيلولة دون اكتشاف ذلك، أو عرقلة التوصل إلى من ارتكب الجريمة… ).

والأموال التي يراد غسلها أو تبييضها هي الناتجة في الغالب عن الاتجار في السلع والخدمات غير المشروعة قانونياً وشرعاً مثل المخدرات بجميع أنواعها، والبغاء أو الدعارة، وشبكات التجارة بالرقيق الأبيض، ونحوها، ومن تزييف النقود والشيكات، والرشوة والفساد الاداري والسياسي، والاختلاس والسرقات، وعمولات السلاح، والنصب والاحتيال والتهريب، وعن الغش التجاري، أو الاتجار في السلع الفاسدة، وتقليد الماركات، وتزوير الكتب والمصنفات الفنية، ونحو ذلك من الأنشطة المحرمة.

وبذلك ظهر أن غسل الأموال يدل في الفساد في أكثر من باب، ولذلك ذكرناه ضمن الفساد، فهو فساد ديني واجتماعي، واقتصادي، وله خطورته القصوى على هذه المستويات كلها.

وسبب تسمية هذه الجريمة بغسل الأموال: أن هذه الوسائل القانونية قامت بغسل تلك الأموال النجسة، فتحولت بها من أموال محرمة قانوناً إلى أموال مقبولة في القانون حسب الظاهر حيث إنها دخلت في حسابات مقبولة في القانون.

وأما في الشريعة الإسلامية فلا قيمة لهذه الوسائل والمخارج ما دامت موصلة إلى تحليل الحرام، فهي محرمة بوسائلها وغاياتها، وذلك لأن الشريعة الإسلامية تعتمد في الحل والحرمة على الظاهر والباطن، والوسيلة والغاية، فيجب أن يكون الجميع حلالاً، فلا الغاية تبرر الوسيلة، ولا الوسيلة تحلل المحرم.

ولذلك فهذا المصطلح غير متناسق مع الفكر الإسلامي، لأن غسل الأموال يراد به في الفقه الإسلامي إن استعمل تنقية الأموال التي خالطها محرم بتنقيتها وتطهيرها واستبعاد كل ما هو محرم أو مشبوه منها ورده إلى أصحابه إن عرفوا، أو إلى الجهات الخيرية إن لم يعرفوا، أو كان صاحبه ممن يتعامل بالربا مطلقاً مثلاً.

الآثار السلبية:

لغسل الأموال آثار سلبية كثيرة، وخطيرة على مستوى الأفراد والشركات والدول، وعلى الدخل القومي، والادخار، والتضخم، فهو أخطر جرائم الاقتصاد، والتحدي الحقيقي أمام التنمية والنهضة، فهو الجيب الخلفي لهذه الجرائم المالية الخطيرة التي تعود أموالهم المحرمة القذرة الخبيثة لتدخل في حسابات وهمية، للوصول إلى حسابات هؤلاء المجرمين بصورة قانونية، أو تعود إليهم عن طريق الوسطاء.

إن العالم الثالث اليوم يذهب معظم دخله، وثرواته إلى جيوب هؤلاء المفسدين المجرمين، فقدت حدث ديمتروس كلاسيس، عضو لجنة الجريمة بالأمم المتحدة في المؤتمر العالمي الذي عقد في القاهرة في إبريل / مايو 1995 عن فضيحة بنك الاعتماد الدولي الذي بلغت خسائره 220 مليار دولار كانت تستخدم في غسل الأموال (تجارة المخدرات) وفي عمليات الفساد في بعض الدول حتى أفلس، وقد أعلن رالف لايندير وهو خبير عالمي أن تهريب المخدرات يساهم في حدوث عمليات غسل أموال قيمتها 125 مليار دولار على مستوى العالم تمثل 25 % من قيمة إجمالي عمليات غسل الأموال المرتبطة بالمخدرات فقط البالغة نحو 500 مليار دولار سنوياً، وقال أيضاً: ان نيويورك تعتبر أكبر مركز عالمي لغسل الأموال القذرة، وتنافسها في ذلك لندن، وأشار تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الأمريكي 1992 إلى أن حجم عمليات غسل الأموال بلغ مائة مليار دولار سنوياً، يتم تحويلها إلى أموال مشروعة.

