لقد ناقش البحث عدة طروحات لحل هذه المشكلة ، وتوصل إلى أن الحل الناجع يكمن فيما يأتي :
1) رعاية مبدأ الأكثرية أو الأغلبية.
وهـذا المبـدأ يحتمـل أمريــن :-
أ/ رعاية مبدأ الأكثرية والغلبة المطلقة، أي أنه إذا كانت الديون والنقود أكثر من 50% فلا يجوز تداول أسهمها أو حصصها إلا مع مراعاة قواعد بيع الديون إذا كان الغالب الديون، وقواعد الصرف إذا كان الغالب هو النقود، وكذلك إذا كانت الأعيان والمنافع والحقوق أكثر من 50% فإنه يجوز تداول أسهمها .
ب / الاعتبار بالكثرة العرفيـة، أي ما يعد في العرف كثيراً مثل الثلث، حيث ” الثلث كثير ” وهنا اختلفت الأنظار هل تعتبر الديون والنقود التي بلغت الثلث تعد كثيرة ؟ أو تعتـبر الأعيان والمنافع والحقوق التي بلغت الثلث كثيرة..؟
ونستبعد الاحتمال الثاني (ب) لأن فيه تحكماً، وليس فيه معيار منضبط، فما دمنا نحتكم إلى قاعدة الأكثرية والغالبية فإن ما زاد على 50 هو المعيار المنضبط.
وقد توصل البحث إلى أن قاعدة الأكثرية مع أنها قاعدة معتبرة في الفقه لكنها لا تحل هذه المشكلة في المؤسسات المالية التي تتعامل بالعقود الآجلة كالمرابحات والاستصناع ، لأن ميزانيات أكثرها تتضمن من النقود والديون الناتجة عن العقود الآجلة أكثر من 90%.
2) رعاية قاعدة الأصالة والتبعية .
وهي قاعدة فقهية معتبرة في الفقه الإسلامي، وانبثقت منها عدة قواعد وتفرعت منها فروع كثيرة متناثرة في مختلف أبواب الفقه وبناء على ذلك أنه إذا كان المقصود الأساسي من الموجودات هو الأعيان والمنافع والحقوق المعنوية فإن تداول أسهمها أو صكوكها أو وحداتها الاستثمارية جائز.
وقد رأينا أن جميع الندوات التي شاركنا فيها قد توصلت إلى اعتبار قاعدة الأصالة والتبعية، وأن الحل الناجع يكمن فيها، وحينئذ يكون التداول جائزاً ما دامت المنافع والأعيان والحقوق هي المقصودة أصلاً ، ولا ينظر حينئذ إلى مقدار الديون والنقود ولا إلى نسبتها – قلة أو كثرة – غير أنه يثير التساؤل حول الأصل المتبوع ؟ هل هو السلع والمنافع ؟ أو هو القيمة المعنوية ؟ أو هو منفعة الأجير أو المضارب ؟ أو هو مجموعة أمور ؟ كل ذلك يحتاج إلى تحرير وتأصيل.
ولتأصيل ذلك توصل البحث إلى أن الأصل المتبوع هو نشاط الشركة وعملها وأغراضها المصرح بها في النظام الأساسي فإن كان غرض الشركة ونشاطها هو العمل في تجارة الأعيان والمنافع والحقوق عن طريق العقود الشرعية كالمرابحة والاستصناع والإجارة ونحوها ، فإن الديون أو النقود الناتجة منها مهما كثرت لا تؤثر في تداول أسهمها إلا في حالات البداية قبل العمل، أو النهاية عند التصفية، وذلك لأن العمل التجاري هو الأصل المتبوع المقصود وأن الديون أو النقود نتجت تبعاً لذلك العمل.
أما إذا كانت أغراض الشركة هي التجارة في العملات أو الصرافة أو بيع الديون وشرائها فقط فإن تداول أسهمها يحتاج إلى تطبيق قواعد الصرف، أو أحكام بيع الديون، وبناءً على ذلك فإن الأصل المتبوع في الشركات (التي تحدد أغراضها في التجارة من خلال عقود البيع والشراء والمرابحة والسَلَمْ والاستصناع والإجارة ونحوها الواقعة على السلع أو المنافع أو الحقوق ) هو ذلك النشاط المتمثل في بيع موجودات الشركة ، أو بقية العقود الأخرى ، وما نتج من ذلك من تحقيق الأرباح . وأن الديون أو النقود ليست هي المقصودة أصالة من تلك الشركات لا من حيث أغراض الشركة ولا من حيث النشاط الفعلي للشركة ولا من حيث القصد العام للمساهمين أو المتعاملين مع الشركة فهم يقصدون حقيقة أنشطة الشركة وإنتاجها ، ومن ثم الحصول على أرباحها.
