الثبات والتغير أو التطور عند السلف :

المقصود بالسلف هم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية[54] ؛ اعتماداً على حديث عبدالله بن مسعود في الصحيحين : (خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم….)[55] وقد بيّن العلماء أن الخيرية تعود إلى القرب من ينبوع النبوة وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والصفاء والنقاء ، فالسلف ليس مذهباً معيناً ، ولا حكراً على فئة معينة ، وإنما أهل السلف هم أهل المذاهب والآراء المعتمدة في إطار الكتاب والسنة.

وشاء الله تعالى أن يتكامل أصول الفقه للمذاهب الفقهية ، وللفكر في هذه القرون وأن يكون أئمة الفقه في هذه العصور الثلاثة ، وأن تتقدم الأمة ، وتتحقق الحضارة العظيمة لهم خلال هذه القرون الثلاثة ، فأصبحت الأمة خلال القرون الثلاثة الأولى أمة قوية البنيان مرعوبة الجانب ، متقدمة في العلوم والثقافة والفنون حققت أعظم حضارة في وقت قصير ، وغدت رائدة العالم وقائدته ، وتطور السلف خلال القرون الثلاثة أكثر مما تطور الخلف في عصورهم الطويلة[56] ، وتطور الفقه الإسلامي النظري والعملي تطوراً عظيماً حيث استطاع أن يستوعب كل الحضارات والأفكار من خلال صياغتها بما يتفق ومبادئ الإسلام وقواعده وأحكامه ، فلم يعجز عن إيجاد أي حل فقهي لأية مسألة أو نازلة فهي كانت درجة حداثتها وتعقيدها ، كما استطاع الفكر الإسلامي أن يبقى صامداً بثوابته ، وأن يتطور من خلال البناء والرد على كل الأفكار المخالفة والزندقة ، والسفسطه ، مستعيناً بالنقل الصحيح والعقل السليم للوصول إلى القناعة الكاملة والاطمئنان التام ، والأخذ بعنق النصوص وليها في سبيل دعم رأي معين .

ومن جانب آخر فإن القرون الثلاثة كانت تتسم بالبساطة واليسر في المسائل الفقهية ، فكان منهجها قائماً على فقه التيسير المؤهل ـ بل كما يقول شيخنا القرضاوي ـ كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة الميسرين في الأحكام ، والمبشرين في الدعوة إلى الله ، (فما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثماً)[57] ثم سار الصحابة والتابعون على هذا المنهج ، وبالأخص الخلفاء الراشدون ، ولكن كلما جاء جيل بعدهم أخذ بالأحوط ، فالأحوط ، حتى تجمعت لدينا مجموعة كبيرة من الأحوطيات[58].

وقد أثبت فضيلة الدكتور البوطي أن السلف تطوروا في عهدهم القصير أكثر مما تطور الخلف في عصورهم الطويلة ، وأنهم التزموا بالثوابت واختلفوا في غيرها ، لذلك اختلفت فتاواهم حتى في المناهج ، فكان منها ما كانت أقرب إلى الانضباط الحرفي بالنصوص الثابتة في الكتاب والسنة ، ومنها ما كانت أقرب إلى الاعتماد الأكثر على الرأس والاجتهاد إضافة إلى أن دائرة الاجتهاد تتسع كلما كثرت المستجدات والنوازل وذلك بعد أن حكم الإسلام بلاد الفرس والرومان وما كانت تفوز به من مظاهر المدنية والحضارة ، وما تنطوي عليه من أصول المعايش والأنظمة والعادات الغربية[59] .

ولأجل فقه الصحابة والتابعين بالثوابت والمتغيرات لم تكن مسألة تكفير المختلفين شائعة عندهم ، فقد خرجت جماعة من جيش الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ عليه وكفروه ؛ لأنه احتكم إلى الحكمين في معركة صفين ، ومع ذلك لم يحكم علي ـ كرم الله وجهه ـ ولا صحبه بكفر هؤلاء الخوارج[60] بل جعل لهم أحكاماً خاصة بالقتال تسمى أحكام البغاة[61] .ومن جانب آخر فقد ظهرت من الفرق والجماعات مثل المعتزلة (بجميع فرقها التي تزيد على عشر) والجبيرية بفرقها ، والخوارج بفرقها الكثيرة ، والمرجئة وصنوفها الكثيرة ، والشيعة وفرقهم المتعددة[62] ، فإن علماء الأمة لم يحكموا بكفر هؤلاء بل فتحوا باب الرأي لحل المشكلات وفتحوا أبواب النقاش والحجاج ومجادلة المبطلين والمرتابين بالأساليب والموازين التي يعرفونها كمال قال علي رضي الله عنه : (كلموا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ،أتريدون أن يكذب الله ورسوله)[63] .

 

 

علاقة فقه الثوابت والمتغيرات بتوحيد الأمة :

تظهر علاقة فقه الثوابت والمتغيرات بتوحيد الجماعات والمذاهب والأحزاب الإسلامية من خلال ما يأتي :

أولاً : أن تلك الثوابت القواطع بمثابة المبادئ المشتركة والمنهاج السليم ، والشرعية المتفق عليها عند جميع الطوائف الإسلامية والجماعات الإسلامية ، وبمنزلة الدين المشترك ، وأن من لم يعترف بهذه الثوابت فهي خارجة عن الإسلام مارقة في الضلالة ، وليس حديثنا مع هؤلاء الذين لا تجمعهم تلك الثوابت والقواطع ، وإنما حديثنا مع من يلتزم بهذه الثوابت القاطعات في الإسلام ولكنه يختلف في الفروع والوسائل ونحوها ، يقول ابن تيمية : (فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنه ، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض … وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء…، والتنوع قد يكون في الوجوب تارة ، وفي الاستحباب تارة اخرى ..، فالمذاهب والطرايق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع… واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام ـ هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء ، وهم مثابون…)[64] .

فعلى ضوء ذلك تجتمع الأمة الإسلامية على هذه الثوابت ،و تتعاون فيما بينها فتتعارف ، وتتحد ، وتجعلها قاعدة لانطلاقتها ، وصخرة صلبة لتكوين علاقاتها عليها ، فهي القاعدة المشتركة المتفق عليها ، والمعترف بها ، فإذا كانت أوربا الغربية اتحدت على قاعدة السوق المشتركة والمصالح الاقتصادية المشتركة ، وخطت كل هذه الخطوات من أجلها ، أو ما تكفي كل هذه الثوابت المشتركة مع المصالح المشتركة لتجميع الأمة الإسلامية وتدفعهم نحو الوحدة العملية؟

ثانياً : من خلال فقه الثوابت والمتغيرات يتم اعتراف كل جماعة بالأخرى وكل طائفة بالثانية ما دامت الثوابت مشتركة ، وما دامت المتغيرات مقبولة ومشروعة بل مطلوبة ، وبالتالي يكون من الطبيعي أن يعذر بعضهم بعضاً ،أو يسعى بالحوار والجدال الأحسن الوصول إلى الأحوط والأفضل ، فأعظم المشاكل بين المسلمين أن بعضهم لا يعترف بالآخر ، فإذا وجدت التوعية بفقه الثوابت والتغيرات لاعترف بعضهم ببعض ، كما أن هناك عدم المعرفة بالحقائق الموجودة لدى المذهب أو الجماعة الأخرى ، وإنما وصلت معلومات مغلوطة أو قديمة ، أو غير دقيقة ، أو تخص فئة منهم ، أو أشخاصاً معينين لا يجوز تعميم آرائهم ورؤاهم على جماعة بعينها ، أو مذهب بعينه .

ثالثاً : أنه من خلال فقه الثوابت والمتغيرات يعلم أن الخلافات الكثيرة ما دامت في نطاق المتغيرات مقبولة شرعاً .

