تبين لنا أن الذين منعوا المظاهرات السلمية مطلقاً ، أو في بعض البلاد دون بعضها اعتمدوا على أنها بدعة ، أو تَشَبُّه بالكفار ، أو أنها فتنة ، أو أنها تشوبها محظورات شرعية ، وقد قمنا بالرد عليها ، أو تحرير محل النزاع فيها ، حيث بيّنا أن المظاهرات المشروعة في نظرنا هي المظاهرات السلمية الخالية عن المحرمات ضد الظلم والطغيان والفساد التي تأتي بعد نفاذ كل المعالجات والمحاولات من النصح والارشاد ، ولكن دون فائدة ، حيث استنفدت كل المحاولات دون جدوى في الإصلاح والتغيير ، أو أن النظام لا يقبل النصح ، أو أن النصح لا يصل إليه ، وحينئذ يكون الوصول إليه عن طريق صوت الجماعة (المظاهرات) .

 فالمظاهرات هي وسيلة يمكن استعمالها في الخير ، وفي الشر ، فهي معتبرة بمآلاتها ومقاصدها ، وقد أثبتت المظاهرات في تونس ومصر أنها حققت معظم أهدافها ولا سيما في إزالة رأس الظلم والطغيان والفساد السياسي والاجتماعي ، والإداري ، والاقتصادي ، والموالاة مع أعداء الإسلام والمسلمين .

 فقد بذلت محاولات جادة خلال عصر الاستبداد والظلم والطغيان في مصر ، وتونس خلال أكثر من نصف قرن فكان جزاء الناصح السجن والتعذيب ، أو القتل ، والتشريد ، والنفي ، وقد زج بالدعاة في السجون وكم أوذوا ، وكم منهم قتلوا أو أعدموا ؟

 ومع ذلك كان النظام ـ مع ظلمه ـ فاسداً متوغلاً فيه ، أخذ من الأموال العامة ما لا يعد ولا يحصى ، ولم يحقق أي خير يذكر لشعبه ـ لا الرفاهية الدنيوية ولا السماح بالدعوة وإعزاز الشريعة ، ولا الانتصار على الأعداء ، بل كان الدعم والولاء لعدونا الصهيوني حيث وصف حسني مبارك بأنه المنز الاستراتيجي له ـ كما ظهر ذلك أثناء حرب غزة .

 فهل يجوز أن يصمت الشعب ويسكت على كل هذه المظالم والمعاصي والمفاسد ورأس النظام يريد الحكم إلى الموت ، ثم التهيئة لتوريث الابن في نظام جمهوري ، يناقض ذلك في نظري وفي فهمي للشريعة الإسلامية ، شريعة العزة والكرامة شريعة الدفاع عن الحق .

 ان تغيير النظام الظالم بكل الوسائل السلمية المتاحة واجب ، ومن أهمها صناديق الاقتراع ، فهي الواجب الأول لو وجدت ، أما إذا لم توجد ، أو وجدت ولكن هيمن عليها النظام الظالم فزوّرها ، وحينئذ تكون الطريقة المثلى : المظاهرات السلمية الشعبية العامة .

 فلا يجوز شرعاً السكوت عن الظلم والفساد ونحوهما من المحرمات القاطعات ، ولو وجدت تضحيات ، إذْ لا يمكن تحقيق مثل هذا التغيير إلاّ بشيء من التضحيات ولله در الشاعر :

“” وللحرية الحمراء بابٌ * بكل يدٍ مضرجة يُدقّ “”

 

وجوب النصيحة والتغيير :

وذلك لأن هذه الشريعة أوجبت النصح دائماً على المسلمين  جميعاً : من الكبير إلى الصغير ، ومن الصغير إلى الكبير ، فلا يوجد شخص أصغر من أن يَنصح ، ولا شخص أكبر من أن يُنصح فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال : ( لله ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم1 )  .

 ومع النصيحة يجب السعي لتغيير المنكر ( من الظلم والفساد ونحوهما ) بكل الوسائل المتاحة ، ويدل على ذلك مجموعة كبيرة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، فمن الآيات قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)2  ، بل إن الله تعالى لعن جماعة من بني إسرائيل لأنهم لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر فقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)3   ، وقال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ4)  .

الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب التغيير :

 ودلت آيات أخرى بأن العذاب يعم الأمة إذا لم يقم المصلحون بواجبهم ، ولم يغيروا المنكر ، ولم يمنعوا الظلم فقال تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)5 وقال تعالى : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)6  وقال تعالى : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ7)  .

والأحاديث الدالة على وجوب التغيير ، والنصح ، والأمر بالعروف والنهي عن المنكر فكثيرة ، منها 8  قوله صلى الله عليه وسلم :

– عن أبي سعيد الخدري رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال سمعت رَسُول اللَّهِ يقول: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان9) .

 فدل هذا الحديث الشريف على وجوب التغيير حسب القدرات والاستطاعة بما لا يترتب عليه مفاسد أكبر ، ومن المعلوم أن المظاهرات السلمية وسيلة فعالة للتغيير فتدخل في الوسائل المعتبرة .

– وعن ابن مسعود رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّهِ قال: (ما من نبي بعثه اللَّه في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل10) .

 فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بجهاد هؤلاء بكل الوسائل المتاحة ، ونفى الإيمان الكامل عمن لم يقم به ، وفي ضوء هذا الحديث فإن وسائل التغيير لم يحددها ، بل طالب بجهاد هؤلاء الذين لا يطبقون شرع الله تعالى ، ولا يقتدون بسنة رسوله ، وبالتالي فإن المظاهرات السلمية تدخل ضمن الوسائل المعتبرة .

– وعن النعمان بن بشير رَضِيِ اللَّهُ عَنْهماُ عن النبي قال: (مثل القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم؛ فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا11) .

 فهذا الحديث من جوامع الكلم حيث جعل المسؤولية جماعية تضامنية ، وأوجب منع الظلم والاعتداء والاضرار ، وكل المفاسد بكل الوسائل المتاحة .

–  وعن حذيفة رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اللَّه أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم12) .

 فالحديث واضح في وجوب أن تكون المة حيّة واعية قادرة على التغيير .

13وعن أبي سعيد الخدري رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي قال: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) .

14 وعن أبي عبد اللَّه طارق بن شهاب البجلي الأحمسي رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ أن رجلاً سأل النبي وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل قال: (كلمة حق عند سلطان جائر) .

وجه الاستدلال بهذا الحديث وما قبله واضح ، وفيهما الرد من ذكر أن المظاهرات قد يترتب عليها إيذاء المتظاهرين بالقتل ونحوه .

– وعن ابن مسعود رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ  : ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق اللَّه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب اللَّه قلوب بعضهم ببعض) ثم قال: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون؛ ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا؛ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} إلى قوله {فاسقون} 15  ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن اللَّه بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم16)  .

فهذا الحديث الشريف منع منعاً مطلقاً أن نترك الظالم ، أو العاصي الفاجر يمرح دون منعه ، وإلاّ فتكون النتيجة ما حصل لبني اسرائيل ، وما ذكره الرسول صلى الله عليه في آخر الحديث .

– وعن أبي بكر الصديق رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال: يا أيها الناس إنكم لتقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}17   وإني سمعت رَسُول اللَّهِ يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللَّه بعقاب منه18) .

وهذا الحديث واضح في معناه .

فهذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي ذكرناها ـ وما لم نذكره أكثر ـ تدل بوضوح على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوب التغيير ، ومنع الظلم والبغي ، وأن الأمة هي المخاطبة في مجموعها ، ولذلك يصبح ذلك فرض كفاية عليها ، وأنها إذا تركته فقد أثمت ، وإذا قام بها البعض سقط الاثم عن الآخرين .

