هذا بحث آخر لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث من إنتاجه العلمي المتميز وهو بحث قدم إلى مؤتمر الفكر الإٍسلامي ودوره في مواجهة الغلو، والذي انعقد الشهر قبل الماضي بالتعاون بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ومركز الوسطية في موسكو ويقدم فيه فضيلته رؤية معمقة حول مواطن الخلل في فهم الجهاد والتكفير لدى فكر الغلاة:
مبدأ: العدل والقسط للجميع
يعتبر هذا المبدأ في الإسلام من أعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة، بل تقوم عليه السموات والأرض، ولذلك تكرر لفظ العدل ومشتقاته في القرآن الكريم ثمان وعشرون مرة، كما ذكر رديفه «القسط» في القرآن الكريم……. تناول القرآن الكريم خلالهما أهمية العدل والقسط، حيث أمر بالعدل والإحسان، فقال تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر» وقال تعالى: «اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله» وقال تعالى: «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى» وقال تعالى: «وأمرت لأعدل بينكم» وشدد في حرمة عدم العدل مع قوم ولو كانوا أعداء فقال تعالى: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى..» وأمر المسلمين أن يكون حكمهم قائماً على العدل بين الناس جميعاً، بل جعل العدل أساساً للحكم الإسلامي، فقال تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» وشدد الإسلام في اتباع الأهواء والرغبات والمصالح الشخصية ليؤدي ذلك إلى ترك العدل فقال تعالى: «فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا» وأمر بالعدل حتى مع البغاة الخارجين على الدولة المقاتلين فقال تعالى: «فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين».
بل إن الله تعالى نهى عن التعدد بين النساء إذا أدى إلى الجور وعدم العدل فقال تعالى: «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» وجعل العدل شرطاً في قبول الشهادة والحكم ونحوهما، فقال تعالى: «وأشهدوا ذوي عدل منكم».
وتكرر لفظ «القسط» ومشتقاته في القرآن الكريم سبعاً وعشرين مرة، حيث أمر الله تعالى فيها بالقسط مطلقاً أي العدل فقال: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط» وبالقسط في الحكم فقال تعالى: «وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين»، وبالقسط في النزاعات حتى مع الخارجين عن القانون فقال تعالى: «فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين» وجعل الله مصير هؤلاء الذين يقتلون العادلين إلى النار والعذاب الأليم فقال تعالى: «..ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم» وأمر أن يكون الوفاء في الكيل والوزن في الماديات والمعنويات بالقسط والعدل فقال تعالى: «وأوفوا الكيل والميزان بالقسط» وقال تعالى: «وزنوا بالقسطاس المستقيم».
ومن الناحية العملية شهدت السيرة النبوية العطرة وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس جميعاً أروع الأمثلة في العدل والقسط، وكذلك سيرة خلفائه الراشدين.
فعلى الرغم من أن الإسلام ينشد وحدة الأمة ويريد لهم الخير كله، لكنه اعترف بالاختلاف في العقائد والأفكار والألوان والأطياف، حيث يقول القرآن: «كان الناس أمة واحدة» أي بعد ذلك اختلفوا «فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه…» وبعد أن ذكر الله تعالى اليهود والنصارى واختلافهم قال: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات….».
وقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف أحد المقاصد المعتبرة للابتلاء، فقال تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم».
وهذه الآيات الكثيرة ومثلها من الأحاديث النبوية تهيئ نفوس المسلمين لقبول الآخرين المختلفين معهم عقدياً وفكرياً وأصولياً وفرعياً، والتعايش معهم بأمن وأمان، وهذا ما حدث طوال التاريخ الإسلامي، حيث عاش غير المسلمين في أكناف الدولة الإسلامية القوية، وهم يتمتعون بكامل حقوقهم بل تقلدوا مناصب رفيعة في ظلها، ولم يحدث مثل ذلك في ظل الإمبراطوريات الدينية الأخرى مثل الدولة الرومانية التي كانت تضطهد اليهود، وغير النصارى، ثم لا ينسى التاريخ ما فعل الصليبيون بالمسلمين واليهود في الأندلس.
كل الانحرافات العقدية بسبب الخلل في فقه الميزان:
إذا درسنا الانحرافات العقدية سواءً أكانت على مستوى الإلحاد، أم الشرك، أم على مستوى خرافات أهل الكتاب، أم على مستوى الانحرافات أو الأخطاء التي حدثت داخل الأمة الإسلامية وفرقها العقائدية.
