وهذا الحل مبني على اعتبار الكثرة أو الغلبة أساساً ومعياراً في حالة اختلاط النقود والديون والأعيان والمنافع ، فإذا كانت الأعيان أو المنافع أو هي معاً كثيرة أو غالبة في عناصر المبيع جاز التعامل به بيعاً وشراء بغض النظر عن الأحكام الخاصة بنقد أو دين .
الفرق بين الكثرة والغلبة :
فرق بعض الباحثين أن الغلبة هي ما يقرب من الكل مثل الثمانين أو التسعين في المائة [1]، وأن الكثرة هي ما زاد عن 50 % . ولم أرَ هذه التفرقة في اللغة ، بل جاء فيها : الأغلب هو الأكثر ، والأغلبية : الكثرة [2]، وجاء في المعجم الوسيط ” الأغلبية الكثرة ، والأغلبية المطلقة في الانتخاب أو الاقتراع : أصوات نصف الحاضرين بزيادة واحد ( محدثة ) والأغلبية النسبية : زيادة أحد المرشحين في الأصوات بالنسبة إلى غيره. ( محدثة )[3] . وعرف التهانوي التغليب في الاصطلاح بأنه ( إعطاء الشيء حكم غيره وقيل : ترجيح أحد المغلوبين على الآخر إجراء للمختلفين مجرى المتفقين )[4] .
وأما الأكثر ففي اللغة هو ما فوق النصف ، والأكثرية الأغلبية ، والكثر : معظم الشيء وأكثره ، والكثرة نماء العدد ، والكثير نقيض القليل[5] .
والخلاصة أن الكثرة تطلق في اللغة على ما هو كثير حسب النظر والعرف دون ملاحظة النسبة المئوية بأن تزيد على 50% ، فالعرب يطلقون على الشيء أنه كثير ،و لا يتصورون انه أكثر من الباقي أو الآخر ، وإنما يراد به أنه كثير في حد ذاته ، فالكثير هو نقيض القليل ، فما خرج عن كونه قليلاً فهو كثير دون ملاحظة النسبة المئوية ، جاء في لسان العرب : الكثرة نقيض القلة ..وقوم كثير، وكثيرون ، والكثرة نماء العدد يقال : كثر الشيء يكثر كثرة فهو كثير ، وكثر الشيء ـ بتشديد الثاء ـ أي جعله كثيراً ، وأكثر الرجل أي كثر ماله)[6] .
فالكثرة تعني ضد القلة ،والكثير هو ما لم يكن قليلاً حسب النظر والعرف والحال والمقام ، وأما التفاضل فهو يتم بلفظ الأكثر الذي هو من صيغ المفاضلة ، لذلك خصص العرب الأكثر لما هو فوق النصف[7] ، فيقال هذا اكثر من هذا أي يتفوق عليه ويزيد عليه بأي زيادة ، وهذا يجري عادة في المقابلة بين شيئين متماثلين ، أو معدودين ، وقد يكون الشيء كثيراً بالنسبة لهذا ، وقليلاً بالنسبة لذلك ،وهذا ما استعمله القرآن الكريم حيث قال : (ألم تر ان الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض ..وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب …)[8] فاستعمل الكثير مرتين مرة للمساجد ،ومرة للمستحقين للعذاب من الكفرة والمشركين ، فكيف يتأتى ذلك ؟
للجواب عن ذلك أن المراد بالكثير هنا هو ما قاله ابن عباس في رواية عطاء : (وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده)[9] النص يفهم منه أن هذه الكثرة للفريقين ليست من باب المقابلة ،أي فالذين يسجدون سجدة الطاعة ،ويدخلون الجنة كثيرون ، وكذلك الذين يدخلون النار كثيرون أي ليسوا قليلين ، كما يقال للجيشين المتقابلين أنهما كثيران ، حيث لا يقصد بذلك إلاّ الكثرة العادية التي لا ينظر إليها المقابلة الحقيقية ،أو الكثرة العرفية أي أن ذلك كثير عرفاً .
