نستطيع القول بأن هذا الموضوع ينحصر في اتجاهين عامين فقط هما : المنع مطلقاً ، أو الجواز بشروط ، ولذلك سنستعرض هنا أدلة الاتجاهين فقط مع المناقشة الموجزة التي ستتناسب مع طبيعة بحثنا هذا :

أولاً : أدلة المانعين :[1]

استدل القائلون بحرمة الاسهام في الشركات التي تتعامل بالربا أو بأي محرم ولو كان يسيراً ، وبحرمة التجارة في أسهمها حتى ولو كانت أنشطتها حلالاً بما يأتي :

  1. عموم الأدلة الدالة على حرمة الربا من الآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة ، وإجماع المسلمين ، حيث إن هذه الأدلة لم تفرق بين كثير وقليل فقال تعالى : (…وحرم الربا)[2] وقال تعالى : (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)[3] وقال الرسول e : (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع….)[4] ، وقال أيضاً : (لعن الله آكل الربا ، وموكله وشاهديه وكاتبه)[5] ، فهذه النصوص عامة لم يثبت دليل صحيح على تخصيصها ، فتبقى عامة .

  2. أن ما أصله الحظر لا يجوز رفعه إلاّ بدليل يقيني على الحل ، ولا دليل يقيناً على ذلك .

  3. إنه لا يوجد أحد من الفقهاء قال بجواز الاشتراك في شركة تتعامل بالربا في تجارتها.

  4. إن الشركات المساهمة في غير البلاد الإسلامية يديرها غير المسلمين الذين لا يتورعون في الوقوع في المحرمات الشرعية وهذا غير جائز لما روى عطاء عن النبي e مرسلاً أنه (نهى عن مشاركة اليهودي والنصراني إلاّ أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم) والحديث المرسل حجة عند جمهور الفقهاء إذا كان المرسل حجة ، والمرسل هنا عطاء ، وهو ثقة وحجة .

    وروى كذلك ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : (لا تشارك يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً ، لأنهم يربون ، والربا لا يحل) ، وقول الصحابي حجة يجب العمل به على الصحيح من أقوال الأصوليين ، ولذلك منع الفقهاء مشاركة اليهودي أو النصراني إذا كان العمل تحت إشراف الكافر[6].

    فعلى ضوء ذلك دل الحديث والأثر وأقوال الفقهاء على منع مشاركة المسلم في شركة يديرها غير ، فما ظنك بإدارة تجمع بين الكفر ، والتعامل بالفوائد ، أو المحرمات ، لذلك يكون الحكم هو حرمة الاسهام أو التعامل في أسهم تلك الشركات .

  5. من الأصول المعتبرة في هذه الشريعة اهتمام الشرع بالمنهيات أشد من اهتمامه بالمأمورات ، ولذلك يحتاط في الدليل الدال على الاستثناء من المحظورات أكثر من الدليل الدال على الاستثناء من المباحات ، يدل على ذلك قول الرسول e : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)[7] .

    وجاءت القواعد الفقهية تؤكد هذا المعنى حيث تقضي بأن : (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة) .

    وعلى ضوء ذلك فالمصالح المذكورة في الاستثمار في الأسهم لا تصل إلى مرحلة تترجح على حرمة الربا الموجود فيها .

  6. إن وجود نسبة من الحرام في موجودات الشركة تجعل الكل حراماً مهما قلت هذه النسبة ، وبالأخص إذا كانت هذه النسبة شائعة لا تتميز .

    فمن المعلوم أن الأسهم تلك الشركات قد اختلط فيها الحرام بالحلال ، ويتعذر تمييزه ، بل تتعذر معرفة مقداره تماماً ، لأن مشتري الأسهم قد اشترى حصصاً شائعة من موجودات الشركة التي فيها الحلال والحرام ، وبالتالي يغلب الحرام على الحلال كما تقضي به القواعد الفقهية .

  7. إن أقل ما يقال في أسهم تلك الشركات هو أنها لا تخلو من شبهة ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الشبهات : (الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرء لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ، ألا أن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه) “متفق عليه واللفظ لمسلم”[8] وفي رواية البخاري : (فمن ترك ما اشتبه فيه كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أو شك أن يواقع ما استبان)[9] .