 كما دلت على أن الأمة لا يجوز لها التخلي عن هذه الواجبات مهما كانت الظروف ، واشتد الخوف فيجب التبليغ والبيان والتغيير فقال تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) 19 ، وفي سبيل تحقيق هذه الفريضة في منع الظلمة المستبدين الفاسدين عن الظلم والفساد والفسق والفجور فإن أمام الأمة الإسلامية الخيارات الآتية ، حسب النصوص الشرعية :

(1) الخَيَار الأول : التغيير باليد ، وهذا يعني حمل السلاح ، والتمرد على الدولة ، وهذا غير جائز بنصوص كثيرة من السنة النبوية المشرفة إلاّ إذا ظهر من الحاكم كفر بواح لا شك فيه ، وهذا غير متحقق في ظاهر حكام المسلمين اليوم .

 وبالتالي فهذا الخيار مستثنى عن عموم النصوص السابقة ، بل إن التغيير باليد هو من واجب الدولة المسلمة .

(2) الخَيَار الثاني : النصح والارشاد ، وهذا مطلوب بلا شك بإجماع العلماء ، يقول ابن رجب : ( وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ، ورشدهم ، وعدلهم ، ووجوب إعزازهم في طاعة الله ، ومعاونتهم على الحق وتذكيرهم به ، وتنبيههم في رفق ولطف ولين …. )20  وكان الحسن البصري يقول : ( لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للإمام ) .

  والخلاصة أن النصيحة واجبة ما دامت ممكنة ، وما دام الحكام يسمعون ، ولكن الحكام الظلمة المستبدين اليوم قد أحاطوا أنفسهم بحجب وأستار وحراسات ، وقصور لا يصل إليهم في الغالب إلاّ مَنْ  له حظوة عندهم ، أو له مصالح معهم ، فلا يسمحون بالعلماء الناصحين أن يصلوا إليهم ، ولو وصلوا إليهم لما سمحوا لهم أو لم يسمح لهم المنافقون حولهم إلاّ بكلمات المدح والثناء والاطراء ، ولو سمح لهم بذلك لما استمتعوا إلى أقوالهم ، ولم ينفذوا ما طلب منهم .

والدليل على ذلك أن هؤلاء المستبدين الذين حكموا البلاد والعباد سنوات طويلة ازدادوا ظلماً وطغياناً ، ولم يتعظوا بما حدث لأمثالهم على مرّ التأريخ .

 وكل مسلم يتمنى أن يكون الحاكم عادلاً صالحاً يسوس البلاد سياسة حكيمة محققة الخير للجميع ، لكن هذا لم يتحقق في ظل هؤلاء المستبدين .

(3) الخَيَار الثالث : السكوت ، والرضا بالواقع السيء والظلم البيّن ، والبغي الظاهر… ، والسكوت على مستوى الأمة والعلماء ، أو الشعب غير جائز شرعاً ؛ لأن ( الساكت عن الحق شيطان أخرس ) للأدلة السابقة.

 ثم إن هؤلاء الشعوب الإسلامية والعربية قد سكتت سنوات طويلة فكانت النتيجة : المزيد من الظلم والطغيان والفساد ، وافقار الشعوب ، وإذلالهم ، فلم يحققوا لهم السعادة في الدنيا من الغنى والرفاهية ، ولا سمحوا لهم بالحرية الدينية والدعوة إلى الله تعالى ، بل فتنوهم في دينهم ، وقتلوا منهم من قتل ، وسجنوا منهم من سجن….. ، ولا حققوا لهم انتصارات على الأعداء ، فهؤلاء الصهاينة قد تمددوا في ظل حكم هؤلاء المستبدين ، فهزموا الجيوش العربية في حزيران 1967 ، واحتلوا القدس والضفة ، وغزة ، وسيناء وجولان وغيرها .

 فهل يجوز القول بالسكوت درءاً للمصلحة ودرءاً للمفسدة ، وهل هناك مفاسد أكبر مما فعل هؤلاء بشعوبهم ، وهل هناك مضار أعظم مما فعلوا بهم من القتل والافقار ، والتعذيب ، والتشريد …. ؟ .

 وإذا كنا نمنع التمرد المسلح إلاّ بشروطه فلا يبقى إلاّ خيار الثورات الشعبية العارمة التي يعد لها الإعداد الجيد من خلال المظاهرات السلمية التي شهدناها في تونس ومصر ، وغيرهما ، وأن كل من يُقتل في سبيل نصرة الحق وازهاق الباطل فهو شهيد بإذن الله ، كما ورد بذلك أحاديث ثابتة .