وعلى هذا المعنى العام ،والعرفي يحمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لسعد : (الثلث ،والثلث كثير)[10] حيث لا يقصد به أن الثلث كثير بالنسبة للباقي ، وإنما يقصد به أنه انفاق كثير وتبرع كبير حسب العرف دون النظر إلى المقابلة بينهما ، وإلا فالثلث هو يساوي حوالي 33% والباقي حوالي 67% . ولذلك إذا أريد الزيادة فيستعمل لفظ الأكثر لهذه المفاضلة والمقابلة .
فلو سرنا على هذا المعنى فيمكن القول بأن الأعيان والمنافع والحقوق المعنوية لو بلغت الثلث ، او تجاوزته فهي كثيرة وليست قليلة ،وبالتالي يجوز إجراء العقود عليها دون ملاحظة قواعد الصرف ، والدين .
ولكن بعض الفقهاء يذكرون النادر في مقابل الغالب ، حيث قالوا ( العبرة بالغالب ، والنادر لا حكم له ) ولكن أكثرهم عندما يذكرون النادر يصفون الغالب بالشايع فيقولون ( العبرة بالغالب الشايع ، لا بالقليل النادر )[11]، ولكنني أرى تفرقة وجيهة أخرى في نظري من جانب آخر ، وهو أن الكثرة للأعداد ، والماديات ، والغلبة للكيفيات ونحوها ، ولذلك يطلق الفقهاء غلبة الظن في كثير من الأحكام الفقهية وفي معظم أبواب الفقه مثل أبواب الطهارة ، والحيض ، والقبلة ، وأوقات الصلاة ، والشك في عدد الركعات ، وفي تميز الفقير وغيره من أصناف الزكاة ، معرفة دخول شهر رمضان ، وطلوع الفجر ، وغروب الشمس للصائم إذا اشتبه عليه ذلك يحبس ونحوه ، وفي الحج إذا شك الحاج هل أحرم بالإفراد ، أو بالتمتع ، أو بالقران ، وفي مَنْ التبست عليه المذكاة بالميتتة ، أو وجد شاة مذبوحة ببلد فيه من تحل ذبيحته من المسلمين وأهل الكتاب ، ووقع الشك من ذابحها ، وفي الدماء في باب القسامة ، ونحو ذلك [12].
وقصدي من هذا العرض أن الكثرة العددية معتبرة ، كما أن الغلبة الكيفية من حيث القوة أيضاً معتبرة ، إذن يمكن اعتبارهما قاعدتين معتبرتين بدل قاعدة واحدة .
الأدلة على اعتبار قاعدتي الكثرة والغلبة :
هناك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والقواعد الفقهية ، ثم من أقوال الفقهاء على اعتبار الكثرة والغلبة في كثير من المجالات الإسلامية ، ففي باب العقوبات الإلهية للأمم والشعوب وفي باب المعاصي أيضاً جرت سنة الله على اعتبار الكثرة والغلبة ، فالله تعالى لن يهلك قوماً وأكثرهم مصلحون كما أن العقوبة إذا نزلت بسبب الكثرة تعم ، فقال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة )[13] ، حيث يدل على أن الفتنة تنـزل بسبب عصيان الأكثرية مع وجود الأقلية الصالحة ، وقد أكد ذلك الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن زينب بنت جحش ” رضي الله عنها ” قالت : استيقظ النبي ” صلى الله عليه وسم ” من النوم محمراً وجهه وهو يقول : لا إله إلاّ الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب … قيل : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث )[14].
ويدل على اعتبار الكثرة والغلبة الحديث الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ( إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث )[15] فهذا الحديث يدل بوضوح عل اعتبار الكثرة والغلبة وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس بملاقاته النجاسات ، أو بوقوعها فيه ، وما ذلك إلاّ للكثرة والغلبة إلاّ إذا تغير لونه ، أو طعمه أو ريحه ، فحينئذ حكم عليه بالنجاسة ، لأن الغلبة أصبحت للنجاسة وليست للماء الطاهر .
