وتدبرت في الربط بين هذه الانتصارات وبين الشهر الفضيل فوصلت إلى الآتي :

 أن شهر رمضان هو شهر الصبر ، والنصر دائماً مع الصبر ، والإعداد الجيد ، والتخطيط الهادف ، وليس مع التعجل والتسرع الذي يضيع كل شيء على مستوى الأفراد ، والشعوب والأمم ، فلم يعرف النصر من استعجل الشيء قبل أوانه ، بل عوقب بحرمانه ، ولم يعرف النصر من استجاب للإثارة وسحبن رجله إلى ساحة الوغى وهو لم يستكمل جوانب الإعداد ، بل نالته شر الهزائم .

  
 ولم يعرف النصر من لم يخلص النية ، ولم يأخذ سن الله تعالى في النصر بل اعتمد على الإثارة والشهرة والدعاية ،والتضخم بل انكشف أمره في ساحة القتال فلم ينفعه كل ذلك ، وأصابته مصائب الفشل الذريع وأثاره الخطيرة .

 فمن هنا فشهر الصبر له علاقة بالنصر ولذلك ربط الله تعالى بينها وبين نصر الله ونزول ملائكته فقال تعالى : (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلاّ بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم) سورة آل عمران الآية 125 – 126 ، حيث إن الصوم صبر على شهوة البطن والفرج ، فالصائم يمتنع عن الأكل والشرب والمعاشرة الجنسية طوال فترة الصيام خلال شهر كامل مع الامتناع عن المحرمات (من الكذب والغيبة والسب وأكل أموال بالباطل وغير ذلك من جميع المحرمات) بل الصبر حسبما يريده الإسلام يفرض على الصائم أن لا يرد على من سبه ، أو شتمه أو قاتله (وإن أمرؤ قاتله أو سابه أو شتمه فليقل إني صائم ، إني صائم ، إني صائم ) .

  
 وبهذا الامتناع الايجابي يروض الصوم الصائم خلال شهر كامل على الصبر والتحمل ، كما يروضه على التحدي لشهواته وملذاته فتصبح إرادته قوية بالله تعالى غير خاضعة لأهوائه ، ولا أهواء أحد ، وهذا هو الارتباط الثاني ، وذلك لأن المعارك لا تحسم في الساحة فقط ، بل تحسم في ساحة الصور وميدان النفس فالنفوس المنهزمة داخلياً هي التي تنهزم في ساحة القتال بل قد لا تجرأ على الدخول في الساحة أصلاً ، وتضحي بكل شيء في سبيل أهوائها وشهواتها ومصالحها .

 ومن جاني واقعي آخر فإن الصبر يعلم الأمة على التضحية بالشهوات في سبيل رضاء الله تعالى ، وعلى تجويع أنفسها في سبيل كرامتها ، ومن هنا فيسقط أمامها أكبر التحديات المتمثلة في التحدي الاقتصادي ، فقد قال أحد رؤساء إحدىالدول العربية في معرض رده على عدم التحرك العربي أمام كل ما تفعله إسرائيل ووراءها أمريكا ، قال : (كيف أحارب أمريكا و70% من الغذاء والحبوب تأتي من أمريكا) هنا يتخل الصوم فينادي : لا وألف لا ، فلن نخضع لشهوات البطن في سبيل كرامتنا وحقوقنا ، فأنا أرض المسلم على أن يصوم ثلاثين يوماً ، أي يوفر 50% من الغذاء بل أكثر من ذلك لو التزمت الأمة بمنهج الإسلام في الصرف (دون إسراف ولا تبذير) .

 ولكن مع الأسف الشديد ضاع هذا الهدف النبيل في خضم تباهي المسلمين بالأكلات والمشروبات في شهر رمضان الفضيل ، حيث يصرف الفرد من الغذاء ،والحلوى ونحوهما في هذا الشهر أضعاف ما يصرفه في بقية الشهور . 

  
الجوانب التربوية للوصول إلى النصر بإذن الله :

 إضافة إلى ما سبق فإن الآيات التي تحدثت عن الصوم حملت في طياتها برنامجاً كاملاً ومنهجاً متكاملاً للتربية الصحيحة للوصول بالأمة إلى النصر المبين ، وهو ما يأتي :

أولاً : الاصلاح الداخلي :

ركزت آيات الصوم على إصلاح الإنسان من داخله ، إصلاح نفسه ، وقلبه وروحه من خلال ما يأتي:

أ ـ بيان أن المقصد الأساسي من الصوم هو (التقوى) فقال تعالى : (.. كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) والتقوى محلها الصدر والنفس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (التقوى ههنا ، التقوى ههنا….) وأشار إلى صدره المبارك .