والخلاصة أن هذه المظاهرات أو الثورات السلمية ، وسائل لتغيير المنكر ، وإزهاق الباطل والظلم ، وقد حققت أهدافها حتى ولو كانت لها تضحيات ، وبما أنها سلمية مشروعة ، وأن مآلاتها إلى الخير ، وأن مقاصدها أيضاً مشروعة بل مطلوبة شرعاً ، فتكون مشروعة بل مطلوبة شرعاً بالضوابط التي ذكرناها ، علماً بأن ما حدث لبعض الثورات مثل ليبيا من حمل السلاح من باب الدفاع عن النفس ، ولم يُغير طبيعة ( السلمية ) .

 ومن جانب آخر فإن للأمة الحق في الاعتراض على حكامها مهما كانوا إذا رأوا منهم ظلماً وجوراً ، او معصية ، أو مخالفة ولو في نظرهم ، كما أن لهم الحق في الاستفسار عن تصرفات الحاكم مهما بلغ ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأتيه بعض الناس ويقولون : ( اعدل ) فلا يعترض ، بل يوضح لهم الحق والعدل21  .

الأدلة الخاصة :

وبالإضافة إلى الأدلة العامة فهناك بعض الأدلة الخاصة التي يُفهم منها صراحة مشروعية المظاهرات السلمية للتعبير عن الرضا ، أو الرفض لبعض الأمور ، منها :

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، الذي رواه أبو داود في سننه ، وابن حبان في صحيحه بسندهما : ( أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إن لي جاراً يؤذيني ، فقال له : اصبر ـ ثلاثاً ـ فكرر عليه ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( انطلق فاطرح متاعك في الطريق ) ، فأخرج متاعه في الطريق ، فاجتمع الناس عليه ، فقالوا : ما شأنك ؟ قال : لي جار يؤذيني ، فذكر القضية ، فجعلوا يقولون : لعنه الله ، فجاءه جاره فقال له : ارجع إلى منزلك فوالله لا أوذيك أبداً22 )  .

 وجه الاستدلال بالحديث واضح ، حيث يدل على أن تغيير المنكر قد تحقق من خلال وسيلة جديدة رادعة ، أشبه ما تكون بمظاهرة سلمية صغيرة ، ولكن فيها الدعاء على المؤذي ـ كما هو الحال اليوم ـ فأثرت هذه الوسيلة على المؤذي ، فامتنع عن أذاه .

2- حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، الذي رواه أو داود ، وابن ماجه ، والنسائي والحاكم ، وابن حبان ، وعبدالرزاق بسندهم عن عبدالله بن عمر قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تضربوا إماء الله) فجاء عمر فقال : يا رسول الله : قد ذئر النساء ( أي  اجترأ ) النساء على أزواجهن .

فرخص الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فلما أصبح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد طاف البارحة بآل محمد سبعون امرأة ، كل امرأة تشتكي زوجها ) ثم قال : ( فلا تجدون أولئك خياركم ) وفي رواية ( ولن يضرب خياركم23 )   .   

وجه الاستدلال : أن ما فعتله هؤلاء النسوة من مظاهرة ضد ضرب الرجال ، وقد أقرهُنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بل وقف معهنّ وأيدّ مطالبهنّ بأن الذي الذي يضرب ليس من الخيار ، دليل واضح على مشروعية المظاهرة للتعبير عن رفض بعض الأمور حتى ولو لم تكن من المحرمات .

