هذا بحث آخر لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث من إنتاجه العلمي المتميز وهو بحث قدم إلى مؤتمر الفكر الإٍسلامي ودوره في مواجهة الغلو، والذي انعقد الشهر قبل الماضي بالتعاون بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ومركز الوسطية في موسكو ويقدم فيه فضيلته رؤية معمقة حول مواطن الخلل في فهم الجهاد والتكفير لدى فكر الغلاة:

المبحث الثاني: الجهاد في الفكر الإسلامي المعاصر

شعار الإسلام: القوة ولكن لا شك أن شعار الإسلام القوة بكل شموليتها وعناصرها، فقد نادى القرآن الكريم في وضوح وجلاء: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، وأمر بأخذ الأمور والأحكام بجد وقوة فقال: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا وحكى في قصة ذي القرنين قوله تعالى: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير وكان يدعو دائماً ويعلم أصحابه أن يدعو: اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا.

وقد أوضح الإمام حسن البنا ذلك بقوله: (أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته،…… بل إن القوةَ شعار الإسلام حتى في الدعاء، وهو مظهر الخشوع والمسكنة، واسمع ما كان يدعو به النبي- صلى الله عليه وسلم- في خاصة نفسه ويعلمه أصحابه ويناجي به ربه: اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة: بالهم والحزن، وضعف الإنتاج: بالعجز والكسل، وضعف الجيب والمال: بالجبن والبخل، وضعف العزة والكرامة: بالدين والقهر؟ فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويًّا في كل شيء شعاره القوة في كل شيء؟ ).

وعلى الرغم من هذه العناية الإسلامية بالقوة وعناصرها لكن الإسلام لا يوصي باستعمال القوة المادية ضد الغير إلاّ إذا سدت أمامه جميع الطرق، وأوصدت في وجهه جميع الأبواب، وأغلقت دونها جميع النوافذ، وهذا ما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله القولية والعملية ـ كما سيتضح فيما بعد ـ.

فاستعمال القوة العسكرية ضد الغير ليس غاية ولا هدفاً في نظر الإسلام، وإنما وسيلة لنشر الدعوة الحقة، وتوصيل الرحمة في العدل إلى العالمين، وتعريفهم بحلاوة الايمان، ولذة التوحيد، وروعة التحرر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، غير أن سنة الله تعالى جارية بأن الطغاة الجبابرة الكفرة لم يرضخوا لهذا الدين، ولا يسمحوا لنشره بين رعيتهم، وإنما شعارهم دائماً الشعار الذي قاله فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) ثم قال: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) ومن هنا فلن يسمح الطغاة العتاة الجبابرة بأية دعوة إلهية لخدمة البشرية، لأنهم يعتبرونها فساداً في الأرض، وإخلالاً بالأمن، وأن طريقهم هو الطريق الصحيح الرشيد، وانهم لا يرون لشعبهم إلاّ رأيهم، فهو لا بدّ أن لا يكون لهم رأي إلاّ رأيهم، ولا هدف إلاّ هدف الحفاظ على كراسيهم.

ومن هنا فالمعركة بين الحق والباطل حتمية، والصراع بين الخير والشر لا محيد عنه، فتحدث الحرب، فيضطر الحق والخير ألا يقفا مكتوفي الأيدي أمام جيوش الباطل والشر، ومحافلهما وجنودهما، وهذا النضال، وتلك المعركة التي يخوضها المسلمون ضد الكفرة الطغاة تسمى في الإسلام بالجهاد، ولذلك من الضروري أن نعرف الجهاد، والتوازن بينه وبين احترام النفس البشرية، وهل الجهاد غاية أم وسيلة ؟ والجهاد بين الدفاع والهجوم، فهل الإسلام نشر بالسيف ؟ !.