 فالتقوى هي استشعار رقابة الله على الإنسان في السر والعلن وفي جميع التصرفات والحركات والسكنات ، وهو الإحسان الذي هو قمة الدين كما ورد في حديث جبريل الصحيح المتفق عليه : (…الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك) وهو أن يصل الإنسان إلى إحدى المرحلتين الآتيتين ، وهما :

1 ـ مرحلة الوصول إلى الإحساس بالقرب من الله تعالى (كأنك تراه) وحينئذ لا يستطيع المسلم أن يتقرب من أي ذنب ، لأنه يستحي من الله حق الحياء ، هذه هي مرتبة الأنبياء والصالحين ، كما كان عليها يوسف عليه السلام ، حينما قالت المرأة : (هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) سورة يوسف الآية 23 .

2 ـ مرحلة الإيمان الجازم واليقين الراسخ بأن الله تعالى يرى الإنسان في جميع أحواله وتصرفاته وحركاته وسكناته ، وحينئذٍ يستحي من الله تعالى أيضاً فيمتنع عن المعاصي والذنوب ، ومن المعلوم أن نصر الله لا يهدى لعاص ، بل لم ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم في البداية يوم حنين بسبب إعجاب بعض صحابته كما سجل القرآن ذلك ليكون عبرة لأولي الألباب فقال : (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم….) سورة التوبة الآية 25.

ب ـ بيان أن هناك هدفاً آخر من الصيام وهو الوصول إلى عبادة الله وحده ، وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وفي تكبيره وشكره وتعظيمه فقال تعالى : (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)سورة البقرة الآية 185 ، والإكثار من الدعاء من خلال القرب من الله تعالى والاستجابة له : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) سورة البقرة الآية 186.

  
 وهذا يعني أن الصوم الحقيقي يصل بالصائم إلى مرحلة عظيمة من الارتقاء الايجابي حتى يكون تعظيمه لله وحده وليس لغيره ، لا يكون تعظيمه لشر مهما كان ، لا أمريكا ، ولا روسيا ، ولا أي مخلوق في الكون ، ويكون شكره لله تعالى ، لا لغيره .

  
 ومشكلة المسلمين اليوم في هذا الجانب أن نفوس معظمهم منهزمة في الداخل وجلة من الأعداء خائفة على مصالحها الذاتية ، ولذلك تعظم هؤلاء الأعداء ونخاف منهم ، وبالتالي لم تحقق العبودية الكاملة التي يريدها الله تعالى من عباده ، بأن يكون سجودهم وركوعهم لله وحده ، وخضوعهم له وحده دون شريك ولا رياء ، ولا نفاق .

 وكذلك تبين هذه الآيات أن أهداف الصيام هو الوصول بالإنسان إلى مرحلة الرشد الكامل (ولعلهم يرشدون) وذلك من خلال ترويضهم على التعبد لله تعالى فقط ، وليس للأهواء أو الشهوات والرغبات والعواطف .

  
ثانياً : منهج التغيير الداخلي :

 يترتب على الإصلاح الداخلي (الذي أراد الله تعالى من الصوم من خلال ترويض الصائم على الصبر ، وعلى التقوى ، والتكبير ، والشكر لله وحده) التغيير النفسي المطلوب في قوله تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) سورة الرعد الآية 11 .

 فهذه السنة الالهية قاضية بأن تغيير الأمة نحو الأحسن مرتبط بتغيير الأنفس تغييراً جذرياً من التردد إلى الإيمان الجازم ، ومن الشرك والأوهام والخرافات إلى توحيد الله الخالص في ربوبيته ، وألوهيته ، ومن هزيمة الأنفس إلى عزيمتها وقوتها وإرادتها الصلبة المعتمدة على الله تعالى ، ومن تعظيم غير الله إلى تعظيم الله وحده…..

 فمنهج التغيير الإسلامي منهج شامل لتغيير الإنسان : فكره ، وتصوراته ، وداخله ، ونفسه ، وإرادته ، وقواه ، وعقله ، بحيث تشكل عقليته بشكلية متوازنة .

