العدل :

هذه الحروف الثلاثة ( ع ، د ، ل ) الخفيفة على اللسان ، لها مدلول كبير ، ومعان كثيرة ، وميزانها ثقيل ، وتطبيقها أثقل .

فالعَدْل ـ بفتح العين ـ في اللغة هو : الانصاف ، وإعطاء لما لَهُ ، وأخذ ما عليه ، ويقال : رجل عدل ، وامرأة عدلة ، وجاء بمعنى : المثل والنظير ، والجزاء ، والفداء ، وجمعه : أعدال .

والعِدل ـ بكسر العين ـ المثل والنظير ، ونصف الحمل يكون على أحد جنبي البعير ، والجُوالق ، وجمعه : أعدال ، وعدُول ، ومنه هو توسط حالين في كمّ ، أو كيف .

يقول أبو البقاء : ( والعدالة لغة الاستقامة ، وفي الشريعة : عبارة عن الاستقامة على الطريق الحق بالاختيار عما هو محظور ديناً )[2] .

والعديل : المثل والنظير ، وعديل الرجل : زوج أخت ارماته ، وجمعه : أعدال ، وعدلاء ، والعديلتان : الغرارتان ، لأن كل واحدة منهما تعادل الأخرى[3] .

وقد فرق بعض اللغويين بين العَدل ـ بالفتح ، والعِدل ـ بالكسر ـ فقالوا : إنه بالكسر : ما يدرك بالحواس ، وبالفتح : ما يدرك بالعقل والبصيرة ، والموزونات والمعدودات[4] .

والتحقيق أن القرآن الكريم استعمل ” العدل ” في مقابل الظلم والبغي والجور ، واستعمله كذلك في مقابل الفسق والفجور ، ومن هنا استعمله الفقهاء في هذين المعنيين :

أحدهما : العدل في الحكم والعلاقات ، وهو بهذا المعنى يتعدى معناه إلى الغير ، فيقال : عدل بين الناس، أو بين النساء ، أو عدل في أمرهم أو نحو ذلك ، فالعدل بهذا المعنى صفة له علاقة بذات الشخص ولكن تتجاوز آثاره إلى الغير .

ثانيهما : العدالة الذاتية ، بان يكون المتصف بها مستقيماً غير فاسق وفاجر ، وبهذا المعنى يستعملها الفقهاء في باب الشهادات ونحوها .

 

ونحن في هذه الدراسة نتحدث عن المعنى الأول الذي ركز عليه القرآن الكريم ، وهو الذي يُرجع إليه لدى التحقيق في كل معانيه ، وهو تحقيق التوازن بين ما للإنسان من حقوق فتعطى له ، وما عليه من واجبات فتؤخذ منه .

وهذا هو معناه الاصطلاحي الذي نزلت الشرائع كلها لتحقيقه ، بل عليه قامت السموات والأرض كما سيأتي  شرح ذلك .

 

العدل ” في القرآن الكريم :

أولى القرآن الكريم عناية منقطعة النظير بالعدل ، فأوجبه وجوباً مطلقاً ، وأمر بتحقيقه في الأقوال والأفعال ، والتصرفات ، والحكم والفطرة والتقييم والشهادة والعلاقات ، وتكررت كلمة ” العدل ” ومشتقاته ثمان وعشرين مرة[5] .

فالعدل جاءت به الرسالات السماوية أناطت تحقيقها بالرسل والأنبياء عليه السلام ، فقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )[6]  ويقول تعالى على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ )[7] وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)[8]  وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[9] ، قال الراغب الأصفهاني : ( العدل هو : المساواة في المكافأة إن خيراًً فخير ، وإن شراً فشر ، والاحسان أن يقابل الخير بأكثر منه ، والشر بأقل منه )[10] أو بالاحسان كما قال تعالى : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[11]  أي ادفع السيئة بالأحسن .

وقد جعل الله تعالى العدل دليلاً على التقوى فقال تعالى : (…… اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[12] .

 

ومع أن العدل عام وشامل أمر الله تعالى به دون تقييد ، ولكنه تعالى خصص بعض الأشياء بمزيد من التأكيد ، منها :

1-   العدل في الحكم بين الناس فقال تعالى : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)[13] بل حعل الله تعالى الغاية من إنزال الكتب وإرسال الرسل : تحقيق العدل بين الناس ، فقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )[14]  أي العدل ، حتى إن جمهور الفقهاء ـ ما عدا بعض الحنفية ـ ذهبوا إلى اشتراط كون الإمام الأعظم ( الخليفة ) عدلاً ، فلا تنعقد إمامة الظالم ، بل ذهبوا إلى أنه يعزل بالظلم البين[15] .

2-   العدل بين النساء فقال تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)[16] وقال تعالى :  ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)[17] .

3-   العدل في القول والشهادة حتى ولو على النفس والأقارب فقال تعالى : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[18] .