التوازن بين الأسباب الظاهرة والسبب الحقيقي

فقد ترسخ في ذهن المؤمن من خلال مبادئ دينه العظيم ربط المسببات بأسبابها الظاهرية دون إلغاء دور السبب الحقيقي ـ وهو الله تعالى ـ وهذا التوازن الغريب الذي حدث في العقل المسلم لم يسبق له مثيل، وذلك لأن النظريات البشرية ـ في عمومها ـ إما أن تلغي دور البشر والأسباب الظاهرة، أو تلغي دور الله تعالى لكن الإسلام أقر الاثنين ووضع لكل واحد منهما إطاره الحقيقي، فقدرة الله في نظر عقل المسلم مطلقة لا غالب عليها، ولكن الله تعالى وضع بحكمته سنناً وقوانين يسير الكون عليها، ولو أراد إلغاءها فهو قادر على ذلك، وأما قدرة الإنسان فهي داخل هذا الإطار الذي أتاحه الله له وأمره بأن يأخذ بهذه الأسباب والسنن حتى يصل إلى النتيجة، فقال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) إذن فالعمل من الإنسان، والنتيجة مترتبة عليه سلباً وإيجاباً (جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ولكن هذه القدرة البشرية أيضاً مخلوقة لله تعالى.

والأخذ بالسببية التي قامت عليها الحضارة الحديثة مذهب إسلامي متميز طبقه المسلمون وبنوا عليه ـ حضارتهم بالإضافة إلى اعتمادهم الكلي على الله تعالى، فقد كان هذا الكشف الإسلامي في ذلك الوقت والأخذ بشروطه المنهجية كسباً كبيراًَ للعقل البشري الذي تاه بين هاتين النظريتين المتطرفتين، وإضافة قيمة مكنته من إعادة التشكيل في صيغ أكثر قدرة على العطاء والابداع.

فقد استطاع القرآن الكريم أن يجتاز بالعقل المسلم مرحلة النظرة التبسيية، المسطحة المفككة التي تعاين الأشياء والظواهر كما لو كانت مستقطعة معزولة منفصلاً بعضها عن بعض، وتمكن من خلال التركيز على هذه السلبية، أن يعيد تشكيل العقل المسلم على صيغة عقلية تركيبية تملك القدرة على الرؤية الاستشرافية التي تطل من فوق على حشود الظواهر بحثاً عن العلائق والاتباطات، ووصولاً إلى الحقيقة المرتجاة، بل إن إحدى طرائق القرآن المنبثة عبر سوره ومقاطعه من أقصاها إلى أقصاها هي التأكيد على ضرورة اعتماد هذه الرؤية السببية للظواهر والأشياء من أجل الوصول إلى معجزة الخلق ووحدانية الخالق… ومن خلال هذا التأكيد.. أصبح العقل المسلم في رؤية كهذه ضرورة من الضرورات… وغدا الكون والعالم والطبيعة والوجود في مقابل هذا سلسلة من الظواهر والمعطيات يرتبط بعضها ببعض بأوثق الأسباب.

مبدأ: تقديم الصلح على الحرب حتى ولو كان الصلح فيه بعض الغبْن

وقد أطلق الله تعالى الخير على الصلح فقال: (والصلح خير) وقال تعالى: (…أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس…) ولم يقل بين المؤمنين فقط، بل عمم الصلح والإصلاح بين الناس جميعاً، فذلك الخير والأنفع، وقال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).

وقد بين الإسلام خطورة الإفساد في الأرض وعدم الإصلاح فجعله من الكبائر المحرمات الموبقات، فقال تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) وقال تعالى في وصف الكفرة المجرمين: (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون).

والإصلاح هو رسالة الأنبياء فقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب) وقد جعل الله التوفيق حليف من يريد الإصلاح دائماً فقال تعالى: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما).

وربط الله تعالى بين الهلاك والإفساد، وبين النجاة والإصلاح فقال تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

وليس الصلح والإصلاح في الإسلام مجرد شعار، وإنما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة حيث حينما جاء للعمرة ومعه عدد كبير من صحبه الكرام منعهم قريش على الرغم من ان كل الدلائل كانت تشير إلى أن الهدف الأساس هو أداء العمرة، ولذلك أتوا محرمين،وساقوا الهدي حتى وصلوا حديبية، حيث بركت ناقته القصواء..ثم قال: (والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إياها) ثم حاول الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة، ولكن قريش منعته، فأرسل رسله تترى لبيان موقفه لهم، حيث أرسل خراش بن أمية الخزاعي، فأرادت قريش قتله لولا أن منعهم الأحابيش ثم أرسل عثمان بن عفان فأبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الهدف هو زيارة الكعبة وتعظيمها، غيران قريشاً أخرته حتى ظن المسلمون أنها قتلته، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة تحت الشجرة فبايعوه جميعاً على الموت سوى الجد ابن قيس (وكان منافقاً) ثم انتهى الأمر بالصلح الذي في ظاهره تنازل من طرف المسلمين لصالح المشركين، فمثلاً كتب علي بن أبي طالب عقد الصلح، وسطر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة الصلح بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض ممثل قريش سهيل بن عمرو فقال: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلاّ باسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم.

ثم اعترض سهيل على عبارة: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) حيث قال سهيل: (والله لو كنا نعلم انك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبدالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبدالله) فاعتذر علي بن أبي طالب عن مسح كلمة (رسول الله) فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب، فمحاها بيده.

ثم اعترض سهيل على بند: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) حيث قال: (والله لا تحدث العرب انا أخذنا ضغطة) أي فرض علينا ذلك بالقوة.

ثم اشترط شرطاً تعسفياً غير عادل وهو: (أنه لا يأتيك منا رجل ـ وإن كان على دينك ـ إلاّ رددته إلينا) في حين أن من عاد من المسلمين إلى قريش فإنها لا ترده.

ومع ذلك قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الاتفاقية مع تذمر المسلمين منها حيث ضاقوا ذرعاً ببنودها، وأسلوب الإملاء والصياغة، حتى قال عمر له: (ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى، قلت فلِم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري).

ومما زاد الطين بلة أنه أثناء الاتفاقية جاء أبو جندل بن سهيل وهو مرسف في قيوده، وقد خرج من اسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه ان ترده إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً)، ففي صحيح البخاري: (وأبا سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ على ذلك، فكره المؤمنون ذلك وامَّعضوا، فتكلموا فيه، فلما أبى سهيل…كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم…ورد أبا جندل إلى أبيه…ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلاّ رده في تلك المدة وإن كان مسلماً….).

وقد غضب المسلمون نفسياً من رد المسلمين الفارين بدينهم حتى قالوا: يا رسول الله تكتب هذا؟ قال:(نعم، إنه من ذهب إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً).

هذا الصلح الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الشروط وفي ظل حنق المسلمين وغضبهم إن دل على شيء فإنما يدل على مدى أهمية الصلح لدى الرسول صلى الله عليه وسلم بل لدى الإسلام حيث نزلت الآيات من فوق سبع سموات سمته بالفتح (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس) ثم قرأ: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً).

وحقاً كان هذا الصلح فتحاً عظيماً للقلوب حيث دخل في الإسلام من بعد الصلح عام ست من الهجرة إلى عام فتح مكة في ثمان آلاف مؤلفة، حيث جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح حديبية ومعه حوالي 1500، في حين جاء في فتح مكة ومعه ثمانية آلاف.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أشد المتمسكين بتنفيذ بنود العقود معه ـ كما سبق ـ والمحافظين عليه، حتى إن بعض شباب قريش الطائشين أرادوا أخذ مسكر المسلمين غرة، وكان عددهم ثمانين شاباً، لكنهم أسروا، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحهم مع أنه كان بالإمكان أن يجعل ذلك سبباً لنقض الاتفاقية، كما عفا عن سبعين أسيراً أسرهم المسلمون بعد الصلح، وعن أربعة حاولوا الإيقاع بالرسول فأخذهم سلمة بن الأكوع.

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن انس بن مالك: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسللين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سَلَماً ـ أي أسرهم ـ مسلماً فاستحياهم، فانزل الله عز وجل: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم).

وفي هذه الآية دلالة أخرى على أهمية الصلح وعدم الوقوع في الحرب حيث إن الله تعالى امتن بذلك على المؤمنين، مما يدل على انه من النعم الكبرى، وان الحرب من حيث هي ليست محببة في الإسلام.

يقول الشيخ محمد عبدالله دراز: (ومن هنا نرى ان الحرب في نظر الإسلام شرّ لا يلجأ إليه إلا المضطر، فلأن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشيء من حقوقهم، ولكنه في الوقت نفسه يحقن الدماء، خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح).