الإجارة لغة :
اسم للأجرة ، وهي الأجر ، ونقل المبرد أنه يقال : آجر إيجاراً ، وإجارة ، فعلى ضوء ذلك فهي مصدر ، وأصلها من أجر الشيء ، أي : أكراه ، وفلاناً على كذا ، أي : أعطاه أجر ، وفي التنزيل العزيز : ( …. على أن تأجرني ثمني حجج …) أي تكون أجيراً لي ، ويستعمل لفظ الإجارة بمعنى الأجر على العمل ، ويستعمل في العقد الذي يرد على المنافع بعوض ، والأفصح فيها كسر الهمزة ، وجاز فيها الضم والكسر قال بعض العلماء : إنه غلب وضع الفِعالة ( بالكسر ) للصنائع نحو الصِناعة والخِياطة ، والفَعالة (بالفتح) لأخلاق النفوس الجبليّة نحو السمّاحة ، والشّجاعة ، و( بالضم ) للمحتقرات كالكُناسة والنّخالة .
الاجارة في اصطلاح الفقهاء :
عرفها الحنفية بأنها : عقد على المنافع بعوض ، وعرفها بعضهم بأنها : تمليك يقع بعوض ، وجاء في الذخيرة : ( هي بيع المنافع ) ، وقال الحطاب : ( وقال في اللباب : حقيقتها : تمليك منفعة معلومة زمناً معلوماً بعوض معلوم ….. ، وقول القاضي : معاوضة على منافع الأعيان ؛ لا يخفى بطلان طرده …. ) .
وعرفها الشافعية بأنها تمليك المنفعة بعوض .
وعرفها الحنابلة بأنها بيع المنافع ، وجاء في منتهى الارادات : ( الإجارة شرعاً عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معلومة من عي معينة ، أو موصوفة في الذمة ، أو على عمل معلوم بعوض معلوم … ) .
ويفهم من كلام ابن حزم الظاهري أن الإجارة عقد وارد على منفعة مل شيء له منفعة ولا يستهلك عينه .
وهذه التعاريف متقاربة من حيث النتيجة ، إلاّ أن التعريف الأخير مفصل أكثر من غيره ، ومبين فيه عناصر الإجارة الأساسية .
والإكراء ، والكراء في اللغة وعند جمهور الفقهاء بمعنى الإجارة غير أن المالكية فرقوا بين الإجارة والكراء فخصصوا تمليك منفعة الآدمي باسم الإجارة ، ومنافع الممتلكات باسم الكراء ـ سموا العقد على منافع ما لا ينقل كالأرض والدور وما ينقل من سفينة وحيوان كالرواحل كراء ـ ، لكن بعضهم قد يستعمل الإجارة بمعنى الكراء وبالعكس عن طريق المجاز .
ولا تختلف الإجارة في القانون كثيراً عما ذكره الفقه الإسلامي ، حيث نصت المادة 558 من القانون المدني المصري بأنها : (عقد يلتزم المؤجر بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم) .
بل استعمل القانون المدني العراقي التعريف الفقهي فنصت المادة ( 722) على أن : (الإيجار تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم لمدة معلومة ، وبه يلتزم المؤجر أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالمأجور ) .
ويطابق تعريفه في القانون المدني السوري في مادته ( 526) وفي القانون المدني الليبي في مادته ( 557 ) ما ذكره القانون المصري السابق .
مشروعية عقد الإجارة:
يدل على مشروعية الإجارة على الأشخاص الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة والاجماع ، والمصالح :
أولاً ـ الكتاب :
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أن جميع الآيات الواردة في شأن الإجارة تخص الإجارة على الأشخاص والعمل ، وهي :
1ـ قوله تعالى : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وجه الاستدلال بهذه الآية واضح ، وهو أن الله تعالى أمر إعطاء الأجر للمرضعة على عمل الرضاعة ، وهذا يدل على مشروعية ذلك ، ووجوب الالتزام بدفع الأجر في مقابل العمل في الإجارة ، يقول الإمام الشافعي : ( فأجاز الإجارة على الرضاع ، والرضاع يختلف لكثرة رضاع المولود وقلته ، وكثرة اللبن وقلته ، ولكن لما لم يوجد فيه إلاّ هذا جازت الإجارة عليه ، وإذا جازت عليه جازت على مثله ، وما هو في مثل معناه ، وأحرى أن يكون أبين منه …. ) .
ويقول أيضاً في تفسير الآية السابقة : ( ففي كتاب الله عزوجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان : أن الإجارات جائزة على ما يعرف الناس ، إذ قال : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) والرضاع يختلف : فيكون صبيّ أكثر رضاعاً من صبيّ ، وتكون امرأة أكثر لبناً من امرأة ، ويختلف لبنها فيقلّ ويكثر ، فتجوز الإجارات على هذا ، لأنه لا يوجد فيه أقرب مما يحيط العلم به : من هذا …. ) .
2ـ قوله تعالى : ( وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) فهذه الآية الكريمة تدل على رفع الحرج والجناح على من يستأجر امرأة لارضاع ولده بالأجر ، قال سفيان : (( إذا سلمتم إلى المسترضعة ( وهي الظئر) أجرها بالمعروف)) ، وفي ذلك دليل على مشروعية إجارة الأشخاص .
