المقصود بالسلف هم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية[1] ؛ اعتماداً على حديث عبدالله بن مسعود في الصحيحين : (خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم….)[2] وقد بيّن العلماء أن الخيرية تعود إلى القرب من ينبوع النبوة وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والصفاء والنقاء .


 وشاء الله تعالى أن يتكامل أصول الفقه للمذاهب الفقهية ، وللفكر في هذه القرون وأن يكون أئمة الفقه في هذه العصور الثلاثة ، وأن تتقدم الأمة ، وتتحقق الحضارة العظيمة لهم خلال هذه القرون الثلاثة ، فأصبحت الأمة خلال القرون الثلاثة الأولى أمة قوية البنيان مرعوبة الجانب ، متقدمة في العلوم والثقافة والفنون حققت أعظم حضارة في وقت قصير ، وغدت رائدة العالم وقائدته ، وتطور السلف خلال القرون الثلاثة أكثر مما تطور الخلف في عصورهم الطويلة[3] ، وتطور الفقه الإسلامي النظري والعملي تطوراً عظيماً حيث استطاع أن يستوعب كل الحضارات والأفكار من خلال صياغتها بما يتفق ومبادئ الإسلام وقواعده وأحكامه ، فلم يعجز عن إيجاد أي حل فقهي لأية مسألة أو نازلة فهي كانت درجة حداثتها وتعقيدها ، كما استطاع الفكر الإسلامي أن يبقى صامداً بثوابته ، وأن يتطور من خلال البناء والرد على كل الأفكار المخالفة والزندقة ، والسفسطه ، مستعيناً بالنقل الصحيح والعقل السليم للوصول إلى القناعة الكاملة والاطمئنان التام ، والأخذ بعنق النصوص وليها في سبيل دعم رأي معين .


 ومن جانب آخر فإن القرون الثلاثة كانت تتسم بالبساطة واليسر في المسائل الفقهية ، فكان منهجها قائماً على فقه التيسير المؤهل ـ بل كما يقول شيخنا القرضاوي ـ كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة الميسرين في الأحكام ، والمبشرين في الدعوة إلى الله ، (فما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثماً)[4] ثم سار الصحابة والتابعون على هذا المنهج ، وبالأخص الخلفاء الراشدون ، ولكن كلما جاء جيل بعدهم أخذ بالأحوط ، فالأحوط ، حتى تجمعت لدينا مجموعة كبيرة من الأحوطيات[5] .


 وقد أثبت فضيلة الدكتور البوطي أن السلف تطوروا في عهدهم القصير أكثر مما تطور الخلف في عصورهم الطويلة ، وأنهم التزموا بالثوابت واختلفوا في غيرها ، لذلك اختلفت فتاواهم حتى في المناهج ، فكان منها ما كانت أقرب إلى الانضباط الحرفي بالنصوص الثابتة في الكتاب والسنة ، ومنها ما كانت أقرب إلى الاعتماد الأكثر على الرأس والاجتهاد إضافة إلى أن دائرة الاجتهاد تتسع كلما كثرت المستجدات والنوازل وذلك بعد أن حكم الإسلام بلاد الفرس والرومان وما كانت تفوز به من مظاهر المدنية والحضارة ، وما تنطوي عليه من أصول المعايش والأنظمة والعادات الغربية[6] .


 ولأجل فقه الصحابة والتابعين بالثوابت والمتغيرات لم تكن مسألة تكفير المختلفين شائعة عندهم ، فقد خرجت جماعة من جيش الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ عليه وكفروه ؛ لأنه احتكم إلى الحكمين في معركة صفين ، ومع ذلك لم يحكم علي ـ كرم الله وجهه ـ ولا صحبه بكفر هؤلاء الخوارج[7] بل جعل لهم أحكاماً خاصة بالقتال تسمى أحكام البغاة[8] .ومن جانب آخر فقد ظهرت من الفرق والجماعات مثل المعتزلة (بجميع فرقها التي تزيد على عشر) والجبيرية بفرقها ، والخوارج بفرقها الكثيرة ، والمرجئة وصنوفها الكثيرة ، والشيعة وفرقهم المتعددة[9] ، فإن علماء السلف كما فتحوا باب الرأي لحل المشكلات فتحوا أبواب النقاش والحجاج ومجادلة المبطلين والمرتابين بالأساليب والموازين التي يعرفونها كمال قال علي رضي الله عنه : (كلموا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ،أتريدون أن يكذب الله ورسوله)[10] .



 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1])) يراجع :لتفسير القرون : فتح الباري (7/3 –7) ود.محمد سعيد رمضان البوطي :السلفية مرحلة رمنية مباركة ، لا مذهب إسلامي ، ط. دار الفكر بدمشق ص 9


[2])) صحيح البخاري مع الفتح (7/3)


[3])) د. البوطي : المرجع السابق ص 9


[4])) الحديث رواه البخاري ـ مع الفتح ـ (10/524) ومسلم (4/1813)


[5])) كلمة فضيلته في افتتاح الدورة العاشرة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث في الفترة 24 –27 /1/2003


[6])) د. البوطي : السلفية مرحلة زمنية مباركة ، لا مذهب إسلامي ص 32- 84


[7])) الملل والنحل للشهرستاني (ت548هـ) ط.مصطفى الحلبي بالقاهرة (1/00114) والكامل للمبرد ،ط.الحلبي (3/919) وناصر السابعي: الخوارج والحقيقة الغائبة ط.عمان ص 139-188 ويراجع:د. نعمان السامرائي ط المنارة:التكفير ص 27


[8])) يراجع : كتاب البغاة في كتب المذاهب الفقهية ، ومصطلح (البغي) في الموسوعة الفقهية الكويتية


[9])) الملل والنحل للشهرستاني (1/43 –186 )


[10])) يراجع:د. البوطي : السلفية مرحلة زمنية مباركة ، لا مذهب إسلامي ص 25 ، وأثر علي رواه البخاري موقوفاً عليه .



 اعلى الصفحة