  8. إن قيام المساهم في تلك الشركات بالتخلص من نسبة الحرام وصرفها في وجوه الخير لا يحصل المساهمة حلالاً ، لما يأتي :

    أ ـ لا يمكن أن تقاس هذه المسالة على ما جاء في قوله تعالى : (فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)[10] حيث اشترط فيها التوبة ، وعدم العودة إلى العمل نفسه ، في حين أن المساهم هنا يدخل على أساس انه يتخلص من النسبة المحرمة ، وليس بتائب ولا نادم ، بل يدخل مع سبق الإصرار ونية التكرار .

    ب ـ ان من شروط صحة العقد ان يكون محله مشروعاً ، وهذا محله غير مشروع لوجود الربا ، فيكون العقد باطلاً .

  9. قاعدة سد الذرائع ، حيث إن من ينظر في هذه الشريعة وأحكامها ومقاصدها يجد أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم كل الوسائل المؤدية إليه ، حتى ولو كان الأصل مشروعاً ، وذلك حسماً لمادة الفسادة ، ودفعاً لكل الوسائل المؤدية إليه ، ولذلك لعن رسول e كاتب الربا ، وكاتبه وشاهديه[11]، ونهى عن بيع وسلف[12]، والأمثلة في ذلك كثيرة .

  10. الاستدلال بالقياس عن طريق أولى ، حيث نهى رسول الله e عن المزابنة (بيع الرطب على النخيل بتمر) والمحاقلة[13] (بيع الحنطة في سنبلها بحنطة خرصاً) بسبب احتمال الربا الناشئ عن الجهل بتساوي البديلين ن فكيف بالأسهم التي فيها جزء من الربا المحقق[14] .

 

ثانياً : أدلة المجيزين :[15]

استدل المجيزون بالشروط السابقة بما يأتي :

1 ـ ان الشركات المساهمة ليست كالشركات السائدة في الفقه الإسلامي في كل شيء ، فهي لها شخصية اعتبارية مستقلة ولها ذمة مستقلة عن ذمم المساهمين دائناً ومديناً ، ولها مجلس إدارة اختير من خلال الجمعية العمومية ، وانه هو الذي يديرها بالكامل ، كما أن مسؤوليتها محدودة ومحددة برأس مالها في حين لم تكن الشركات الإسلامية تتمتع بالشخصية الاعتبارية ، ولا بالمسؤولية المحدودة والمحددة ، بل كانت المسؤولية على مقدار الديون الناشئة عن تصرفات جميع الشركاء ، فقد كانت الشركة في العصور الإسلامية بسيطة بين عدد محدود من الشركاء (اثنين فأكثر) يديرون جميعاً أموال الشركة ، وأن كل واحد منهم أصيل ووكيل وضامن (كما هو المتبع المؤصل لدى الفقهاء)[16] فحينئذٍ يسند فعل كل واحد منهم إلى الآخر .

أما المساهمون اليوم (فبعد ما دفعوا فلوسهم واختير مجلس الإدارة) ليس لهم شأن في الإدارة ، بل ممنوعون من التدخل في الإدارة ، وكل ما لهم الحق هو ان يناقش الأمور في الجمعية العمومية في آخر كل سنة حيث يمكن أن يسمع صوته ، ويمكن أن لا يكون له أي تأثير بسبب قانون الأكثرية المتبعة في نظام الشركات المساهمة .

ومن هنا فليسوا ـ أي ما عدا مجلس الإدارة ـ أصلاء في التعامل المحقق في الشركة (أي انهم ليس لهم الحق في إدارة الشركة) ولا وكلاء وبالتالي فالمساهم لا يتحمل كل ما يفعله مجلس الإدارة من حيث الاثم والبطلان ونحو ذلك ، ولذلك نقول : إن اعضاء مجلس الإدارة آثمون حينما يتعاملون بالحرام ، اما المساهمون غير الراضين بذلك فلا يشاركونهم في الاثم إلاّ إذا دخلوا في شركة ينص نظامها الأساسي على التعامل بالمحرمات ، وانهم لم يدخلوا بنية التغيير.

2 ـ قاعدة الأصالة والتبعية :

وهي قاعدة عظيمة من قواعد الفقه ، ولها تطبيقات كثيرة أدت إلى أن يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ويقصد بالأصالة هنا ما كان الشيء بذاته هو المقصود الأساس في العقد ، أو على الأقل يكون مقصوداً ، أي أن نية العاقدين كانت متجهة إليه أصالة ، فمثلاً الذي يشتري المنـزل يكون قصده الأساس ما هو المعد للسكن دون ملحقاته من الأشجار ونحوها .

