13/08/2010
يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات رمضانيات، وقد تناولنا فيه عبر الحلقتين الماضيتين تعريف المشكلة الاقتصادية وتطرقنا الى شرح معنى الحاجات والمنافع وتحديد الاسلام لها، وفي هذه الحلقة يتناول فضيلته الحديث عن (المشكلة الاقتصادية فى الفكر الشيوعى):
لا يعترف الفكر الشيوعي بوجود المشكلة الاقتصادية بسبب الندرة، او تعدد الحاجات، فقد هاجم ماركس هجوماً لاذعاً على هذه النظرية، واعتبر عدم كفاية الموارد لأعداد السكان المتزايدة تشهيراً بالجنس البشري وتنقيصاً له، وحمّل الفكر الرأسمالي صنع هذه المشكلة وآثارها.
والمشكلة في الفكر الاشتراكي هي الصراع، والتناقض بين ما يأتي:
أ)-التناقض بين الانتاج والاستهلاك، وذلك لأن الكمية المتزايدة من السلع التي لها أرباح كبيرة للرأسماليين تؤدي إلى تصديرها، او تصدير معظمها وحينئذ تؤدي إلى التضييق على العمال والطبقة الكادحة.
ب)-التناقض بين المؤسسات القادرة والمؤسسات الأقل قدرة، وبينها وبين مصلحة المجتمع، وذلك لأن أية مؤسسة قادرة تحاول تحقيق أهدافها من تضخيم الربح ولو كان ذلك على حساب المجتمع، أو مؤسسة أخرى، فترك هذه الحرية لها يؤدي أيضاً إلى التصادم والفوضى في كافة القطاعات الانتاجية، لذلك يجب على الدولة التدخل بالتخطيط والتنظيم المباشر.
ج)-التناقض بين مالكي وسائل الانتاج، والعمال طبقة البوليتاريا، فالفكر الاشتراكي يرى أن كل المفاسد تأتي من الملكية الخاصة فهي المسؤولة عن كل هذه المظالم التي وقعت على العمال والفقراء، لأنها تؤدي إلى علاقات توزيعية ظالمة ومجحفة بحقهم، لذلك لا بدّ أن تلغى وأن تحل محلها الملكية الجماعية لجيمع وسائل الانتاج من خلال ثورة (البروليتاريا) واستيلائها على الحكم، وبالتالي تولي الدولة للتوزيع الجماعي وفق الخطة المركزية ).
الحل الاشتراكي الشيوعي
يكمن الحل في الفكر الاشتراكي فيما يأتي:
1. إلغاء الملكية الخاصة، وتملك الدولة لوسائل الانتاج، لأن جميع المشاكل والصراعات تأتي بسبب الملكية الفردية، إذن فالحل هو إلغاؤها.
2. إن الخطة المركزية هي التي تشمل الاجابة عن الأسئلة السابقة: ماذا ننتج ؟ وكيف ننتج ؟ لمن ننتج؟ وكيف نوزع ؟ كل ذلك خاضع لتخطيط الدولة فقط، ولذلك كان تطبيقها يحتاج إلى جيش من الاقتصاديين الذي يعملون في التخطيط حتى بلغوا إلى قريب من مليون شخص في الاتحاد السوفياتي السابق. نقد الحل الاشتراكي:
1- فمن الناحية العملية فإن الفكر الاشتراكي المتمثل في الفكر الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السابق قد ثبت فشله تماماً ـ كما سبق ـ.
2- وأما من الناحية الفكرية فإن المبنى (الذي بنى عليه ماركس ومن معه من أصحاب الفكر الشيوعي هو أن العلاقات بين الناس تقوم على الصراع والتناقض، وأن أسس المشكلة هو الملكية الخاصة ) متصدع تماماً فالعلاقات يمكن أن تقوم بين المالك والعامل على أساس الاخوة الايمانية والتعاون والتراحم والتكامل كما هو الحال في ظل النظام الاسلامي الذي يفرض الحقوق على الأغنياء لصالح الفقراء، وتحقيق مجتمع التكافل والجسد الواحد.
3- ومن جانب آخر فإن الملكية فطرة فَطَرَ الله الناس عليها، وبالتالي فهي دافعة للانتاج، وبدونها لن يكون هناك التنافس المطلوب للتطوير والتقدم.
4- ان العامل الاقتصادي ليس هو الأساس في تكون نظام التوزيع، أو تكوين الأنظمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية إذ من الممكن أن يحتفظ نظام واحد بكيانه وصلاحيته على مرّ الزمن وان اختلفت أشكال الانتاج كما هو الحال في النظام الاسلامي الذي لا تختلف ثوابته، وقواعد التوزيع فيه في عصر المحراث عن عصر التكنولوجيا المتطورة.
5- ان المبالغة في التخطيط المركزي لدى الفكر الاشتراكي الشيوعي أدت إلى مشاكل كبيرة وأزمات خانقة، وذلك لأن تدخل الدولة في مفاصل الحياة الاقتصادية وفي جزئياتها من خلال التخطيط المركزي أدى إلى الخسائر الكبيرة التي تحملها القطاع العام، وإلى نسبة كبرة من الهدر والتبديد ـ وأكبر مثال على ذلك: أوروبا الشرقية، وأوروبا الغربية ـ حيث ذلك يؤدي أيضاً إلى مصادرة الحريات، وكبتها، وقتل روح الطموح، والابتكار والابداع، وظهور دكتاتورية (البروليتاريا) التي أذاقت شعوبها أشد أنواع الأذى والتعذيب والويلات والدمار، وسفك الدماء دون مساءلة ولا اعتبار، ولا تعارف بما فعله النظام الرأسمالي.