  
ثالثاً : منهج التعامل :

 تشكل آيات الصيام منهجاً متكاملاً في كيفية التعامل مع الدين وشعائره ، ومع الخالق ، والمخلوقين جميعاً ، وهو منهج رائع عظيم متوازن وسط كما يتبين ذلك مما يأتي :

أ ـ التعامل مع الشعائر التعبدية بيسر وسهولة وبساطة دون تشدد ولا تعقيد ، على عكس ما كان متصوراً في السابق من وجوب التعامل مع العبادات بشدة وقوة ، حيث تضمنت هذه الآيات مجموعة من الرخص للصائم مثل الافطار لأجل المرض ، أو السفر ، أو عدم الطاقة بسبب كبر السن أو نحو ذلك ، بل إن بعض الأعذار تسقط الصيام تماماً فلا يجب قضاؤه ، بل يجب الفدية فقط : (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) سورة البقرة الآية 184 ، ولا يكتفي الإسلام بهذه التخفيفات بل يجعل منها قاعدة عامة ، ومبدءاً عاماً ، وهو مبدأ رفع الحرج ،وقاعدة التيسير فقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) سورة البقرة الآية 185 .

  
 فيفهم من ذلك بوضوح أن الإصلاح يأتي مع التيسير وليس مع المنشود والتعسير ، وأن الدين لا يقود الناس بالإكراه والقيود والسلاسل ، بل بالحرية والاندفاع الذاتي والتقوى الداخلي .

 ولذلك شدد الرسول صلى الله عليه وسلم مع أولئك الذين لم ينظروا في السفر عام فتح مكة ، فوصفه بالعصاة ، لأنهم اتجهوا إلى منهج التشدد والغلو ، والتنطع في الدين الذي رفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى مسلم وغيره بسندهم عن جابر رضي الله عنه قال : (خرج رسول الله عام فتح مكة في رمضان فقام حتى بلغ كراع الغميم ..ثم عاد بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ، ثم شرب ، فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال ، أولئك العصاة ، أولئك العصاة …) .

  
 فالعبادات الشعائرية تعتمد على تربية الضمير وتصفية النفس ،وتهذيب الروح ، ولذلك تنشئ حالة نفسية ذاتية تدفع صاحبها ذاتياً نحو حسن الأداء وحسن السلوك في الحياة ،ولا يمكن أن تعتمد على المظاهر ، وبل ولا يمكن للمظاهر أيضاً أن يكون له هذا الدور العظيم في إصلاح الداخل وتغييره نحو الأحسن .

ب ـ التعبد في الإسلام لا يعني الترهب ، والإسلام يدعو إلى الربانية لا الرهبانية (ولا تنس نصيبك من الدنيا ) وإلى الجمع بين سعادة الدنيا والآخرة ، وحسنتيهما (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) سورة البقرة الآية 201.

 ولذلك جاءت إباحة المعاشرة الزوجية في ليالي الصيام فقال تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هنّ  وأنتم لباس لهنّ ….) سورة البقرة الآية 187 ، مع أن الله تعالى بين لهم بأنهم عاكفون في المساجد ، قوامون بالليل ، ومع ذلك أجيز لهم التمتع المباح .

  
 فهذا هو الإسلام الذي يعطي كل ذي حق حقه وذلك هو الإسلام الحقيقة الذي يحقق التوازن والوسطية في كل شيء دون إفراط ولا تفريط .

  
ج ـ التعامل مع جميع النصوص الشرعية على سبيل التعبد ، وليس على سبيل الانتقاء ، لذلك هذه الآيات على أن الأخذ بيسر هذا الدين ورخصه ومن الدين نفسه كما أن الأخذ بعزائمه من الدين نفسه .

د ـ أن يتعود المسلمون على تحمل بعضهم بعضاً ، فيسع من يأخذ بالعزيمة أخاه الذي يأخذ بالرخصة ، لذلك لا يجوز لمن يأخذ بعزائم الدين أن يعيب على من يأخذ برخصه ، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عاب على هؤلاء الذين تشددوا فلم يفطروا من سبب السفر الجهاد الذي يحتاج إلى القوة البدنية أيضاً ، وهذا ما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم فقد ترجم البخاري : باب : لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار ، ثم روي بسنده عن أنس بن مالك قال : (كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم) صحيح البخاري ـ مع الفتح : 4/186 .

  
 وما أحوجنا اليوم إلى هذا الأدب الجم في تعامل المسلمين بعضهم لبعض ، وفي أن يسع بعضهم بعضاً ، وأن لا يهاجم بعضهم بعضاً بسبب أمر مختلف فيه ، وأن يعود التآلف إليهم جميعاً للوصول إلى وحدة الأمة التي تمزقت على صخرة البعد عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الكرام .

 والله المستعان .