وحتى من الجانب العملي فإن هذه الشركات إذا تحققت لها نقود أو حصلت الديون أعادت استثمارها في البيع والشراء والعقود الواردة على السلع والمنافع والحقوق، في حين أن الأصل المتبوع في الشركات التي تحدد أغراضها في بيع الديون، أو العملات أو الصيرفة هو ذلك النشاط المتمثل في تحقيق تلك الأغراض التي تتجه الشركة لتحقيقها ، ونجعلها محور نشاطها .
ويدل على ذلك الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الشأن فحديث فضالة بن عبيد عن بيع القلادة التي فيها خرز إلاeالأنصاري (الذي رواه مسلم والذي نهى فيه الرسول بنـزع الخرز، ثم بيع الذهب وحده ) يدل على أن الرسول أوجب النـزع، لأن البيع كان وارداً على الذهب أصالة، وجاء الخرز تبعاً، ولم يعتد الرسول بكلام السائل : أنه يريد الحجر ، لأن القصد الظاهـر في القلادة متجه نحو الذهب فهو الأصل المقصود، مما يعطي للقصد العام الأهمية القصوى، وأما الحديث الصحيح المتفق عليه ” من باع عبداً و له مال، فمالـه للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع ” ففيه أن البيع قد وقع على أصل العبد، وجاء ماله ولو كان ذهباً أو فضه ( كثيراً أو قليلاً تبعا ً ) ،حيث يدل الحديث بظاهره على جواز ذلك دون النظر إلى جنس الثمن لأن لفظ ” مال ” في الحديث يشمل جميع أمواله نقداً كان أو ديناً ، أو عرضاً قليلاً أو كثيراً كما يدل على أن مال العبد المباع مهما كان مقداره أو نوعه فهو تابع له .
وكذلك الحال في الحديث الصحيح المتفق عليه بلفظ ” من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ” حيث يدل على جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحها تبعاً للنخل، مع أنه لا يجوز بيعها وحدها لثبوت النهي عن ذلك .
ومن تطبيقات ذلك ما ذهب إليه الحنابله من أن ” صلاح بعض ثمرة شجرة في بستان صلاح لها – أي للشجرة – وصلاح لسائر النوع الذي في البستان الواحد ” وإنما صح مع ما بدا صلاحه تبعاً له ( كشاف القناع 3/387 ويراجع المغني 6/156 ) وعلى ضوء ذلك يجوز تداول الأسهم أو الصكوك أو الوحدات الاستثمارية مهما كانت نسبة الديون أو النقود بالشروط التالية :-
أن تحدد أغراض الشركة بأعمال التجارة والاستثمار أو الصناعة أو الزراعة من خلال العقود الواردة على السلع أو المنافع أو الحقوق ، أي أن لا تحدد أغراضها في الصيرفة ، أو بيع الديون .
أن لا تقتصر موجودات الشركة أو الصندوق أو الصكوك على النقود والديون فيكون فيها موجودات مادية أو معنوية من أعيان ومنافع دون النظر إلى النسبة.
أن تكون أعمال البيع والشراء والاستصناع ونحوها هي المقصودة أصالة ، وتكون الديون أو النقود قد أتت تابعة غير مقصودة وإنما اقتضتها طبيعة أنشطة المؤسسة بأن كانت تابعة للأعيان والمنافع ، أي أن هناك قصداً تبعياً لها ضمناً.
والمراد بالقصد المعتبر هو أن يكون محل التداول حصة في الوعاء الاستثماري للنشاط المشروع القائم أصالة على المتاجرة في السلع والخدمات غير المقتصر على التعامل في النقود المحضة والديون المحضة أما إذا كان محل التداول الديون – كما في سندات الديون – أو النقود فقط فلا يجوز تداولها إلا على ضوء ضوابط بيع الديون والنقود.
أن تبدأ المؤسسة ممارسة أنشطتها في الأعيان والمنافع أما قبل ذلك فيكون التداول نقداً بالقيمة المدفوعة.
وأن يتوقف التداول عند إعلان التصفية القانونية للمؤسسة .
لا يجوز أن يتخذ القول بالجواز ذريعة أو حيلة لتصكيك الديون وتداولها كأن يتحول نشاط الصندوق إلى المتاجرة بالديون التي نشأت عن السلع ، ويجعل شيء من السلع في الصندوق حيلة للتداول.
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم وأن أكون قد وفقت من الوصول إلى ما اصبو إليه. فهو حسبي ، فنعم المولى ونعم النصير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .