(التكافل الإِسلامي لحماية الورثة وحالات الضعف)
تـمـهـيـد:
مما لا ريب فيه أن جميع الأديان السماوية الحقة تدعو إلى الخير والتعاون، غير أن الإِسلام قد أعطى عناية كبرى للتعاون والتناصر على الحق والخير، والعدل، وحسنتي الدنيا والاخرة، حيث نادى كل مؤمن إلى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ}[1].
ولم يكتف الإِسلام بمجرد الدعوة إلى التعاون والتكافل، بل شرع لأجل تحقيقه مجموعة من الأحكام، فجعل الصدقات المفروضة ركنًا من أركان الإِسلام، وفرض النفقات، والكفارات، والحقوق والالتزامات التي لو طبقت لتحقق التكافل الحقيقي، وأصبح كل فرد يعيش في ظل دولة الإِسلام في أمن وأمان ورفاهية وعيش كريم، إضافة إلى واجبات الدولة المسلمة نحو كل من يعيش في ظلالها، ولكن الإِسلام له منهجه في تقرير الأشياء على ضوء رؤيته لمسيرة الفرد والمجتمع بما يحقق المصالح الحقيقية لهما، ويدرأ عنهما المضار والخبائث والمفاسد، ولذلك يضع الضوابط والقيـود التي قـد تتعـارض في الظـاهر مـع المصالح الموهـومة لكنهـا عنـد
التحقيق وفي المآل ستنكشف الخفايا، ويتبين للجميع أن ما قرره الإِسلام هو الحق.
ومن هنا فإذا نظرنا إلى التأمين كفكرة لتحقيق التعاون، ودفع شرور العوز والحاجة والعجز، ولتفتيت المخاطر بين جماعة فإن هذه الفكرة مقبولة شرعًا، بل مطلوبة، لكننا لو نظرنا إليه من حيث عقوده وصوره العملية الحالية في الفكر الرأسمالي الذي لا يبحث إلا عن تحقيق الربح بأية وسيلة ممكنة دون النظر إلى الحلال والحرام، بل ولا إلى القيم والمثل العليا.
ولذلك على المفكرين والفقهاء وأصحاب المال الإِسلاميين أن يبحثوا ــ وقد بحثوا ــ هذا الموضوع من جانبين:
الجانب الأول: استيعاب عقود التأمين، ثم تبيان ما لا يتفق منها مع المبادىء الإِسلامية، والخوض فيها بعمق مع ملاحظة كل الظروف والملابسات التي تحيط بها، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
الجانب الثاني: إن مبدأ التعاون ما دام مشروعًا، ومطلوبًا في شريعتنا الغراء، علينا جميعًا أن نصيغه صياغة إسلامية، وأن نضعه في إطار عقود ونظم تحقق هذا الغرض المنشود على أكمل وجه، لأن هذه الشريعة ما تركت مصلحة حقيقية إلا وأقرتها، ولا مفسدة إلا وحظرها فهي مصلحة كلها، عدل كلها، رحمة كلها.
وهذا ما تهدف إليه المؤسسات الإِسلامية وبالأخص بيت التمويل الكويتي حيث خصص جزءًا طيبًا من وقت الندوة الفقهية الثالثة لمناقشة فكرة التأمين على الحياة، وكلفني بالبحث فيه، وبعد أن أقرت الفكرة عاد ليطلب مني ــ ومن غيري ــ من المتخصصين في الفقه الإِسلامي والاقتصاد صياغة عقوده وصوره العملية حتى تناقش مع ضوابطها الشرعية في الندوة الفقهية الرابعة التي ستعقد قريبًا بالكويت ــ إن شاء الله ــ.
ومن الجدير بالتنويه به أن الفكر الاقتصادي الإِسلامي قد خطا خطوات عملية حادة نحو التطبيق الشامل، فقد طبقت فكرة البنوك الإِسلامية بنجاح، ونريد لها مزيدًا من التطوير.
وبدأ كذلك تطبيق التأمين الإِسلامي وإعادة التأمين في كثير من مجالاته حتى بلغ عدد شركات التأمين الإِسلامية أكثر من سبع عشرة شركة[2] ونأمل أن تطبق فكرة التأمين على الحياة على ضوء مبدأ التكافل الإِسلامي قريبًا.
هذا وقد بذلنا في هذا البحث ما في وسعنا للوصول إلى عقود وصور عملية للتأمين على الحياة، وسميناه (التكافل الإِسلامي لحماية الورثة وحالات الضعف) ولتوضيح الفروق والضوابط الشرعية لها.
والله أسأل أن يجعل كل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وأن يتقبلها منا بقبول حسن، فهو مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
التعريف بالتأمين على الحياة
تـمـهـيـد:
قبل أن نذكر أحكام التأمين على الحياة علينا أن نعرف به، ونتصوره تصورًا دقيقًا، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وبما أن التأمين على الحياة فرع من فروع التأمين على الأشخاص علينا أن نعرف بإيجاز، وأن نعرفه بأنه قسم قسيم للتأمين من الأضرار.