وتقدر بعض المصادر حجم تجارة الرقيق الأبيض (تهريب النساء للدعارة) بـ 3.5 مليار دولار في عام 1994 وأن حجم غسل الأموال الناتجة عن الفساد السياسي الخاص بالرئيس الفلبيني السابق (ماركوس) وزوجته (ايميلدا) بعشرة مليارات من الدولارات، وبلغت قيمة الأموال المهربة في عهد شاه ايران لصالحه وصالح حاشيته إلى عشرين مليار دولار، وجاء في تقرير لوكالة الأنباء الألمانية أن الفساد ينتشر في نيجيريا بدرجة كبيرة، حيث تتسرب مليارات الدولارات إلى الخارج، حتى قدره البعض بـ 20 % من الثروة القومية حيث يلتهمها الفساد، وقد ذكر د. حمدي عبدالعظيم نماذج كثيرة عن الفساد، وتهريب المال والمخدرات في معظم الدول في العالم، ولكنه ركز على مصر فأوضح أن تقدير حجم الاقتصاد غير المشروع في مصر يصل إلى 12.5 % من الناتج المحلي الاجمالي خلال الفترة 1971 — 1988، مضيفاً: أنه في حقيقته يتراوح بين 15.5 % و30 % من الناتج الاجمالي بمصر، وأن حجم عمليات غسل الأموال فيها في حدود 60 % خلال الفترة 1984 — 1998 كما ذكر أن عدد المدمنين في عام 1995 يزيد على مليون مدمن ومتعاط، وأن قيمة المخدرات المتداولة في السوق السرية المهربة تقدر بثلاثة مليارات جنيه سنوياً، وأن عدد المتهمين بقضايا المخدرات قد بلغ في عام 1998 إلى 23000 شخص بنسبة زيادة 35.2 %.

وقد كشف الدكتور محمد عبدالعزيز، الممثل الاقليمي لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والمخدرات ان حجم الأموال المهربة من الدول النامية إلى الخارج يصل إلى تريليون و600 مليار دولار، وان مصر تأتي على رأس الدول النامية في تهريب الأموال للخارج، وأن عدد قضايا الفساد فيها عام 2000 قد بلغ 63.369 قضية تمكنت الأجهزة الحكومية من ضبطها، وهناك آلاف لم تضبط بعد، كما أن نسبة كبيرة من المباني مخالفة للقوانين بسبب هذا الفساد.

وقد نشر البنك الدولي في تقريره السنوي عن التنمية في العالم يعطي صورة سوداوية سيئة لأحوال العالم الثالث، فذكرها في جدول يضم 26 دولة يقارن فيه بين حجم الأموال الهاربة مع نسبة المديونية الخارجية، وصافي التدفق الرأسمالي، فنذكره لأهميته:

( حجم الأموال الهاربة من بعض الدول خلال الفترة 1980 — 1992 بالمليون دولار)

ت اسم الدولة الزيادة في حجم المديونية الخارجية (1) صافي التدفق الرأسمالي (2) حجم الأموال الهاربة (3) = (1) — (2) 3/1 %

1 بنجلاديش 9136 479 8657 94.8

2 الهند 56401 3393 53008 94.0

3 نيجيريا 22025 1375 20650 93.7

4 الصين 64817 10028 54789 84.5

5 اندونيسيا 63441 5523 57918 91.3

6 كوت ديفوار 10552 344 10208 96.7

7 الفلبين 15081 2444 12637 83.8

8 بيرو 10907 198 10709 98.2

9 المغرب 11595 739 10856 93.6

10 اكوادور 6283 ( — )132 6415 102.1

11 بلغاريا 11754 203 11551 98.8

12 كولومبيا 10263 ( —) 917 11180 108.9

13 الجزائر 699 19 6971 99.7

14 تايلاند 31127 1516 29611 95.1

15 تركيا 35649 2363 33286 93.4

16 ايران 9659 2390 7269 75.2

17 روسيا 76418 11401 65017 85.1

18 شيلي 7279 586 6693 91.9

19 البرازيل 50098 3918 46180 92.2

20 ماليزيا 13226 744 12482 94.4

21 فنزويلا 7848 1018 6830 87.0

22 هنغاريا 12136 ( —) 241 12377 102.0

23 المكسيك 56000 ( — )321 56321 100.6

24 الارجنتين 40412 408 40004 99.0

25 كوريا 13519 2924 10595 78.4

26 البرتغال 22317 2832 19485 87.3

فهذا الجدول أوضح لنا حجم التهريب غير المشروع في هذه الدول التي في أشد الحاجة إلى هذه الأموال لاستثمارها فيها، لتنميتها، مع ملاحظة أنها تستقرض أموالاً أخرى من الخارج بفوائد كبيرة بسبب مخاطر الائتمان فيها، وبالتالي فالدولة والشعب والأفراد يخسرون عدة مرات، مرة بالتهريب، ومرة بالاقتراض بفائدة كبيرة، ومرة ببقاء هذه الديون الكبيرة التي قد تؤثر حتى على القرارات السيادية….والله المستعان.