وأما التبعية فالمقصود بها هنا ما يدخل في الشيء تبعاً مثل الحمل بالنسبة لشراء الحيوان الحامل ،   فالتبعية هي كون الشيء مرتبطاً بغيره إما ارتباطاً يتعذر انفراده مثل الحمل مع الحامل ، ولذلك تحصل ذكاة الجنين بذكاة أمه عند الجمهور أو يمكن انفصاله عن متبوعه مثل مرافق المنـزل ونحوها [17].

وقد انبثقت عدة قواعد فقهية منها :

أ . التابع تابع ، والتابع لا يفرد بالحكم ، وهي القاعدة التي ذكرتها مجلة الأحكام العدلية في مادتها 48 والمقصود بذلك أن التابع المرتبط بمتبوعه لا يفرد بالحكم مثل الحمل فلا يجوز بيعه منفرداً ، ومما يذكر مع هذه القاعدة : ( التابع لا يفرد بالحكم ما لم يصر  مقصوداً ) مثل زوائد المبيع المنفصلة المتولدة إذا حدثت قبل القبض تكون تبعاً للمبيع ، ولا يقابلها شيء من الثمن ، ولكن لو اتلفها البائع سقطت حصتها من الثمن فيقسم الثمن على قيمة الأصل يوم العقد وعلى قيمة الزيادة يوم الاستهلاك [18].

ب . من ملك شيئاً ملك توابعه مثل ملحقات الدار والحمل .

جـ . التابع يسقط بسقوط المتبوع مثل إذا سقطت صلاة الفرض بالجنون سقطت سننها الراتبة[19]. وإذا برئ الأصل برأ الكفيل .

د . يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ومن فروعها : أن النسب لا تثبت ابتداءً بشهادة النساء أما لو شهدن بالولادة على الفراش فقد ثبت النسب تبعاً حتى ولو كانت الشاهدة القابلة وحدها [20].

ومنها جواز رمي المسلمين الذين تترس بهم الكفار تبعاً ، ولا يجوز أصالة [21]، ومنها أن بيع الثمرة التي لم تبد صلاحها جائز مع أصلها ، ولكن لا يجوز بيعها دونه ، لما في ذلك من الغرر ، قال ابن قدامه : ( لأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعاً في البيع فلم يضر احتمال الغرر فيها )[22] .

 

الأدلة على اعتبار هذا الأصل :

يدل على اعتبار هذه القاعدة استقرار فروع الفقه الإسلامي وجزئياته ومسائله التي اعتبرت في عدد غير يسير منها رعاية الأصالة والتبعية .

ويدل على ذلك أيضاً الحديث الصحيح المتفق عليه  الذي ذكرناه سابقاً حول بيع العبد : ( من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلاّ أن يشترطه المبتاع )، والحديث يدل بوضوح على أنه لا ينظر عند بيع العبد الذي معه مال إلى نوعية ماله نقداً ، أو عرضاً ، أو ديناً ، أو ربوياً أو غيره ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر أن اطلاق الحديث يدل على جواز بيعه ولو كان المال الذي معه ربوياً ، لأن العقد وقع على العبد خاصة ، والمال الذي معه تبع له لا مدخل له في العقد [23].

وهذا رأي مالك حيث قال : ( الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له نقداً كان أو ديناً ، أو عرضاً يُعلم أو لا يُعلم وإن كان للعبد المال من أكثر مما اشترى به كان ثمنه نقداً أو ديناً أو عرضاً …. )[24].

وكلا م مالك هذا يدل على عدم اشترط كون المال التابع أقل من ثمنه ، وفي هذا دلالة على عدم النظرة إلى الكثرة والقلة عند كون الشيء تابعاً .

قال ابن القاسم ، عن مالك يجوز أن يشترى العبد وماله بدراهم إلى أجل وإن كان ماله دراهم ، أو دنانير ، أو غير ذلك من العروض [25] . وفي هذا دلالة على عدم اشتراط أحكام الصرف ما دامت دراهمه ودنانيره وذهبه وفضته تبعاً للعبد حتى ولو كان ثمنه من نفس الجنس .

