تتسم الديانة المسيحية بالرحمة من خلال الأناجيل وتعاليم السيد المسيح عليه السلام فكانت خطبة المسيح على الجبل قمة في هذه المعاني المثالية ، حيث قال فيها : ( طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات ، طوبى للودعاء ، لأنهم يرثون الأرض ، طوبى للجياع والعطشى إلى البر ، لأنهم لا يشبعون ، طوبى للرحماء ، لأنهم يرحمون ، طوبى لصانعي السلام ، لأنهم أبناء الله يدعون . قد سمعتم أنه قيل للقدماء : لا تقتل ….؛ سمعتم أنه قيل : عين بعين ، وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم : لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فادر له الآخر ، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ، ومن سخّرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين ، سمعتم أنه قيل : أحب قريبك ، وابغض عدوك ، وأما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم …)  .


  وأولت الأناجيل والمواعظ بالرحمة والرأفة والشفقة والحنان كثيراً حيث تكررت هذه الكلمات كثيراً ، كما أنها تركزت على رحمة الله على المسيح بتجسده وفدائه ( حسب عقيدة النصارى الحاليين وأنه تحمل عن الآخرين وفدى بنفسه عن ذنوبهم ) ، يقول بولس الفغالي : ( صور لنا يسوع ملامح الأب برحمته الإلهية فالخطاه الذين استبعدوا من الملكوت بسبب ضيق قلب الفريسيين صاروا أبنا رحمة الله .. فلوقا يستعمل في تشييد التعظيم ( 1 : 46 ـ 55 ) لفظة  ” الإيوس ” لتدل على رحمة الله التي تجمع في إضمامة واحدة كل تأريخ الخلاص بقوة فائقة:(رحمته من جبل إلى جبل للذين يتقونه)       (أ50) .


التطبيق العملي للرحمة أو العنف لدى النصارى :


  على الرغم من أن هذه الكلمات الجميلة في الرحمة ، والمعاني الرائعة للرحمة ، والشفقة ، والتوجيهات والنصائح المثالية في الرحمة لكن الشعوب المسيحية لم تطبق هذه المعاني الموجودة في الأناجيل على الأمم الأخرى بل يبدوا أنهم أيضاً خصصوها بأنفسهم وهذا ما يشهد التأريخ على ذلك .


تعامل الشعوب النصرانية مع اليهود :


 بدأ الصراع منذ أن ولد المسيح عيسى عليه السلام حيث جاء لإصلاح حال بني إسرائيل بعد أن فسدت أخلاقهم وخربت طبائعهم وخاضوا في الأموال وعبادتها بشكل مثير ، جاء في إنجيل متى الإصحاح 21 : ( ودخل عيسى إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل ، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام ، وقال لهم مكتوب بيتي بيت الصلوات يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص ) فكفر اليهودية وحاربوه فقال الهم : كما في إنجيل متى الإصحاح 23 : ( ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون ، لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الصديقين … فأنتم تشهدون على انفسكم أنكم قتلة الأنبياء …. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم …. يا أورشليم يا أورشليم ! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن اجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا  ، هوذا دينكم يترك لكم خراباً … ) وقال إنجيل متى الإصحاح 25 : ( اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وجنده ) . 


 وتآمر اليهود على عيسى وقرر كهنتهم قتله ، فأشاروا على الحاكم الروماني ، لكنه لم يقبل ، لمنهم هم قاموا بصلبه وقتله ، حسب زعمهم ، ولكن القرآن الكريم قال : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)  غير أنه أثبت بأن اليهود قاموا بذلك ، لكن الله تعالى نجى عيسى فرفعه إلى السماء .


  ومن ذلك اليوم اشتدت العداوة بين اليهود والنصارى فحاول اليهود القضاء على النصارى من بكرة أبيهم وفي مهدهم حيث أقنعوا الامبراطور ” مارك أوريل ” بخطورة النصارى ، فأمر بقتل جميع النصارى في روما عام 155م ثم مرة أخرى في عام 214م حيث قتل اليهود مائة ألف مسيحي في رومه ، وقبرص ، وفي عهد الامبراطور ديوكليسن عدداً كبيراً من النصارى من ضمنهم البايوات كاييس ، ومرسلينوس  وقام اليهود بمحاولات متكررة للقضاء على المسيحية بالقوة والعنف ومن خلال تشويه المسيح وأمه مريم ورسالته وسمعته من جانب آخر مما أدى إلى النف المضاد من قبل أتباعه النصارى .


  ويعلن بولس حرباً على اليهود ( أ9 ـ 10 ) فيصفهم بأنهم : ( عاهرون ، عبدة الأوثان ، زناة ، متخنثون ، مضاجعوا الذكور ، سارقون …. ) ثم يقول : ( وهل اليهود أفضل من الوثنيين ؟ كلا فهم خاطئون مثلهم يسرقون ، يزنون ، يسلبون هياكل الأوثان ( ررم 2 : 21 ـ 22 )     ( زاغوا وفسدوا معاً ..؛ أرجلهم سريعة لسفك الدماء وفي مسالكهم الدمار والشقاء ) (ررم 3 : 12 ـ 16 ) .