وإذا نظرنا إلى أصل الحلال والحرام لوجدناه يعود إلى باب التغليب والترجيح والكثرة فقد بين الله تعالى في الخمر والميسر أن فيهما الإثم والمنافع ، ولكن إثمهما أكثر وأكبر ولذلك حرمهما الله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما )[16] ، قال جماعة من المفسرين : ( الإثم في الخمر ذهاب العقل ، والسباب والافتراء والإذاية ،والتعدي … والمنفعة فيها : اللذة والنشوة والتجارة فيها )[17] ، يقول سيد قطب رحمه الله : ( وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم ، فالأشياء والأعمال قد لا تكون شراً خالصاً فالخير يتلبس بالشرّ ، والشرّ يتلبس بالخير في هذه الأرض ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير ، أو غلبة الشر ، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع فتلك علة التحريم والمنع ، وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع )[18] .
ومن جانب آخر أن ترتيب الأحكام الشرعية تقوم على هذه القوة وتسلسلها من حيث المصالح الدينية والدنيوية والمفاسد ، ففي قمة المصالح الفروض والواجبات ، ثم السنن والمباحات ، وفي قمة الفساد الشرك والكبائر ، والمحرمات والمكروهات كما أوضح ذلك الإمام العز بن عبد السلام ، والإمام الشاطبي[19]. فقد ذكر العز أن المصالح ضربان : أحدهما ما يثاب على فعله لعظم المصلحة من فعله ويعاقب على تركه لعظم المفسدة في تركه … والثاني ما يثاب على فعله لوجود مصلحة دون مصلحة الواجب ولا يعاقب على تركه لعدم وجود مفسدة … وكذلك رتب المفاسد منقسمة إلى الكبير ، والأكبر ، والمتوسط ، فالأنقص فالأنقص [20] .
وكذلك الحال في فقه الموازنات وقاعدة الموازنات بين المصالح والمفاسد ، وداخل المصالح أنفسها ، أو المفاسد أنفسها ، كلها تقوم على أساس التغليب والترجيح بالكثرة والغلبة أو القوة والضعف ، والجلاء والخفاء[21] .
وكذلك الأمر في ترجيح الحقوق وتقديم بعضها على بعض ، وقاعدة الوسائل والمقاصد ، والجزئيات والكليات ، بل قواعد الترجيح عند التعارض في الأدلة والحقوق والأشياء كل ذلك يقوم على هذا الأساس [22] ، وحتى القياس يقوم على غلبة شبه على شبه آخر [23] ، وكذلك الأعراف إنما يرجح عرف على آخر إما باطراده وعمومه ، أو بغلبته ، وهي من قواعد المجلة بلفظ ( إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت ) [24].
قال القرافي : ( اعلم أن الأصل اعتبار الغالب وتقديمه على النادر وهو شأن الشريعة )[25].
وقصدي من ذلك أن رعاية الكثرة والقلة ، والغلبة والقوة والضعف أصل عظيم من أصول هذه الشريعة فلا يجوز إنكاره ، كما أنه صالح لأن يبنى عليه ، لأنه يدخل ضمن الأصول الكلية والقواعد الكلية التي يمكن البناء عليها كما قال الشاطبي وغيره[26] .
وأجمع الفقهاء على أن ما غلب على طعم الماء وريحه ولونه من النجاسات ينجسه ، بل وقد ورد في ذلك حديث اسناده ضعيف رواه ابن ماجه بسنده عن أبي أمامة الباهلي ( قال : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم : ” إن الماء لا ينجسه شيء إلاّ ما غلب على ريحه ، وطعمه ولونه )[27] .
وقد قال ابن العربي ( والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم )[28] ، والواقع أن معظم القضايا الفقهية قد بينت على الغالب والأكثر ، بل الفقه نفسه هو الظن الغالب ، والاجتهاد أيضاً ترجيح ما يراه الراجح من بين عدة احتمالات أو آراء أو معان ، ولا يطالب المجتهد في الوصول إلى رأيه بأكثر من الظن الغالب ، والظن هو ـ كما قال الجرجاني ـ الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ، أو بعبارة أخرى ترجيح أحد طرفي الشك [29]، وقد بنى الفقه كثيراً من الأحكام على الظن في مختلف أبوابه من العبادات إلى المعاملات والجنايات ونحوها وذلك في باب الطهارة والنجاسات ، ودخول وقت الصلاة ، وجهة القبلة ، والخوف المرخص من صلاة الخوف ، وخوف المرض المرخص للإفطار والتيمم وفي أوقات الصوم ونحو ذلك مما ذكرنا آنفاً [30].