أ . فعلى ضوء رأي مالك أنه لا يشترط لصحة ذلك البيع أن يكون القصد متجهاً نحو العبد فقط ، وإنما الحكم هو أنه إذا اشترى العبد ومعه مال أي مال بأي ثمن كان فإن العقد صحيح وأن ماله للمشتري إن اشترط وإلاّ فلسيده ، قال ابن عبدالبر : ( ويجوز عند مالك شراء العبد وإن كان ماله دراهم بدراهم إلى أجل وكذلك لو كان ماله ذهباً أو ديناً )[26] .

وهذا قول الشافعي في القديم ، وأبي ثور وأهل الظاهر [27]، وقال الشاطبي : ( فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الاطلاق )[28] . وقد ذكر النووي أنه لو باع داراً بذهب ، فظهر فيها معدن ذهب …صح البيع على الأصح ، لأنه تابع)[29] .

ب . وذهب عثمان البتي إلى رعاية القصد حيث قال : ( إذا باع عبداً وله مال ألف درهم بألف درهم جاز إذا كانت الرغبة في العبد لا في الدرهم )[30] .

وهذا هو المنصوص عن أحمد حيث ذكر الخرقي أن البيع صحيح وإن كان مع العبد مال أي مال بشرط أن يكون قصده للعبد ، لا للمال ، وهذا منصوص أحمد وهو قول الشافعي ـ أي في القديم ـ وأبي ثور وعثمان البني ، فمتى كان كذلك صح اشتراطه ودخل في البيع به سواء كان ديناً أو عيناً وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر[31] .

ج. وذهب إلى عدم صحة ذلك مطلقاً الحنفية ، والشافعي في الجديد ، لما فيه من الربا[32] ولحديث فضالة بن عبيد الأنصاري الذي اشترى قلادة فيها ذهب وخرز بذهب فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بنـزع الذهب فقال : ( الذهب بالذهب وزناً )[33] .

ولكن الحديث واضح في دلالته على أن شراء الذهب كان مقصوداً أصالة لفضالة فيختلف عن موضوع العبد ، ولا تعارض بينهما ، فمسألة مال العبد داخلة في التبعية التي لا جدال فيها .

ومما يتعلق بهذا الموضوع ما يسميه الفقهاء بمسألة ” مد عجوة ” وهي أن يبيع مالاً ربوياً ـ كالدراهم والدنانير ـ بجنسه ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه ، مثل أن يكون غرضهما بيع دراهم بدراهم فيبيع كيلو من التمر مع عشرة دراهم بخمسة عشر درهماً مثلاً ، فهذا غير جائز وغير صحيح عند المالكية والشافعية والحنابلة ، وأجازه الحنفية [34].

ولكن شيخ الإسلام طبق على هذه المسألة أيضاً مسألة التبعية والأصالة ، ومسألة الحيل ، فقال 🙁 وأما إن كان كلاهما مقصوداً كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ، أو مدين ، أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد ، والمنع قول مالك والشافعي ، والجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد)[35].

وقد فرق المالكية بين مسألة ” مد عجوة ” التي حرموها وبين بيع العبد الذي له مال من النقود والديون بالنقود ، مع أنهم أجازوه ـ كما سبق ـ بأن موضوع العبد داخل في باب التبعية ، لأن  العبد هو المقصود بالبيع وليس ماله إضافةً إلى أن الحديث الوارد فيه واضح الدلالة على الجواز مطلقاً ، وليس هناك دليل يقيده في نظرهم فيبقى على اطلاقه ، كما أن ذلك يحقق مصالح معتبرة ، حيث قال الإمام أبو بكر بن العربي : ( إن ما جاء في مال المملوك ينبني على القاعدة العاشرة وهي المقاصد ، والمصالح التي تقتضي جوازه ، لأن المقصود ذاته ، لا ماله ، والمال وقع تبعاً ) [36].

3 ـ قاعدة الكثرة والغلبة :

والمقصود بهذه القاعدة أن العبرة بالكثير الغالب ، وليس بالقليل النادر ، وبالتالي فهذه النسبة القليلة من التصرفات المحظورة لا تجعل العقد الوارد على معقود عليه حلال في أنشطته العامة الكثيرة الغالبة حراماً.