 

وأخيراً فإن معرفة الثوابت المشتركة بين الجماعات والطوائف الإسلامية سوف تقرب فيما بينها ، وتؤدي إلى التعاون البناء فيما بينها ورفض العداء والتوتر فيما بينها .

وقد بيّن الشيخ القرضاوي أهمية التعاون في المتفق عليه وضرورة تركيز البحوث عليها ، وإقامة الدروس لها ، وإدارة الجدل فيها ، وبناء الخصام على من خالفه ، ثم يقول : (وأنا لا أكره البحث في المسائل الخلافية بحثاً علمياً مقارناً ..ولكن الذي أكرهه أن يصبح البحث في المسائل الخلافية أكبر همنا ومبلغ علمنا وأن نضخمها حتى تأكل أوقاتنا وجهودنا وطاقاتنا ..وأن يكون ذلك على حساب الاشتغال بالقضايا الأساسية) .

ثم ذكر بعض الأمثلة حيث ألف أحدهم رسالة سماها : (نهي الصحبة عن النزول على الركبة) وهو أمر يتعلق بهيئة الصلاة ..وأحدهم : (الواحة في جلسة الاستراحة) .

فمشكلة الأمة في تضييع الأمور المتفق عليها من جميع مذاهبها ومدارسها وفي تعطيل الشريعة وانهيار الأخلاق وتجميد الفكر وأمانة الحقوق ، فهي ليست فيمن يؤول آيات الصفات …وإن مذهب السلف أرجح وأسلم ـ بل في الذي ينكر الذات والصفات جميعاً من عبيد الفكر المستورد من الغرب أو الشرق ، وليست فيمن يؤول آية الاستواء على العرش بل فيمن يجحد العرش ورب العرش معاً ..

ومن هنا كان الواجب على دعاة الإسلام الواعين أن ينبهوا على التركيز على مواطن الاتفاق قبل كل شيء ، فإن هذا التعاون فريضة شرعية يوجبها الدين ، وضرورة واقعية يحتمها الواقع الذي تمر به الأمة .

وأعتقد أن ما نتفق عليه ليس بالشيء الهين ولا القيل ، إنه يحتاج منا إلى جهود لا تتوقف ، وعمل لا يكل ، وإرادة لا تعرف الوهن يحتاج منا إلى عقول ذكية وعزائم قوية وأنفس أبية وطاقات بناءة …حرام على الجهات الإسلامية أن تعترك فيما بينها على الجزئيات وتدع تلك الثغرات الهائلة دون أن تسدها بكتائب المؤمنين الصادقين[65] .

وحقاً فإن الثوابت لهذا الدين كثيرة وهي مشتركة بين جميع الجماعات والمذاهب الإسلامية ، في مجال أصول العقيدة ، والقيم والأخلاق ، وفي أصول المعاملات والفروع ، وفي عالم السياسة ، وفي التحديات التي تواجه الأمة ، مثل تحدي الإلحاد والكفر والعلمانية ، وتحدي الغزو الثقافي والفكري ، وتحدي التغريب والتمييع ، وتحدي الاستكبار العالمي ، والحروب الصليبية الجديدة ، وتحدي الهجمات الصهيونية على المسلمين واحتلالها لفلسطين ودرتها القدس الشريف ، والهجمات الوثنية في كشمير ، والهجمات الصليبية والإلحادية في الشيشان وفليبين ؟

فما أحوجنا إلى التوحد والتعاون والتكامل ، وتوزيع الأدوار ، والقبول بالبعض ، والاجتماع على ما يجمعنا من الثوابت والمواقف السياسية ، وعدم إثارة الاختلافات ، وبالأخص في هذا العصر الذي تكالبت علينا الأعداء وتداعت كما تداعت الأكلة على قصعتها .