 يقول الدكتور سعود النفيسيان : ( فإذا كان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرجن جماعات أو فرادى  في ليلة واحدة يشتكين ضرر أزواجهن أليست هذه هي مظاهرة سلمية؟!  فما الفرق بين هذا لو  خرج اليوم أو غدا مثل هذا العدد أو أقل أو أكثر أمام وزارة الداخلية، أوزارة العدل، أو المحكمة الشرعية،  أو دار الإفتاء، يطالبن بتوظيفهن أو رفع ظلم أوليائهن أولئك الذين يمنعونهن  من الزواج أو خرجن يطالبن بإطلاق أولادهن أو أزواجهن الذين طال سجنهم مع انتهاء مدة الإحكام الصادرة بحقهم أو لم يحاكموا أصلا !! وإذا جاز هذا للنساء كما جرى في عهد النبوة  فما الذي يمنعه في حق الرجال قولوا الحق يا رعاكم الله!!؟24 ) .

 وبناء على ذلك فقد روي أنه سُئل الإمام أحمد عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال : (يأمره ، قلت فإن لم يقبل؟ قال: تجمّع عليه الجيران وتهوّل عليه لعل الناس يجتمعون ويشهرون به25)  .

3 ـ وبالإضافة إلى ما سبق فقد روى أبو نعيم في الحلية حول خروج الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة في صفين عندما أسلم عمر ، وحمزة رضي الله عنهما ، حيث قال عمر :     ( يا رسول الله : ألسنا على الحق إن متنا وأن حيينا ، قال : ( بلى ) قلت : ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجنّ ) فأخرجناه في صفّين ، حمزة في أحدهما ، وأنا في الآخر له كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد ، قال فنظرت إلى قريش … فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها…. ) .

فهذا يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق المظاهرة مشروع .

وقد نوقش هذا الدليل بأنه ضعيف من حيث السند ، حيث ضعّفه الألباني وغيره26  ، ولكن القصة لها أصل يمكن الاستناد عليه27 ، بالإضافة إلى أن مثل هذه الآثار تقبل للاستئناس .

دور المظاهرات في الضغط الإعلامي على الحكام :

إن للمظاهرات دوراً كبيراً وضغطاً إعلامياً عظيماً على الحكام المستبدين إقليمياً ودولياً ، وتأثيراً خطيراً عليهم لا يتحقق بدون التظاهرة ، وتحقيق المطالب المشروعة للشعب ، أو لأي مجموعة تطالب بحقوقها المشروعة أمام الشركات والمؤسسات .


نماذج من تأريخنا :

وإذا قرأنا تأريخ أمتنا الإسلامية وعلمائها فنجدهم أنه لم يقبلوا بالظلم والفسق والفساد والفجور من الحكام ، فقد قامت ثورات مسلحة ، وسلمية ضد الظلم والفساد منذ ثورة عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما ، وثورة سيد الشهداء الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وثورات كثيرة حدثت ضد السلاطين والملوك ، فعندما احتل الصليبيون ثار المسلمون ضد عجز الخلافة في بغداد ، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد مستنفرين على الفرنج ، فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء فقصدوا جامع السلطان ، فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد ، ولكنهم بقوا متظاهرين منتظرين ذلك ، فلما أتت الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة ، ومعهم أهل بغداد ، فمنعهم حاجب الباب فغلبوه ، ودخلوا الجامع وكسروا شباك المقصورة28  ، وقد كَتَبْتُ على هذه الحادثة في عام 1980م فَقُلْتُ : ( فكانت هذه الأعمال من هؤلاء ، ومعهم الفقهاء إعلاناً للحرب على الحكام المنشغلين عن أمور المسلمين ، والملتهين بالحفاظ على كراسيهم دون أدنى اهتمام بالجهاد وما تعانيه الشعوب الإسلامية …. فكان شعار هؤلاء : الإسلام واحد لا يتجزأ فكما أن الجمعة فرض عين فكذلك الجهاد فرض عين إن احتل شر واحد من أراضي الإسلام ، فكيف وقد احتل أولى القبلتين ؟ )29  ، وقد روى المؤرخون : أن أهل قرطبة ثاروا على الوالي المرابطي بسبب اعتداء أحد جنوده على امرأة من أهل قرطبة ، فخعلوا بيعة المرابطين ، وأقاموا حكماً جماعياً جعلوا على رأسه ابن حمدين سنة 539هـ ، ثم ما لبث هو الآخر أن طغى واستبد بالأمر ، وتَسَمّى بأمير المسلمين ، وناصر الدين ، فثار عليه أهل قرطبة أيضاً30  .