 فبناءً على هذا العداء الديني التأريخي قام النصارى أيضاً بإقامة عدة مذابح جماعية وإبادية ضد اليهود ، في عهد الإمبراطور الروماني أوغسطس الذي نهب الهيكل وأحرق كتبهم ، كما أن الوالي الروماني في عهد القيصر ( كلود ) سيّر حملة لمطاردة اليهود في المدن والقرى وتكررت حملات الإبادة لليهود من قبل اليهود على أيدي الرومانيين ، ثم الأوربيين ، ففي بريطانيا أمر الملك إدوارد الأول بطرد اليهود من بريطانيا نهائياً في 21 يونيو 1290م  ، وكانت بريطانيا قبل ذلك تعرضت لخراب اقتصادي مما دفع بالملك جون ( يوحنا ) لإصدار أمر بجمعهم ، قم قام الملك هنري الثالث بتعذيبهم وحبسهم وإجبارهم على دفع ثلث أموالهم المنقولة للدولة في عام 1230م ، كما قام إدوارد الأول بمحاكمتهم  بسبب غشهم للعملة وسرقة ذهب الدولة وأعدم منهم 200 يهودي عام 1281م ثم طردهم كما سبق  .


 وفي فرنسا تعرض اليهود للذبح والقتل والحرق والتشريد والطرد من البلاد حيث طردهم لويس أغسطس أولاً ثم عادوا بعد عشرين سنة وفي عهد لويس التاسع ألغى ثلث ما كان لهم من ديون على الحكومة والكنائس وأفراد الشعب ، ثم اصدر أمراً ملكياً بحرق جميع كتبهم وخاصة التلمود ، ثم طردوا في عهد فيليب وأصابهم القتل والنهب ، ثم عادوا إلى البلاد ، وفي عام 1341م هاج الشعب في أواسط فرنسا وذبحوا من اليهود أعداداً كبيرة وطردوهم ، حيث لم يبق في فرنسا عام 1394 يهودي واحد  .


 ثم عاد اليهود بعد تشريدهم في اسبانيا ، ولكن لم يؤذن لهم بالسكنى في المدن إلاّ في أواسط القرن السادس عشر ، وفي الثورة الفرنسية 1790م استغلوا مياربو فدافع عن قهم في المساواة ، ثم حاول نابليون استغلالهم لمساعدته في تحقيق أطماعه التوسعية .


 وفي ألمانيا انتشر اليهود في القرن الثامن الميلادي وسكنوا المدن ولكنهم اصطدموا بالشعب من خلال تصرفاتهم المالية والأخلاقية ، ثم انتهى الأمر إلى قتل بعضهم والفتك بهم وحرقهم على يدي هتلر النازي ( هولدكوست ) خلال فترة حكمه 1933 ـ 1945 .


 وفي اسبانيا ( الأندلس الإسلامية ) لقى اليهود في ظل الدولة الإسلامية كل رعاية وحماية لحقوقهم ، بل وصل بعضهم إلى مناصب وزارية وإدارية ، وعلمية عالية ، ولكن الحملة الصليبية أدت إلى نفس المعاناة التي أصابت المسلمين ، حيث لم يكن هناك خيار إما القتل أو الحرق ، او الدخو لفي دين النصارى ، أو التشريد ، فوصلت موجة البطش باليهود إلى الأوج في عهد الملك فرديناند وزوجته إيزابلا فصدر المرسوم التالي في 31 مارس 1492م : ( يعيش في مملكتنا عدد غير قليل من اليهود ، ولقد أنشأنا محاكم التفتيش منذ اثنتي عشرة سنة وهي تعمل دائماً على توقيع العقوبة على المذنبين ، وبناءً على التقارير التي رفعتها لنا محاكم التفتيش ثبت بأن الصدام الذي يقع بين المسيحين واليهود إلى ضرر عظيم … ولذا قررنا نفي اليهود ذكوراً وإناثاً خارج مملكتنا إلى الأبد … وعلى اليهود جميعاً … أن يغادروا البلاد في غضون فترة أقصاها نهاية يوليو من نفس العام … وأن ينقلوا معهم براً أو بحراً ما يملكون باستثناء الذهب والفضة والعملة الذهبية والأشياء التي يشملها قانون المنع العام )  .   


 وهكذا طرد حوالي نصف مليون من اليهود من اسبانيا ، كما طرد المسلمون ، ولم يكن حالهم أحن من بقية الدول الأوربية ، ففي إيطاليا حاربهم البايوات وأصدروا المراسيم بكفرهم وتسفيه ديانتهم ، وفي سنة 1242 أعلن البابا جريجوري التاسع اتهامات صريحة ضد التلمود فشكل لجنة أقرت بحرق التلمود ، ثم طردوا عام 1540م  .


فتح أبواب العالم الإسلامي عليهم :


 وأما هذه المآسي التي لا نوافق عليها لأن الظلم ظلمات ، فتح العالم الإسلامي أرضه وذراعيه لاستقبال اليهود ، فقد فتحت السلطنة العثمانية حدودها لهم ، كما صدر فرمان من السلطان محمد بن عبدالله سلطان المقرب في 26 شعبان 128هـ ـ 5فبراير 1864م ونصه : ( … نأمر من يقف على كتابنا هذا … أن يعاملوا اليهود بسائر إيالتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحد منهم مثقال ذرة من الظلم ، ولا يضام ، ولا ينالهم مكروه ولا احتضام ..؛ وألاّ يستعملوا أهل الحرف منهم إلاّ عن طيب أنفسهم وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم ، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة … ومن ظلم أحداً منهم أو تعدى عليه فإنا نعاقبه بحول الله ….. )


 ولم يجد اليهود مكاناً آمناً مثل العالم الإسلامي ( وهذا ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء ) إلى أن جاء احتلال اليهود لفلسطين ، فأصبح الفلسطينيون أمام الدفاع عن أنفسهم وأراضيهم ، وهذا حق مشروع في كل الأديان والقوانين الدولية .  


        اعلى الصفحة