المشكلة الاقتصادية وحلها في نظر الإسلام
الإسلام دين واقعي نزل على البشر ليحل مشاكلهم، وليحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة، لذلك فله رؤيته لحلّ المشكلة الاقتصادية، وذلك كالآتي:
أولاً ـ موضوع ندرة الموارد:
من خلال النصوص الشرعية يتبين لي أن موقف الإسلام من هذه المسألة ذو شقين، هما: الناحية العقدية والحقيقية، والناحية التطبيقية.
أ ـ فمن الناحية العقدية فإن المؤمن يؤمن بأن الله تعالى قدر في هذا الكون ما يكفي لمن يعيش فيه إلى ان يرث الله الأرض وما فيها، فقال تعالى: ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) قال الطبري: (قوله: وبارك فيها يقول: وبارك في الأرض، فجعلها دائمة الخير لأهلها… (وقدر فيها أقواتها): اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: «وقدر فيها أقوات أهلها، بمعنى أرزاقهم ومعايشهم
«وهذا قول الحسن، وابن زيد، والسدي، وقال آخرون: « بل معناه: وقدر فيها ما يصلحها «وهذا قول قتادة، ثم قال الطبري: « والصواب من القول في ذلك أن يقال: (إن الله تعالى أخبر أنه قدر في الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله: وقدر فيها أقواتها أنه قدر قوتاً دون قوت، بل عمّ الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات…. ) وكذلك يدل على ذلك قوله تعالى: ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) حيث جاء بعد الأمر بالانفاق مما رزقهم الله تعالى، وفي سياق أن الله تعالى هيأ الكون كله للاستخلاف، وليعيش فيه الإنسان عيشة غنية فقال تعالى: ( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْانْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
تسخير الكون لتمكين الانسان
فهذه الآيات تدل على أن الله تعالى خلق للإنسان السموات والأرض، وأن كل شيء فيها يؤدى دوره في خدمة الإنسان من الشمس والقمر وغيرهما، ومن المطر وما يترتب عليه من وجود المياه والبحار، وتسخير السفن ونحوها، وبعبارة آخرى تسخير الكون كله بما فيه لتمكين الإنسان من الأرض، وقد لخص الطبري ذلك بقوله: يقول تعالى جلّ ذكره: واعطاكم مع انعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم، والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغرسها من كل شيء سألتموه، ورغبتم إليه شيئاً…. ثم قال: قال بعضهم ـ أي من أهل التأويل ـ معناه: وآتاكم من كل ما رغبتم إليه فيه وهذا قول الحسن ومجاهد…، وقال آخرون: بل معنى ذلك: وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه، وهذا قول ركانة بن هاشم، بل قرأ ذلك آخرون: وآتاكم من كلٍّ، ما سألتموه بتنوين كل وترك إضافتها إلى ما بمعنى: وآتاكم من كل شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه، وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار، وخلق ذلك لهم من غير ان يسألوه، وهذا قول الضحاك، حيث كان يقرأ من كلٍ ما سألتموه ويفسره: أعطاكم أشياء ما سألتموها ولم تلتمسوها، ولكن أعطاكم برحمته وسعتها….، وهو أيضاً قول قتادة… ).
موارد متنوعة
إذن تبين لنا أن عقيدة الإسلام تقوم على أن الموارد من حيث هي كثيرة ومتنوعة ولا تنتهي مهما بلغ عدد البشر ما دام سائراً على منهج الله تعالى في التعمير وهذا هو الحق، وعين الحقيقة، فلو استغل كل ما في الأرض من جبال وصحارى، وسهول، ومن بحار وخيرات وما في السماء كذلك من موارد وبركات، فإنه يكفي للبشرية مهما ازداد العدد، ولا سيما إذا استعملت التقنيات المعاصرة المتطورة القادرة على زيادات كبيرة في مجال الإنتاج في مجال الزراعة والصناعة وغيرهما، بل إن أميركا وحدها قادرة على إنتاج الغذاء للعالم أجمع، وأن السودان لو استغلت أرضه فإنها سلة الغذاء الذي يكفي العالم العربي، بل العالم الإسلامي.
خرافة لاستغلال العالم الثالث
ولذلك فالجوع مصنوع، والندرة في حقيقتها خرافة لأجل استغلال العالم الثالث، واحتلاله، وهذا ما يقوله بعض المفكرين حتى من غير المسلمين فهذا فرانسيس مورلاييه، وجوزيف كولنز ألفا كتاباً ترجم إلى العربية في عام 1983م: تحت عنوان: صناعة الجوع، خرافة الندرة وكتاباً آخر آخر في عام 1980 ترجم إلى العربية بعنوان: خرافات عن الجوع في العالم فقال: ( الخرافة الأولى: يجوع الناس بسبب الندرة، يوجد الجوع في مقابل الوفرة، وهنا يكمن الانتهاك، فالأرض تنتج الان أكثر مما يكفي لتغذية كل مخلوق بشري، سواء كان على مستوى الكون، أو على مستوى كل بلد…) وقريباً من هذا قال الاقتصادي الدكتور جلال أحمد أمين في مقال له في مجلة العربي بعنوان: خرافة الحاجات الإنسانية غير المحدودة.