قال القرطبي : ( وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن كالقياس وخبر الواحد ، وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات )[31] .
والغبن إنما يؤثر عند بعض الفقهاء إذا كان فاحشاً أي كثيراً ، وكذلك الغرر والجهالة ، ولذلك اغتفر عن الغبن اليسير ، والغرر اليسير ، والجهالة اليسيرة ، والنجاسة اليسيرة عند .
والإفلاس في الفقه الإسلامي إنما يحكم به عند جمهور الفقهاء إذا كثرت الديون أو غلبت على أموال المدين فمن كان له مال ولكن عليه ديون استغرقته فيحجر عليه عندهم ، وهذه الغلبة تتحقق بزيادة الديون على أمواله ولو كانت بنسبة قليلة جداً ، حيث نصّوا على أن ماله إذا قصر عن ديونه بأية نسبة جاز للدائنين أن يطلبوا الحجر عليه[32] .
وأما القواعد الفقهية الواردة بلفظ الكثرة ، أو الأكثر فمقررة لدى فقهاء المذاهب كلها منها ما جاء في المبسوط للسرخسي ” 9/19 ” (الأكثر ينـزل منـزلة الكمال،والأقل تبع للأكثر) وفيه أيضاً ” 25/28 ” ( يقام الأكثر مقام الكل ) ، وفي البيان والتحصيل ” 7/306 ” ( الأقل تبع للأكثر شائعاً كان أو غير شائع ) ، وفي الحاوي للماوردي ” 7/366 ” ( اليسير يكون تبعاً للكثير ،ولا يكون الكثير تبعاً لليسير) ، وفي قواعد العز ” 2/157 ” ( القليل يتبع الكثير في العقود ) ، وفي المقنع “2/ 740 ” ( الأكثر قد أجري مجرى الكل ) ، وفي كشاف القناع ” 1/281 ” ( الأكثر ملحق بالكل ) ، ولذلك قال ابن العربي في الأحكام ” 4/1804 ” ( والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم ) .
وبلفظ الأغلب أيضاً جاءت مجموعة من القواعد منها ما جاء في مختصر اختلاف العلماء للطحاوي ، اختصار الجصاص “1/443” ( الاعتبار بالأغلب ) ، وفي المبسوط “10/196” (الحكم للغالب ، لأن المغلوب يصير مستهلكاً في مقابلة الغالب ، والمستهلك في حكم المعدوم ) ، وفي التمهيد لابن عبد البر “8/136″(بالأغلب من الأمور يقضي ، وعليه المدار ، وهو الأصل)، وفي الحاوي للماوردي “5/135” ( النادر من الجنس يلحق بالغالب منه في الحكم ) ، وفي المبدع لابن مفلح “7/54” ( العبرة بالغالب ) ، وفي زاد المعاد “5/421” ( الأحكام إنما هي للغالب الكثير ، والنادر في حكم المعدوم )[33] .
ومن المعلوم أن تلك الكثرة والغلبة لم يربطهما الفقه الإسلامي بالزيادة على 50% ولو بالنصف أو الواحد ، كما هو العرف في عالم الانتخابات اليوم ولذلك كان الفقهاء يطلقون في مقابل الكثير اليسير ، وفي مقابل الغالب النادر ، وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم الكثرة على الثلث في حديث سعد حينما أراد أن يوصي بجميع أمواله ، ثم بالنصف ، ثم بالثلث ، فقال “صلى الله عليه وسلم ” : ( الثلث والثلث كثير )[34] ، ولذلك كان من رأي ابن عباس أن يصار إلى الربع حيث قال : ( لو أن الناس عفوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” قال : الثلث والثلث كثير)[35] .
ولذلك اختلف الفقهاء في معيار الكثرة والقلة اختلافاً كثيراً ، ففي مجال الغبن الكثير المؤثر في لزوم العقد أو صحة العقد نجد اتجاهين : اتجاهاً يختار معياراً تحديدياً جامداً مثل الثلث ، أو العشر ، واتجاهاً يختار معياراً مرناً وهو عرف التجار بالنسبة للمعاملات المالية [36].