1. فعلى مستوى الإلحاد فالذين أنكروا الإله مطلقاً ينطلقون من تطبيق فكرة تطبيق ميزان المخلوق على الخالق، حيث يرون ما دام المخلوق يحتاج إلى خالق، فمن الذي خلق الخالق ؟ ولذلك أنكروا الخالق مطلقاً.
تناسوا أو جهلوا أن هذا دليل على أن هذا السؤال غير وارد في حق الخالق، وأن المخلوق لا يمكن أن يوجد دون موجد وخالق، فالمسبب لا يتحقق دون سبب، فالعلية والسببية تقتضي ارتباط المسبب بالسبب، ونحن هنا لسنا، ولو كان هؤلاء لجؤوا إلى فقه الميزان «الذي يخص الخالق، وميزان المخلوق وفرقوا بين المخلوق الحادث الذي يحتاج إلى خالق وموجد، وبين الخالق الموجد للكون الذي لا يحتاج إلى أحد، وهكذا….» لما وقعوا في هذا التناقض ولما أنكروا الخالق، أو لما وقعوا في تلك الانحرافات العقدية.
2. المشركون، وبالأخص الجاهليون العرب الذين آمنوا بالله تعالى ولكنهم أشركوا به في العبودية والحكم والألوهية، وجعلوا المخلوق إلهاً وجعلوا لله شركاء من الملائكة والجن والإنس والشمس والقمر، والأنبياء، والأصنام.
فبخصوص الأصنام قالوا: ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى، وقال تعالى: «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ من دون الله أصناماً آلهة إني لأراك في وقوموك في ضلال مبين».
ولذلك كان الرد المفحم من سيدنا إبراهيم عليه السلام قائماً على أن ميزان الألوهية والخلق لا يتحقق في هؤلاء الآلهة فقال: «يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ويغني عنك من الحق شيئاً» وقال: هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون وقد أكد ذلك قوله تعالى: «يدعو من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد، يدعو لمن ضره أقرب إليه من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير».
وقد أكد سيدنا إبراهيم هذا الخلل الكبير في الميزان عند هؤلاء المشركين مرة أخرى بخصوص صلاحية القمر، أو الشمس إلهاً لأنهما حادثان ذاهبان غير قادرين على الخلق في حين أن الخالق يجب أن يكون الأول والآخر والخالق لكل شيء فقال: «… فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء ما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين».
وكذلك رد الله تعالى على الذين جعلوا الملائكة والجن شركاء لله تعالى بأنهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً فقال تعالى: «ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً…..».
ورد الله تعالى كذلك على هؤلاء الذين جعلوا عيسى ولداً وشريكا لله تعالى بأنه عبد مخلوق، فكيف يكون العبد المخلوق إلهاً أو شركياً للإله؟ وكيف يتخذ الإله الخالق أحد مخلوقاته أو أحد عباده ولداً له وشريكاً؟ فالميزانان ومختلفان والمقامان لا يجتمعان فقال تعالى: «وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السموات والأرض إلاّ آتي الرحمن عبداً» وقال تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير» فقد بين الله تعالى ميزان المخلوق والميزان الذي يعرف به الخالق، فالخالق هو القادر على كل شيء، وعلى الإحياء والإهلاك، وان له ملك السموات والأرض، أما المخلوق فهو غير قادر بل لا يملك لنفسه دفع الضر والهلاك.
كما رد الله تعالى على اليهود والنصارى حينما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، بأن ميزان ذلك يقتضي أن يكن لكل مقام التقدير والتكريم والجنة في حين أن الله يعذبكم وأنكم مخلوقون مثل بقية البشر فيطبق عليكم ميزان البشر فقال تعالى: «وقالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر مما خلق» وكذلك رد الله تعالى على النصارى في اتخاذهم المسيح والرهبان أرباباً من دون الله بأنهم مخلوقون وعبيد لله فكيف يصبحون آلهة: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون» وكذلك قال لليهود حينما قالوا إنهم أولياء الله فقال تعالى في ردهم: «فتمنوا الموت إن كنتم صادقين».