فهل نستوعب الدرس ؟ ونحسّ بخطورة الموقف ؟ ونترك حظوظ النفس ؟ وندع الحزبية الضيقة إلى ساحة الإسلام الواسعة ، إلى منهج السلف في التيسير في الأحكام ، والتبشير في الدعوة ، وفي تحمل البعض ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ؟

هذا ما أرجوه وأسأل الله تعالى أن يجمع هذه الأمة على كل ما يحقق عزتها وكرامتها وتقدمها وازدهارها .

 

 

المشاركة والمفارقة بين الأنا والآخر :

بما أن بني آدم جميعاً (الأنا والآخر) يشتركون في مجموعة من الأشياء المادية والمعنوية والاجتماعية والثقافية والعقلية والفكرية ، ويختلفون بعضهم عن بعض أيضاً في مجموعة من الأشياء السابقة ، لذلك نوجز القول بين هذه المشتركات والمفترقات مع تحديد المراد بـ (الأنا) .

 

المشاركات :

أنا (الإنسان) أتفق مع جميع البشرية فيما يأتي :

1 ـ خلقنا الله تعالى جميعاً من أصل واحد ، وهو التراب ، فقال تعالى : (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)[66] والآيات في هذا كثيرة ، ثم من طين لازب ثم من حمأ مسنون ، ثم من صلصال كالفخار ، فقال تعالى : (إنا خلقناكم من طين لازب)[67] وقال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)[68] وقال تعالى : (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)[69] .

وهذه المراحل لتكوين الإنسان من التراب إلى الطين ، والطين اللازب ، والحمأ المسنون ، ثم الصلصال كالفخار ، ثم نفخ الروح فيه لا يختلف فيها إنسان عن آخر.

2ـ أنا (الإنسان) خلقنا الله جميعاً من الماء سواء من حيث الأصل (وهو الماء) ، أو من حيث الخلق المباشر (وهو المني) و (النطفة الأمشاج) حيث يقول الله تعالى : (والله خلق كل دابة من ماء)[70] ويقول تعالى : (وهو الذي جعل من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)[71] ، ويقول تعالى : (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق)[72] ، ويقول تعالى : (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)[73] .

3ـ أنا (الإنسان) نفخ الله تعالى فينا جميعاً من روحه ، فأعطانا جميعاً هذه الكرامة ، وميزنا بالعقل والإرادة والامتياز والصفات الفاضلة ، وأعطانا من الصفات ما نستطيع بها تعمير الكون فقال تعالى : (..وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون)[74].

4ـ أنا (الإنسان) خلقنا الله جميعاً من آدم وحواء أي أن أبانا واحد ، وأُمنا واحدة ، وهذا ما دلت عليه الآيات الكثيرة ، والأحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : (والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب)[75] .

5ـ إن عقيدة المسلمين قائمة على أن البشرية جميعاً ربهم واحد وخالقهم واحد ، ويشترك في هذه العقيدة جميع الأديان السماوية والمؤمنين بالله تعالى .

6ـ إن كل إنسان كامل عاقل (مكلف) يشترك مع الآخر في الهيكل والجسم بشكل عام ، وفي المكونات الأساسية الخلقية ـ بفتح الخاء ـ وفي الأجهزة الفكرية والعقلية والنفسية بصورة عامة ، وفي أصل العواطف والأهواء ، والأحاسيس والمشاعر ، فليس هناك إنسان من حجر ، والآخر من حديد ، والآخر من ذهب ، وإنما الكل من أصل واحد مشترك في الثوابت الإنسانية خلقاً .