التعريف بالتأمين على الأشخاص:
يراد بهذا المصطلح: التأمين من الأخطار التي تهدد الشخص في حياته، أو في سلامة أعضائه، أو صحته، أو قدرته على العمل، وبعبارة أخرى يكون خطر المؤمن منه متصلاً بالإِنسان من حيث حياته، أو صحته، أو سلامته[3].
ومن هنا يظهر أن أركانه:
التراضي، والمؤمن، وطالب التأمين، والمستفيد، والمحل الذي هو الخطر المتعلق بإنسان.
وهذا النوع ليس جديدًا، فقد وجد مع عقد التأمين البحري الذي ظهر منذ القرن الخامس عشر الميلادي كمؤسسة منظمة، حيث كانت عقود التأمين البحري تتم لصالح السفينة وشحنتها مضافًا إليهما التأمين على حياة البحارة والقبطان، ثم استقل عقد التأمين على الأشخاص عن التأمين البحري، حيث عثر على بوليصة التأمين على الحياة عام 1583 لصالح ريتشارد مارتن الإِنجليزي لمدة اثني عشر شهرًا[4].
طبيعته:
عقد التأمين على الأشخاص ليس له صفة تعويضية فلا يقصد بهذا النوع من التأمين التعويض عن ضرر سواء كان تأمينًا على الحياة، أو تأمينًا من المرض، أو من الإِصابات أو غير ذلك. ولذلك لا يشترط فيه توافر عنصر المصلحة على عكس التأمين من الأضرار ويتفرع على ذلك ما يأتي:
ــ التزام المؤمن بأي مبلغ للتأمين يذكر في الوثيقة دون النظر إلى أن الضرر الذي لحقه يعادل المبلغ أم لا، وإنما ينظر إلى وقوع الحادث المؤمن منه.
ــ جواز فقد عقود التأمين من خطر واحد والجمع بين مبالغ التأمين الواجبة بهذه العقود.
ــ الجمع بين مبلغ التأمين والتعويض الذي قد يكون مستحقًا للمؤمن عليه.
ــ عدم حلول المؤمن محل المؤمن له في الرجوع على المسؤول وهذا ما نصت عليه المادة (765 مدني القاهرة) على أنه «في التأمين على الحياة لا يكون للمؤمن الذي دفع مبلغ التأمين حق في الحلول محل المؤمن له أو المستفيد في حقوقه قبل من تسبب في الحادث المؤمن منه، أو قبل المسؤول عن هذا الحادث.
وأما أساس هذا التقسيم فيعود إلى الغرض من التأمين بحيث إذا كان الغرض منه تعويض الأضرار المالية التي تلحق ذمة المؤمن له يسمَّى: التأمين من الأضرار ، وكان عقد التأمين عقد تعويض، لأنه يهدف إلى تعويض المؤمن له عما يلحق ذمته المالية من ضرر فقط عند تحقيق خطر معين.
أما إذا كان مبلغ التأمين يدفع عند تحقق الخطر المؤمن منه دون النظر إلى حدوث الضرر كان التأمين على الأشخاص الذي يتعلق بالإِنسان في حياته وصحته ولا يكون التأمين في هذه الحالة عقد تعويض، بل وعدًا بدفع مبلغ التأمين عند حدوث واقعة معينة.
ومن جهة أخرى أن التأمين على الأشخاص يتعلق بشخص المؤمن له، لا بما له، أما التأمين من الأضرار فإن الخطر المؤمن منه هو أمر يتعلق بمال المؤمن له، لا بشخصه.
ويمكن تلخيص الفروق بين هذين النوعين من التأمين فيما يلي:
* ضرورة تحقق الضرر الفعلي في التأمين من الأضرار كما في المادة (751 مدني مصري) حيث تنص على أنه لا يلتزم فيه إلا عن الضرر الناتج من وقوع الخطر.
ولا يشترط ذلك في التأمين على الأشخاص، حيث لا يلزم استحقاق مبلغ التأمين إثبات ضرر معين حيث تنص المادة (754 مدني مصري) على أن المبالغ التي يلتزم المؤمن في التأمين على الحياة بدفعها إلى المؤمن له أو إلى المستفيد عند وقوع الحادث المؤمن منه، أو حول الأجل المنصوص عليه في وثيقة التأمين تصبح مستحقة من وقت وقوع الحادث أو وقت حلول الأجل دون حاجة إلى إثبات ضرر أصاب المؤمن له أو أصاب المستفيد.
* تناسب التعويض مع الضرر في حالة التأمين على الأضرار (مادة 751 مدني مصري، ومادة 800 مدني كويتي)
أما في حالة التأمين على الأشخاص فإن للمستفيد الحق في المطالبة بمبلغ التأمين المتفق عليه كاملاً، كما أنه يجمع بين مبالغ التأمين المستحقة كلها إذا كانت عنده أكثر من وثيقة.
* عدم الجمع بين مبلغ التأمين، ومبلغ التعويض في التأمين من الأضرار، أما في التأمين على الأشخاص فله الحق في الجمع بينهما.