وبالنسبة للأغلب أو الغالب أن بعض الفقهاء وضعوا له معيار العرف بصورة عامة وذلك بأن يكون العرف به جارياً بين الذين تعارفوه في أكثر أحوالهم ، ويكون جريانهم عليه حاصلاً في أكثر الحوادث لا تتخلف وبعضهم وصفوا الغالب بالشايع وحينئذ جعلوا مقابله النادر الذي لا حكم له[37] .
وبصورة عامة يتجه المذهب المالكي إلى اعتبار ضبط القليل بالثلث وما زاد عليه يكون كثيراً حيث قال أبو عمران الفارسي : ( والثلث آخر القليل وأول الكثير )[38] ، وقال المازري : ( الثلث قليل في مواضع من الشرع )[39] ، وقد حكموا هذا الأصل في مواضع كثيرة منها الغبن اعتبروه كثيراً وفاحشاً إذا تجاوز الثلث [40] ، ومنها بيع المحلى بالذهب أو الفضة حيث أجازوا بيعه بشروط منها أنها لا تتجاوز الحلية قدر الثلث [41]، وكذلك بيع ثمار البستان مع استثناء ثلثه أجازه مالك خلافاً للجمهور قال ابن عبد البر : ( أما فقهاء الأمصار … فكلهم يقول : إنه لا يجوز … لأنه مجهول ، إلاّ مالك بن أنس فإنه أجاز ذلك إذا كان ما استثنى منه معلوماً ، وكان الثلث فما دونه في مقداره ومبلغه ، فأما أهل المدينة فعلى ما قال مالك : إنه الأمر المجتمع عندهم … واحتج أصحابنا لذلك بأن ما روي عن النبي ” صلى الله عليه وسلم ” أنه نهى عن الثنيا [42]، فإنما ذلك في استثناء الكثير … وأما القليل من الكثير فلا ، وجعلوا الثلث فما دونه قليلاً … ) [43].
وإليه مال ابن قدامة وابن مفلح من الحنابلة حيث ذكرا أن:(الثلث في حد الكثرة وما دونه القلة )[44].
واتجه بعض المعاصرين إلى أن القليل هو ما دون النصف وأن ما زاد على النصف فهو كثير حيث جاء هذا المعيار ضمن الضوابط الخاصة بصندوق المتاجرة بالأسهم العالمية للبنك الأهلي التجاري السعودي[45] ، وهذا المعيار قد أخذ بالحسبان في الفتوى الصادرة من الهيئة الشرعية للبركة حول الصناديق الاستثمارية والإصدارات [46].
غير أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي اعتمد الغالب دون تحديده بأية نسبة مما تُفهم منه الغلبة المطلقة حيث نصّ القرار رقم 30 ( 5/4 ) على أنه ( إذا صار مال القراض موجودات مختلفة من النقود والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقاً للسعر المتراضي عليه على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعياناً ومنافع ، أما إذا كان الغالب نقوداً ، أو ديوناً فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية … ) ، ولكن لم تصدر هذه اللائحة إلى الآن .
وقد رجح الدكتور عبدالستار أبو غدة هذا الرأي ، واعتمد على مبدأ الغلبة المطلقة حيث قال في شرحه لمبدأ مراعاة الغلبة في الأعيان :(المقصود من هذا المبدأ أن يراعى العنصر الغالب في مكونات الأسهم المختلفة أي المركبة من نقود وديون وأعيان ومنافع ، فإذا كان الغالب في هذه الحالة أعياناً ومنافع فإنه يسري حكمها على تلك المكونات وهو جواز التداول دون مراعاة التماثل أو التقابض..)[47] .
ومن الجدير بالإشارة إليه أن الحقوق المعنوية بما انها مال كما صدر بذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي ( قرار 43 ” 5/5 ” ) لا بدّ أن تحسب ضمن موجودات الشركة ، أو الصندوق وتضم إلى الأعيان والمنافع .
وقد ذكر الفقهاء أنه إذا بنى حكم عل أمر غالب فإنه يبنى تماماً ، ولا يؤثر على عمومه واطراده تخلف ذلك الأمر في بعض الأفراد ، أو بعض الأوقات ، أو بعض الأماكن[48] .