 

الفروقات والاختلافات الطبيعية :

ومع كوننا جميعاً بشراً ومن آدم وحواء ، ولكن توجد فروق جوهرية في عدة أشياء منها:

1ـ أنا (بذاتي) مختلف عن غيري الآخر في ذاتيتي ، وفي صفاتي الشخصية ، وهذا ما أثبته العلم الحديث من خلال البصمة الوراثية التي أثبتت أن كل إنسان له ملفه الجيني الخاص الذي لا يشترك مع شخص آخر ، ولذلك عرفت الندوة الوراثية والهندسة الوراثية البصمة الوراثية بأنها : (البنية الجينية ـ نسبة إلى الجينات أي الموروثات ـ التي تدل على هوية كل فرد)[76] وأقر المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة هذا التعريف ، وأضاف بأن البحوث والدراسات تفيد بأنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي ، والتحقيق من الشخصية ومعرفة الصفات الوراثية المميزة للشخص .

فالبصمة الوراثية أثبتت بشكل قاطع أن كل إنسان له شخصيته الجينية الخاصة به التي لا يشترك معه أحد على مستوى مليارات البشر ، كما أن هذا الإنسان له مشتركاته الخاصة مع أسرته وقبيلته وشعبه[77] ، ويختلف كذلك في الجوانب الآتية :

أ‌)  الجانب الخلقي ـ بفتح الخاء ـ  حيث نحن مختلفون في البنية والأشكال والصور والألوان والألسنة ، والقدرات المادية .

ب‌)  الجانب المعنوي ، حيث نختلف في القدرات العقلية والفكرية ، وفي مقدار الأحاسيس والمشاعر والعواطف ونحو ذلك .

2ـ الناس (الأنا والآخر) مختلفون في الأديان والأفكار والأيدلوجيات والتصورات ، فهناك العشرات بل المئات بل الآلاف من الأفكار والأديان والتصورات والمذاهب الفكرية والتوجهات المختلفة في مختلف جوانب الحياة .

وهذا الاختلاف هو من إرادة الله تعالى ومن سننه الماضية حيث جعلهم مختلفين فيما سبق ، حيث يقول الله تعالى : (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين …… )[78] .

وفي نطاق الاختلاف في الأديان والمذاهب والآراء يقول الله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)[79] وبين الله تعالى أن سننه تقضي وجود هذا الاختلاف حيث يقول  الله تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)[80] ثم كرر ذلك في سورة النحل فقال : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ولتُسئلّن عمّا كنتم تعملون)[81] وفي سورة الشورى : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير)[82] حيث تدل هذه الآيات بوضوح على أن هذا هو شأن الإنسان ، كما يفهم منه قبول هذا الاختلاف مع السعي لتقليله .

 

ولكن هذه الاختلافات تقل أو تكثر ، تضعف أو تشتد ، تصغر أو تكبر حسب نسب مختلفة وفئات متنوعة بين (الأنا) والآخر :

أ ـ فأنا مع الشخص الذي لا يؤمن بأي دين ، تكون المسافة بيني وبينه أكبر بكثير من غيره ، ولكن تجمعنا الصفات المشتركة السابقة ، وأننا نبحث عن الحقيقة إذا كان يبحث عن الحقيقة .

ب ـ وأنا مع الشخص الذي هو يؤمن بالله تعالى مطلقاً تكون الفوارق بيني وبينه أقل من فئة (أ) وأكبر من فئة (جـ) .

ج ـ وأنا مع من هو من أهل الكتاب ، تكون المسافة أصغر من فئة (ب) وأكبر من فئة (د) ثم أن داخل أهل الكتاب تكون المسافة والفوارق بيني وبين النصارى أقل من المسافة والفوارق بيني وبين اليهود .

د ـ وأنا (المسلم) مع غير المسلمين المحاربين تكون العلاقة بهم تحكمها ظروف الحرب ولكن مع المبادئ والأخلاق الإسلامية التي تحكم الحرب في الإسلام .

وأما مع غير المسلمين (الذميين والمعاهدين) فالعلاقة تقوم على الحقوق الكاملة لهم على ضوء المبادئ الإسلامية العظيمة في هذا المجال .

وأنا المسلم مع غير المسلمين المسالمين تكون العلاقة معهم هي علاقة الدعوة والإحسان والبر ، والحفاظ على العقود والمواثيق .