* عـدم الإِمكانية فـي تحديد مقدار مبلغ التأمين من الأضرار مقدمًا في وثيقة التأمين، لأنه يعتمد على وقوع الضرر ومقداره وهذا لا يتحقق إلا بعد تحقق الخطر المؤمن منه، وحينئذ يتحدد مبلغ التأمين بأقل القيمتين: المبلغ المتفق عليه، وقيمة الضرر (مدني 751 مدني مصري، و800 مدني كويتي).
أما في حالة التأمين على الأشخاص فيتحدد مبلغ التأمين مقدمًا في وثيقـة التأمين حسب الاتفاق ولا يجوز تخفيضه حتى ولو ثبت أن الضرر أقل.
* عدم العناية بشخصية المؤمن له في التأمين من الأضرار بينما التأمين على الأشخاص ينظر فيه إلى شخصية المؤمن له من حيث الحالة الصحية والعمر ونحو ذلك.
أنواع التأمين على الأشخاص
ثم إن التأمين على الأشخاص له ثلاثة أنواع:
النوع الأول: التأمين على الحياة ، وهو موضوع بحثنا.
النوع الثاني: التأمين من الإِصابات:
وهو عقد يلتزم بمقتضاه المؤمن في مقابل أقساط التأمين أن يدفع للمؤمن له أو للمستفيد في حالة موت المؤمن له مبلغ التأمين في حالة ما إذا لحقت المؤمن له إصابة بدنية وبأن يرد له مصروفات العلاج والأدوية كلها أو بعضها.
وعادة يختلف مبلغ التأمين باختلاف ما أفضت إليه الإِصابات البدنية حيث قد تفضي إلى موت المؤمن له أو إلى عجزه الدائم عن العمل عجزًا كليًّا أو عجزًا جزئيًّا أو عجزًا مؤقتًا[5].
وهذا النوع لأنه اعتبر من التأمين على الأشخاص لا يخضع لمبدأ التعويض فيما تدفعه شركة التأمين للمؤمن له أو لورثته وفي الوقت نفسه له شبه بالتأمين من الأضرار لذلك يخضع لمبدأ التعويض فيما تدفعه شركة التأمين للمؤمن له من نفقات العلاج لذلك يعتبر تأمينًا مزدوجًا[6].
والخطر المؤمن منه لا بد أن يكون إصابة بدنية كجرح أو بتر عضو أو إزهاق روح وأن تكون غير متعمدة من المؤمن له أو المستفيد وأن تكون بتأثير سبب خارجي مفاجيء وأن تقوم علاقة السببية بين السبب الخارجي المفاجيء والإِصابات البدنية[7].
النوع الثالث: التأمين من المرض:
وهو عقد موجبه يلتزم المؤمن له أقساط التأمين للمؤمن الذي يتعهد في حالة ما إذا مرض المؤمن له في أثناء مدة التأمين بأن يدفع له مبلغًا معينًا دفعة واحدة أو على أقساط وبأن يرد له مصروفات العلاج والأدوية كلها أو بعضها حسب الاتفاق.
وهذا النوع أيضًا مزدوج فهو تأمين على الأشخاص من حيث تعلقه بالمبلغ المعين الذي يدفعه للمؤمن له عند مرضه لأنه يجب دفعه كاملاً بصرف النظر عن مقدار الإِصابة بسبب المرض لكنه في الوقت نفسه تأمين من الأضرار فيما يتعلق برد مصروفات العلاج والأدوية حيث ينظر فيه إلى التعويض.
والخطر المؤمن منه قد يشمل جميع الأمراض وقد يقتصر على الأمراض الجسيمة أو على العمليات الجراحية أو بعض الأمراض دون بعض فإذا أصيب المؤمن له بمرض في أثناء مدة العقد وكان هذا المرض داخلاً في الأمراض المؤمن منها أوجب على المؤمن أن يدفع له مبلغ التأمين إما دفعة واحدة وإما على أقساط حسب الاتفاق، كما يجب عليه رد مصروفات العلاج والأدوية ونحوها حسب الاتفاق[8].
التأمين على الحياة[9] :
هو عقد يلتزم بمقتضاه المؤمن مقابل أقساط بأن يدفع لطالب التأمين أو لشخص ثالث مبلغًا من المال عند موت المؤمن على حياته أو عند بقائه حيًّا مدة معينة[10].
يقول السنهوري: «ومبلغ التأمين إما أن يكون رأس مال يؤدى للدائن دفعة واحدة، وإما أن يكون إيرادًا مرتبًا مدى حياة الدائن»[11].
وللتأمين على الحياة صور كثيرة تزداد يومًا بعد يوم مع تفنن شركات التأمين في إيجاد أنواع كثيرة وحالات مختلفة نذكر منها هنا أربع حالات وهي:
الحالة الأولى: التأمين لحالة الوفاة:
وهو عقد بموجبه يلتزم المؤمن في مقابل أقساط بأن يدفع مبلغ التأمين عند وفاة المؤمن على حياته[12].