الأدلة على اعتبار قاعدتي الكثرة والغلبة :

هناك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والقواعد الفقهية ، ثم من أقوال الفقهاء على اعتبار الكثرة والغلبة في كثير من المجالات الإسلامية ، ففي باب العقوبات الإلهية للأمم والشعوب وفي باب المعاصي أيضاً جرت سنة الله على اعتبار الكثرة والغلبة ، فالله تعالى لن يهلك قوماً وأكثرهم مصلحون كما أن العقوبة إذا نزلت بسبب الكثرة تعم ، فقال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة )[37] ، حيث يدل على أن الفتنة تنـزل بسبب عصيان الأكثرية مع وجود الأقلية الصالحة ، وقد أكد ذلك الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن  زينب بنت جحش ” رضي الله عنها ” قالت : استيقظ النبي e من النوم محمراً وجهه وهو يقول : لا إله إلاّ الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب … قيل : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث )[38].

ويدل على اعتبار الكثرة والغلبة الحديث الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ( إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث )[39] فهذا الحديث يدل بوضوح عل اعتبار الكثرة والغلبة وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس بملاقاته النجاسات ، أو بوقوعها فيه ، وما ذلك إلاّ للكثرة والغلبة إلاّ إذا تغير لونه ، أو طعمه أو ريحه ، فحينئذ حكم عليه بالنجاسة ، لأن الغلبة أصبحت للنجاسة وليست للماء الطاهر .

وإذا نظرنا إلى أصل الحلال والحرام لوجدناه يعود إلى باب التغليب والترجيح والكثرة فقد بين الله تعالى في الخمر والميسر أن فيهما الإثم والمنافع ، ولكن إثمهما أكثر وأكبر ولذلك حرمهما الله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما )[40] ، قال جماعة من المفسرين : ( الإثم في الخمر ذهاب العقل ، والسباب والافتراء والإذاية ،والتعدي … والمنفعة فيها : اللذة والنشوة والتجارة فيها )[41] ، يقول سيد قطب رحمه الله : ( وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم ، فالأشياء والأعمال قد لا تكون شراً خالصاً فالخير يتلبس بالشرّ ، والشرّ يتلبس بالخير في هذه الأرض ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير ، أو غلبة الشر ، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع فتلك علة التحريم والمنع ، وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع )[42] .

ومن جانب آخر أن ترتيب الأحكام الشرعية تقوم على هذه القوة وتسلسلها من حيث المصالح الدينية والدنيوية والمفاسد ، ففي قمة المصالح الفروض والواجبات ، ثم السنن والمباحات ، وفي قمة الفساد الشرك والكبائر ، والمحرمات والمكروهات كما أوضح ذلك الإمام العز بن عبد السلام ، والإمام الشاطبي[43]. فقد ذكر العز أن المصالح ضربان : أحدهما ما يثاب على فعله لعظم المصلحة من فعله ويعاقب على تركه لعظم المفسدة في تركه … والثاني ما يثاب على فعله لوجود مصلحة دون مصلحة الواجب ولا يعاقب على تركه لعدم وجود مفسدة … وكذلك رتب المفاسد منقسمة إلى الكبير ، والأكبر ، والمتوسط ، فالأنقص فالأنقص [44] .

وكذلك الحال في فقه الموازنات وقاعدة الموازنات بين المصالح والمفاسد ، وداخل المصالح أنفسها ، أو المفاسد أنفسها ، كلها تقوم على أساس التغليب والترجيح بالكثرة والغلبة أو القوة والضعف ، والجلاء والخفاء[45] .

وكذلك الأمر في ترجيح الحقوق وتقديم بعضها على بعض ، وقاعدة الوسائل والمقاصد ، والجزئيات والكليات ، بل قواعد الترجيح عند التعارض في الأدلة والحقوق والأشياء كل ذلك يقوم على هذا الأساس [46] ، وحتى القياس يقوم على غلبة شبه على شبه آخر [47] ، وكذلك الأعراف إنما يرجح عرف على آخر إما باطراده وعمومه ، أو بغلبته ، وهي من قواعد المجلة بلفظ ( إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت ) [48].

قال القرافي : ( اعلم أن الأصل اعتبار الغالب وتقديمه على النادر وهو شأن الشريعة )[49].

وقصدي من ذلك أن رعاية الكثرة والقلة ، والغلبة والقوة والضعف أصل عظيم من أصول هذه الشريعة فلا يجوز إنكاره ، كما أنه صالح لأن يبنى عليه ، لأنه يدخل ضمن الأصول الكلية والقواعد الكلية التي يمكن البناء عليها كما قال الشاطبي وغيره[50] .