هذا ما شرح الله به صدري ، سائلاً الله تعالى أن يكون مقبولاً عنده ، وأن يغفر لي عن الخطأ والزلل .

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

———————————————————————————–

(1)  رواه مسلم الحديث 1896
(2) سورة آل عمران / الآية 104
(3) سورة المائدة / الآية 78-79
(4)سورة هود / الآية 113
(5)  سورة الكهف / الآية 59
(6)  سورة الإسراء / الآية 16
(7)  سورة هود / الآية 117
(8) يراجع : رياض الصالحين للإمام أبي زكريا النووي ، تحقيق شعيب الأرناؤوط ، ط. المكتب الثقافي السعودي بالمغرب 1419هـ ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 93-97
(9) رواه مسلم (49 ) وأخرجه أبو داود 1140 و 4340 ، والترمذي 2173 ، والنسائي ( 8/111) ، وابن ماجه 4013
(10) رواه مسلم ( 50 )
(11) رواه البخاري (13/ 5 ، 6 ، 167 ) ومسلم 1709 ( 3/1470) وأخرجه النسائي (7/137 ، 138 ) وابن ماجه 2866
(12) رواه الترمذي 2170 ، وفي سنده عبدالله بن عبدالرحمن الأنصاري الراوي عن حذيفة لم يوثقه غير ابن حبان ، لكن شاهد من حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط ، وآخر عن أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط أيضاً ، ينظر : مجمع الزوائد (7/266)
(13) رواه الترمذي 2175 ، وأخرجه أبو داود 4344 ، وابن ماجه 4011 ، وفي سنده عطية العوفي وهو ضعيف ، لكن الحديث قوي بحديث طارق بن شهاب الآتي ، وبحديث أبي أمامة عند أحمد (5/251 ، 256 ) وابن ماجه 4015 وسنده حسن
(14) رواه النسائي (7/161) ورجاله ثقات ، وحسنه المذنري في الترغيب والترهيب (3/168)
(15)  سورة المائدة / الآية 78، 79، 80، 81
(16) رواه أبو داود 4336 ، والترمذي 3050 ، وأخرجه ابن ماجه 4006 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ، فغن راويه عن ابن مسعود ولده أبو عبيدة وهو لم يسمع من أبيه
(17)  سورة المائدة /الآية 105
(18) رواه أبو داود 4338 ، والترمذي 2169 ، وأخرجه أحمد ( 1/2) وابن ماجه 4005 ، وإسناده صحيح ، وصححه ابن حبان 1837
(19) سورة الأحزاب /الآية 39
(20) جامع العلوم والحكم ( 1/ 222 )
(21) يراجع في ذلك : صحيح البخاري ، مع فتح الباري ، الحديث 6933 ، ومسلم ، الحديث 1064
(22) يراجع : صحيح الموارد ، الحديث 1726 ، وقال الألباني : حسن صحيح ، سنن أبي داود ، الحديث 5153
(23) سنن أبي داود ( 2/245) وابن ماجه (2/366) والنسائي في السنن الكبرى (5/371) والبيهقي في السنن الكبرى (30417)  والحاكم في المستدرك (2/188) وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وابن حبان في صحيحه (9/499) وعبدالرزاق في مصنفه (2/442) ، وذكره الألباني في صحيح ابن ماجه ، الحديث 1628
(24) ورقته المنشورة في موقع الفقه الإسلامي
(25) يراجع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال ص 117
(26)  سلسلة الأحاديث الضعيفة ، الحديث رقم 6531
(27) يراجع لإسلام عمر : السيرة النبوية الصحيحة لأستاذنا : د. أكرم العمري ، ط. قطر ( 1/ 177 – 181 )
(28) الكامل (8/261)
(29) مقدمتنا لكتاب الوسيط للإمام الغزالي (1/62)
(30) الدكتور محمد الجابري : ابن رشد  سيرة وفكر ، نشر مركز دراسات الوحدة العربية ص 26