هـ ـ وأنا مع المسلمين على مختلف مذاهبهم وطوائفهم واحد منهم ، ولكن لست نسخة طبق الأصل لأي واحد منهم ، وان هناك مساحة ولو كانت صغيرة حسب عناصر الاتفاق والاختلاف داخل المذاهب الإسلامية والطوائف الإسلامية .

فالأمة الإسلامية اليوم هي أحوج ما تكون إلى البحث عن المشتركات فيما بينها ، وهي كثيرة جداً ، فجميع المذاهب والطوائف الإسلامية تشترك في أصول العقيدة من الإيمان وأركانه الأساسية من (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى) والأركان الخمسة للإسلام من (الشهادتين ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج) وفي التوجه إلى قبلة واحدة ، وإلى اعتماد مصحف واحد دون الخلاف عليه ، وفي العدو المشترك والمصالح المشتركة ، حيث إنهم جميعاً يتفقون على أن الصهيونية والصليبية والعلمانية والإلحاد والتحلل الجنسي أشد أعدائهم ، وأنهم يعتبرون قضايا الأمة الرئيسية (كفلسطين والقدس) القضية التي هم جميعاً مستعدون للتضحية في سبيلها ، وأنهم جميعاً يعرفون حق المعرفة أن أعداءهم لا يفرقون فيما بينهم ، وهذا هو التقرير الأخير الصادر من معهد راند الاستراتجي الذي له دور كبير في صياغة القرار الأمريكي ، ينص على أن جميع المسلمين (التقليدين ، والأصوليين ، والليبراليين ، والصوفية ، والشيعة والسنة….) لا يعتمد عليهم ، ولا ينبغي للسياسة الأمريكية أن تتحالف معهم إلاّ تكتيكاً للقضاء من خلالهم على جماعة أخطر ، فقد جعلهم كلهم في سلة واحدة ، ثم اقترح إسلاماً جديداً سماه الإسلام الديمقراطي المدني الذي يقبل بجميع القيم الغربية[83].

أو ما تكفي كل هذه المشتركات بين المسلمين جميعاً  ؟ او ما تجمعهم الشدائد والمخاطر والأعداء الكثيرون الذي تداعوا على هذه الأمة كما تداعت الأكلة على قصعتها ؟ .

 

 

صورة الآخر المختلفة اجتماعياً وفكرياً : التباين والتعصب ؟

أو نحن والغرب ، صراع أم حوار ؟ تصادم أو تعايــش :

لم يصدق الكثيرون أن الصراع الرأسمالي مع المعسكر الشيوعي (أو صراع الغرب الرأسمالي مع الشرق الشيوعي) تنتهي بهذه السرعة ، وأن الحرب الباردة التي دامت بعد الحرب العالمية الثانية حوالي خمسين سنة أن تدفن آثارها بسرعة ، وأن ينتهي الاتحاد السوفيتي في عام 1992 ويدخل هو ومعسكره في أحضان الغرب الرأسمالي وتتغير سوقه الاقتصادية من الاشتراكية ، بل والشيوعية المتطرفة إلى اقتصاد السوق والاقتصاد الرأسمالي وتتحكم فيها العولمة ومنظمة الجات ، ثم المنظمة الدولية للتجارة الحرة .

وظن الكثيرين أنه بانتهاء هذا الصراع المرير الذي راح ضحيته مئات الملايين من البشر والترليونات من الدولارات تنتهي حقبة الصراع ، ويبدأ العالم عصراً جديداً من التفاهم والحوار ، وتحقيق السلم والسلام العالميين لتنعم البشرية بشيء من الهدوء وراحة البال ليفرغ العالم الغني لمساعدة العالم الفقير الذي يزيد على ثلثي السكان وليصرف جزء من نفقات الحرب الباهظة على إسعاد الفقراء وإغنانهم ، أو ليعيشوا عيشة كريمة تليق بالإنسان ، وعلى المرضى والأطفال المعذبين في العالم بسبب الفقر وسوء الغذاء وقلة الدواء .