وأجمع الفقهاء على أن ما غلب على طعم الماء وريحه ولونه من النجاسات ينجسه ، بل وقد ورد في ذلك حديث اسناده ضعيف رواه ابن ماجه بسنده عن أبي أمامة الباهلي ( قال : قال رسول e : ” إن الماء لا ينجسه شيء إلاّ ما غلب على ريحه ، وطعمه ولونه )[51] .

وقد قال ابن العربي ( والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم )[52] ، والواقع أن معظم القضايا الفقهية قد بينت على الغالب والأكثر ، بل الفقه نفسه هو الظن الغالب ، والاجتهاد أيضاً ترجيح ما يراه الراجح من بين عدة احتمالات أو آراء أو معان ، ولا يطالب المجتهد في الوصول إلى رأيه بأكثر من الظن الغالب ، والظن هو ـ كما قال الجرجاني ـ الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ، أو بعبارة أخرى ترجيح أحد طرفي الشك [53]، وقد بنى الفقه كثيراً من الأحكام على الظن في مختلف أبوابه من العبادات إلى المعاملات والجنايات ونحوها وذلك في باب الطهارة والنجاسات ، ودخول وقت الصلاة ، وجهة القبلة ، والخوف المرخص من صلاة الخوف ، وخوف المرض المرخص للإفطار والتيمم وفي أوقات الصوم ونحو ذلك مما ذكرنا آنفاً [54].

قال القرطبي : ( وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن كالقياس وخبر الواحد ، وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات )[55] .

والغبن إنما يؤثر عند بعض الفقهاء إذا كان فاحشاً أي كثيراً ، وكذلك الغرر والجهالة ، ولذلك اغتفر عن الغبن اليسير ، والغرر اليسير ، والجهالة اليسيرة ، والنجاسة اليسيرة عند .

والإفلاس في الفقه الإسلامي إنما يحكم به عند جمهور الفقهاء إذا كثرت الديون أو غلبت على أموال المدين فمن كان له مال ولكن عليه ديون استغرقته فيحجر عليه عندهم ، وهذه الغلبة تتحقق بزيادة الديون على أمواله ولو كانت بنسبة قليلة جداً ، حيث نصّوا على أن ماله إذا قصر عن ديونه بأية نسبة جاز للدائنين أن يطلبوا الحجر عليه[56] .

وأما القواعد الفقهية الواردة بلفظ الكثرة ، أو الأكثر فمقررة لدى فقهاء المذاهب كلها منها ما جاء في المبسوط للسرخسي ” 9/19 ” (الأكثر ينـزل منـزلة الكمال،والأقل تبع للأكثر) وفيه أيضاً ” 25/28 ” ( يقام الأكثر مقام الكل ) ، وفي البيان والتحصيل          ” 7/306 ” ( الأقل تبع للأكثر شائعاً كان أو غير شائع ) ، وفي الحاوي للماوردي           ” 7/366 ” ( اليسير يكون تبعاً للكثير ،ولا يكون الكثير تبعاً لليسير) ، وفي قواعد العز   ” 2/157 ” ( القليل يتبع الكثير في العقود ) ، وفي المقنع “2/ 740 ” ( الأكثر قد أجري مجرى الكل ) ، وفي كشاف القناع ” 1/281 ” ( الأكثر ملحق بالكل ) ، ولذلك قال ابن العربي في الأحكام ” 4/1804 ” ( والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم ) .

وبلفظ الأغلب أيضاً جاءت مجموعة من القواعد منها ما جاء في مختصر اختلاف العلماء للطحاوي ، اختصار الجصاص “1/443” ( الاعتبار بالأغلب) ، وفي المبسوط “10/196” (الحكم للغالب ، لأن المغلوب يصير مستهلكاً في مقابلة الغالب ، والمستهلك في حكم المعدوم ) ، وفي التمهيد لابن عبد البر “8/136″(بالأغلب من الأمور يقضي ، وعليه المدار ، وهو الأصل)، وفي الحاوي للماوردي “5/135” ( النادر من الجنس يلحق بالغالب منه في الحكم ) ، وفي المبدع لابن مفلح “7/54” ( العبرة بالغالب ) ، وفي زاد المعاد      “5/421” ( الأحكام إنما هي للغالب الكثير ، والنادر في حكم المعدوم )[57] .