3. انحرافات أهل الكتاب من اليهود والنصارى:
فقد انحرفت اليهود حينما وصفوا الله تعالى بأوصاف البشر من أن يد الله مغلولة، وأن الله فقير، وأن لله تعالى جسم إلى آخر مقالاتهم الفاسدة، وقد ردّ الله تعالى عليهم ببيان الحق، وإرجاع كل شيء إلى ميزانه وحقيقته، فقال تعالى: «وقالت اليهود يد اله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء….». وقد جاء في التلمود: «إن النهار اثنتا عشرة ساعة، في الثلاث الأولى منها يجلس الله ويطالع الشريعة، وفي الثلاث الثانية يحكم، وفي الثلاث الثالثة يطعم العالم، وفي الثلاث الأخيرة يجلس ويلعب مع الحدث وملك الأسماك» وهذا منتهى التشبيه للخالق بالمخلوق، فتبارك الله تعالى عما يقولون غلواً كبيراً.
بل إن النصارى توغلوا في الخلط بين الميزانين، وأثبتوا لسيدنا المسيح عليه السلام ما هو من صفات الله تعالى، فقالوا: إن المسيح هو ابن الله الذي هو الله الروح القدس، ثلاثة أقانيم في أقنوم واحد وأنه كان الكلمة، والكلمة هو الله، وهو مخلوق من طريق الجسم، وخالق من طريق النفس، وهو خلق جسمه، خلق أمه، وهو الإله التام، وهو الإنسان الكامل، ومن تمام رحمته على الناس انه رضي بإهراق دمه عنهم في خشبة الصليب، فمكن اليهود أعداءه من نفسه… وهكذا وقد سجل الله تعالى في القرآن أهم ما وقعوا فيه من الخلل في الميزان، فقال تعالى: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحليم».
فقد عرف سيدنا عيسى بحق ميزان المخلوق القائم على الضعف وعدم العلم الكامل الشامل، ووجوب العبادة للخالق والخضوع له، وأن من عوارضه الموت والحاجة إلى الخالق، وأن الله وحده هو العالم بكل شيء، وعلام الغيوب والمستحق للعبادة، والخالق الذي له حق التكريم والتعذيب….
انحرافات الفرق الإسلامية المبتدعة بسبب الخلل في فقه الميزان:
فهناك موازين مهمة في عالم العقيدة والفكر والتصورات ثبتها القرآن والسنة والنبوية المشرفة نذكر أهمها مع آثار الخلل فيها على مستوى الفرق العقائدية التي خرجت عن المبادئ العامة لأهل السنة والجماعة مثل المعتزلة، والجبرية والقدرية والمرجئة بسبب الخلل في فقه هذه الموازين الآتية:
أ- ميزان الشاهد وميزان الغائب:
فقد قاس المعتزلة في كثير من أحكامهم وآرائهم وأفكارهم الخاصة بالله تعالى الموازين المتحكمة في الشاهد فقد أوجبوا على الله تعالى أشياء بناءً على هذا الأصل، يقول ابن حزم في توضيح ذلك والرد عليهم: «وهذا- أي إيجاب شيء على الله تعالى- مذهب يلزم كل من قال: لما كان الحي في الشاهد لا يكون إلاّ بحياة وجب أن يكون الباري- تعالى- حيا بحياة، وليس بين القولين فرق، وكلاهما لازم لمن التزم بأحدهما، وكلاهما ضلال وخطأ… وأما إجراؤكم الحكم على الباري بمثل ما تحكم به بعضنا على بعض فضلال مبين» وقد أخذت المعتزلة بهذا لأصل في باب الأفعال، وفي باب الصفات، وفي مسألة التحسين والتقبيح، قياساً على حال الإنسان، ونفوا عن الله تعالى خلقه للشرور بسبب نفسه.
فالمعتزلة اعتمدوا على قياس الغائب على الشاهد في الحكمة والتعليل والمشيئة الإلهية أي في جانب الفعل والوجود، كما اعتمدوا عليه في نفي رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، لأن الرؤية تحتاج إلى مقابلة الرائي للمرئي، واتصال أشعة العين بالجسم أو ارتسام صورة المرئي في العين، وأن لا يكون المرئي في غاية القرب والبعد واللطافة والصغر، وهذه الأمور كلها حوادث فالله تعالى منزه عنها، ولذلك أولوا الآيات أو الأحاديث الدالة دلالة واضحة على رؤية الله تعالى فيا لآخرة، وتعسفوا في تأويلها.