وقد تحطمت هذه التوقعات على صخرة الواقع ،  أدت بمعظم الساسة والمفكرين الغربيين يصنعون صراعاً آخر أكثر مرارة ، وهو الصراع مع الإسلام وحضارته ، ووضعه في دائرة العدوّ الأول مكان الاتحاد السوفيتي السابق ، مع أن الإسلام كان له دور عظيم جداً في إبطال الأفكار الإلحادية للشيوعية والقضاء على المادية الجدلية التي تقوم عليها الفلسفة الشيوعية ، كما أن المسلمين كان لهم دور كبير من خلال الجهاد في أفغانستان ، وحتى بعض الغربيين (مثل بريجيستكي مستشار الأمن القومي في عهد كارتر) اعترفوا بأنه لولا الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي لما سقط بهذه السرعة .

ويبدو أن المفكرين الغربيين أمام الوضع الحالي لهم اتجاهان، اتجاه يميل إلى أن العلاقة يجب أن تكون علاقة حوار ، وتعايش ، وحسن جوار ، في حين يسير الاتجاه الآخر (وهو الغالب) ، وبالأخص في العقد الأخير إلى تبني صدام الحضارات ، واعتبار الإسلام أكبر خطر يهدد الحضارة الغربية وأمن دولها ، والمنظومة القيمية الغربية ، منطلقين من              (الأنا المتضخمة الأقوى) متأثرين بما خلفته الحروب والصراعات الصليبية ، وما أثارته الكنائس ضد الإسلام والمسلمين منذ سقوط الدولة الرومانية في الشام ومصر ، ثم سقوط الإمبراطورية الرومانية الشرقية بالكامل في عهد السلطان محمد الفاتح من سقوط قسطنطين في أيدي الإسلام والمسلمين ، ثم التبريرات الاستشراقية التي ساندت المستعمرين لغزو ديار المسلمين .

لم يكن معظم الساسة والمفكرين الغربيين يفصحون عن نواياهم خلال الحروب الباردة ، حيث كان العدو الأول في نظرهم هو الفكر الأحمر الذي وراءه دولة قوية نووية تهيمن على نصف أوربا ولها نفوذها القوي في معظم بلاد العالم .

بل إن هؤلاء كانوا يريدون أن يقف معهم العالم الإسلامي ضد الاتحاد السوفيتي ، ويسخرون القوة الدينية الإسلامية ضده ، وللحق نقول : إنهم قد استطاعوا في كثير من الأحوال الزج بالدول الإسلامية في هذا الصراع الرأسمالي الشيوعي لصالحهم ، فقد وجدوا من خلال الحوار المسيحي الإسلامي والعلاقات الدينية التي ربطت بين الجهات الدينية الإسلامية الرسمية والجهات الكنسية توجيه ضربات قاصمة لظهر الفكر الشيوعي الإلحادي .

وفي اعتقادي أن الأيدلوجية الشيوعية ما كان باستطاعة الفكر المسيحي المهلهل أن ينال منها بشيء يذكر ، ولكن الذي استطاع أن ينال منها بقوة ، وينقض غزلها تماماً ، ويسقط بنيانها من أساسها هو : العقيدة الإسلامية ، والفكر الشمولي الإسلامي الجامع بين النقل والعقل .

وهذا لا يعني أن ما قام به هؤلاء المفكرون الإسلاميون كان في خدمة الإستراتيجية الغربية ، لأنهم لم يفعلوا إلاّ خدمة لدينهم أمام فكر إلحادي فاضح يعتبر الدين            ـ حتى الإسلام ـ أفيون الشعوب ، ولا يعترف بأي قيمة أخلاقية في مجال الأسرة والمال ، فكان هذا الدفاع من الواجبات الإسلامية قبل أي شيء آخر .

LinkedInPin