ومن المعلوم أن تلك الكثرة والغلبة لم يربطهما الفقه الإسلامي بالزيادة على 50% ولو بالنصف أو الواحد ، كما هو العرف في عالم الانتخابات اليوم ولذلك كان الفقهاء يطلقون في مقابل الكثير اليسير ، وفي مقابل الغالب النادر ، وقد أطلق الرسول e الكثرة على الثلث في حديث سعد حينما أراد أن يوصي بجميع أمواله ، ثم بالنصف ، ثم بالثلث ، فقال e : ( الثلث والثلث كثير )[58] ، ولذلك كان من رأي ابن عباس أن يصار إلى الربع حيث قال : ( لو أن الناس عفوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله e قال : الثلث والثلث كثير)[59] .

ولذلك اختلف الفقهاء في معيار الكثرة والقلة اختلافاً كثيراً ، ففي مجال الغبن الكثير المؤثر في لزوم العقد أو صحة العقد نجد اتجاهين : اتجاهاً يختار معياراً تحديدياً جامداً مثل الثلث ، أو العشر ، واتجاهاً يختار معياراً مرناً وهو عرف التجار بالنسبة للمعاملات المالية [60].

وبالنسبة للأغلب أو الغالب أن بعض الفقهاء وضعوا له معيار العرف بصورة عامة وذلك بأن يكون العرف به جارياً بين الذين تعارفوه في أكثر أحوالهم ، ويكون جريانهم عليه حاصلاً في أكثر الحوادث لا تتخلف وبعضهم وصفوا الغالب بالشايع وحينئذ جعلوا مقابله النادر الذي لا حكم له[61] .

وبصورة عامة يتجه المذهب المالكي إلى اعتبار ضبط القليل بالثلث وما زاد عليه يكون كثيراً حيث قال أبو عمران الفارسي : ( والثلث آخر القليل وأول الكثير )[62] ، وقال المازري : ( الثلث قليل في مواضع من الشرع )[63] ، وقد حكموا هذا الأصل في مواضع كثيرة منها الغبن اعتبروه كثيراً وفاحشاً إذا تجاوز الثلث [64] ، ومنها بيع المحلى بالذهب أو الفضة حيث أجازوا بيعه بشروط منها أنها لا تتجاوز الحلية قدر الثلث [65]، وكذلك بيع ثمار البستان مع استثناء ثلثه أجازه مالك خلافاً للجمهور قال ابن عبد البر : ( أما فقهاء الأمصار … فكلهم يقول : إنه لا يجوز … لأنه مجهول ، إلاّ مالك بن أنس فإنه أجاز ذلك إذا كان ما استثنى منه معلوماً ، وكان الثلث فما دونه في مقداره ومبلغه ، فأما أهل المدينة فعلى ما قال مالك : إنه الأمر المجتمع عندهم … واحتج أصحابنا لذلك بأن ما روي عن النبي e أنه نهى عن الثنيا [66]، فإنما ذلك في استثناء الكثير … وأما القليل من الكثير فلا ، وجعلوا الثلث فما دونه قليلاً … ) [67].

وإليه مال ابن قدامة وابن مفلح من الحنابلة حيث ذكرا أن:(الثلث في حد الكثرة وما دونه القلة )[68].

واتجه بعض المعاصرين إلى أن القليل هو ما دون النصف وأن ما زاد على النصف فهو كثير حيث جاء هذا المعيار ضمن الضوابط الخاصة بصندوق المتاجرة بالأسهم العالمية للبنك الأهلي التجاري السعودي[69] ، وهذا المعيار قد أخذ بالحسبان في الفتوى الصادرة من الهيئة الشرعية للبركة حول الصناديق الاستثمارية والإصدارات [70].

غير أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي اعتمد الغالب دون تحديده بأية نسبة مما تُفهم منه الغلبة المطلقة حيث نصّ القرار رقم 30 ( 5/4 ) على أنه ( إذا صار مال القراض موجودات مختلفة من النقود والأعيان والمنافع  فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقاً للسعر المتراضي عليه على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعياناً ومنافع ، أما إذا كان الغالب نقوداً ، أو ديوناً فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية  … ) ، ولكن لم تصدر