3ـ قوله تعالى : ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) والمراد بقوله تعالى ( سخرياً ) أي مسخراً بعضكم لبعض بالعمل والخدمة ، قال الرازي : ( أي : إنا فعلنا ذلك لأننا لو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحداً ، ولم يصر أحد منهم مسخراً لغيره ، وحينئذ يفضى ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدنيا ) فهذه الآية تشير إلى أهمية الإجارة ونحوها في تعمير الأرض ، وتحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض .
4ـ قوله تعالى : ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) فهذه الآية واضحة أيضاً في الدلالة على جواز الاستئجار على العمل ، وذلك لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، وعقد البخاري باباً خاصاً ترجم له : باب إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ، ولم يبين له العمل لقوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) .
يقول الحافظ ابن حجر : ( وقد احتج الشافعي بهذه الآية على مشروعية الإجارة ) وقال البيهقي : ( قال الشافعي : فذكر الله أن نبياً من أنبيائه أجر نفسه حججاً مسماة ملك بها بضع امرأة ، فدل على تجويز الإجارة ) .
5ـ قوله تعالى في قضية موسى مع عبدالله ( الخضر ) : ( …… قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) حيث يدل بوضوح على جواز أخذ الأجر على العمل ، وبالتالي مشروعية الإجارة ،وهذا يدخل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ .
وقد ترجم البخاري لهذه الآية فقال : ( باب إذا استأجر أجيراً على أن يقيم حائطاًَ يريد أن ينقض ، جاز ) ثم روى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني أبيّ بن كعب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فانطلقا فوجدا جداراً يريد أن ينقض) قال سعيد بيده هكذا ، ورفع يده فاستقام …. ( لو شئت لاتخذت عليه أجراً ) قال سعيد : أجرنا كله) .
ثانياً ـ السنة النبوية المشرفة :
هناك أحاديث كثيرة تدل على جواز الإجارة ، حتى عقد البخاري كتاباً سماه : كتاب الإجارة ، تضمن 22 باباً ، واشتمل على ثلاثين حديثاً مرفوعاً ، المعلق منها خمسة ، والبقية موصولة ، ووافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في رعي الغنم ، وحديث ( المسلمون عند شروطهم) وحديث ابن عباس : ( أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) وحديث ابن عمر في النهي عن عسب الفحل ، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ثمانية عشر أثراً .
وقد بدأ البخاري رحمه الله بباب : استئجار الرجل الصالح ، ثم باب : رعي الغنم على قراريط ، وباب : استئجار المشركين عند الضرورة او إذا لم يوجد أهل الإسلام ، وباب : إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام ، أو بعد شهر ، أو بعد سنة ، جاز ، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل ، وباب : الأجير في الغزو ، وباب : إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ، ولم يبين العمل ، وهكذا .
وخصص كذلك أبو داود كتاباً للإجارة ، فبدأه بباب : في كسب المعلم ، وباب في كسب الأطباء ، وباب في كسب الحجام ….. ، كما أن بقية كتب السنة المشرفة لم تغفل الأحاديث الوارد في الإجارة إما ضمن كتاب البيوع ، أو نحوه .
ونحن هنا نذكر بعض الأحاديث الخاصة الدالة على مشروعية الإجارة على الأشخاص منها :
1ـ حديث عائشة رضي الله عنها في قضية الهجرة ، حيث قالت : ( واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبوبكر رجلاً من بني الدّيل ( اسم قبيلته ) هادياً خريتاً ( أي ماهراً ) وهو على دين كفار قريش… ) .
2ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة :…… ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) .
3ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما بعث الله نبياً إلاّ رعى الغنم ، فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال : نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) .
4ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله …… ) وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بشأن الرقية في مقابل قطيع من الغنم .
5ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره) ، حيث يدل بوضوح على إجارة الأشخاص حتى ولو كانت الإجارة حجامة .
6ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه) .
ثالثاً ـ الاجماع :
وقد انعقد على جواز الإجارة الاجماع في عهد الصحابة ، والتابعين ، وأصحاب المذاهب المعتبرة إلاّ ما روى عن بعض المتأخرين كأبي بكر الأصم ، وابن عليّة حيث قالا بعدم جوازها لما فيها من غرر ، وهو خلاف جاء بعد الاجماع فلا يعتدّ به ، قال الكاساني الحنفي : ( وأما الاجماع فإن الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم ، حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير ، فلا يعبأ بخلافه إذ هو خلاف الاجماع ) .
رابعاً ـ المصالح المعتبرة :
لا شك أن جواز الإجارة تحقق مصالح كثيرة للمؤجر والمستأجر وللمجتمع ، حيث الحاجة ماسة إلى مشروعيتها ، وأن مع منعها يترتب عليه حرج شديد يتنافى مع مقاصد الشريعة في رفع الحرج ، حيث يقول الله تعالى : )َ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وقال تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .
فالناس محتاجون إلى المنافع كحاجتهم إلى الأعيان ، فالفقير محتاج إلى مال الغني والغني محتاج إلى عمل الفقير بل المسألة أشمل من الغني والفقير ، فالمجتمع بصورة عامة محتاج إلى تبادل بين الأموال والأعمال والمنافع ، وهذا لا يتحقق إلاّ من خلال عقد الإجارة بنوعيه الواردين على الأعيان والأشخاص .