 

والخلاصة أن العدل هو من أهم مبادئ الاسلام ، وهو الغاية في إرسال الرسل وإنزال الكتب ـ كما سبق ـ وهو المبدأ الذي لا يدخل فيه الاستثناء ، ولا يخضع للضرورات ، فإذا كانت الضرورات تبيح المحظورات فإن العدل يجب تطبيقه مع الأعداء والأصدقاء فقال تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[19] .

 

الكلمات ذات العلاقة بـ ” العدل ” :

 

وهناك بعض الكلمات التي لها علاقة بالعدل تكررت في القرآن الكريم ، منها القسط ، وهو العدل ، والمقسط الذي هو العادل ، ومنها الظلم الذي هو ضد العدل ، وكذلك الجور ، والبغي اللذان بمعنى الظلم ، وسنتحدث عنها بإيجاز شديد .

 

أ ـ القسط :

في اللغة : استعمل بمعنى العدل ، وبمعنى الجور ، وهو من الكلمات المشتركة[20] التي تستعمل في معنين متضادين ، بمعنى العدل في قوله تعالى: (  لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )[21]   أي العدل ، وبمعنى الجور والظلم مثل قوله تعالى : ( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)[22] فالقاسطون هنا هم الظالمون بديل مقارنته بالمسلمين في الآية السابقة بالمسلمين : ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً)[23] .

في حين أن ” أقسط ” ومشتقاته في القرآن الكريم بمعنى ” العدل ” لأن الهزة كما يقول (علماء الصرف) للازالة[24] فمعنى أقسط أي زال عنه القسط الذي بمعنى الظلم  ، قال تعالى : (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[25] أي حققوا العدل في الحكم بينهم وأزيلوا الظلم الذي كان موجوداً ، أو سيوجد[26] .

وبذلك يصبح ” الإقساط ” مكملاً ” للعدل ” ، فالعدل هو الجانب الايجابي في الحكم ، وأما الإقساط فهو إزالة الظلم من جذوره ، وكل الأسباب التي أدت إلى المشكلة ، حتى لا يتكرر الظلم ، ، يقول الإمام الرازي في تفسير الآية السابقة : ( والإقساط : إزالة القسط وهو الجور ، والقاسط هو الجائر )[27] .

ويدل على هذا الفرق الذي ذكرته أن الآيات اللاحقة مباشرة تحدثت عن الأسباب التي تزيل المظالم بين المؤمنين فقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[28] حيث تضمنت هذه الآية خمسة أسباب مهمة لإزالة الظلم بين الناس ، وهي:

الأخُوّة الحقيقية التي تبنى على الإيمان الخالص لله تعالى ، وهذا يعني أن تعطى لهذه الاخوة من حقوق متساوية واستحقاقات متماثلة ، وان تُفَعّل هذه الأخوّة حتى تصل إلى مستوى الجسد الواحد .

تحقيق التصالح بين الأطراف من خلال التراضي التام إما برد الحقوق ، أو بالاعفاء والابراء .

وجود أشخاص ومؤسسات الحسبة والاصلاح الدائم بين الناس حتى لا ينزغ الشيطان بين القلوب ، وهذا بمثابة آليّة للحفاظ على ما تمّ من التصالح .

صفاء القلب واستشعاره دائماً بتقوى الله والخوف منه .

التعامل على أساس الرحمة التي : إن رحمت رحمك الله تعالى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )[29] .

ومن الجدير بالاشارة إليه أن لفظ ” القسط ” قد تكرر في القرآن الكريم خمس عشرة مرة ، كملها بمعنى ” العدل ” [30] وورد بلفظ ” أقسطوا ” في آية واحدة ( سورة الحجرات ، الآية 9) وبلفظ ” تقسطوا ” في آيتين ( 3 النساء ، و8 الممتحنة ) وفي كل هذه الآيات بمعنى            ” العدل ”  أو ” إزالة الجور وأسبابه ” ، وبلفظ : ” القاسطون ” أي : الظالمون ، في آيتين (14و15 الجنّ) وبلفظ ” أقسط ” أي : أعدل في آيتين ( 282 البقرة ، و5 الأحزاب ) ، وبلفظ ” المقسطين ” أي : العادلين في ثلاث آيات ( 42 المائدة و9 الحجرات و8 الممتحنة) ، وبذلك يكون عدد المرات التي تكرر فيها القسط ومشتقاته خمساً وعشرين مرة .

 

ب ـ الظلم الذي ضد العدل ، حيث تكرر لفظ ” الظلم ” ومشتقاته في القرآن الكريم (289) مرة ، تحدث فيها القرآن الكريم عن خطورة الظلم وآثاره المدمرة على الأمم الماضية ، والحضارات السابقة ….الخ .

 

ج ـ البغي الذي هو الظلم وضد العدل ، حيث تكرر لفظ ” البغي ” ومشتقاته بمعنى الظلم عشر مرات[31] .

 

د ـ جائر بمعنى الظلم في آية واحدة وهي قوله تعالى : ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)[32] .

 

 

الخلاصة :

 

ان القرآن الكريم أولى هذه العناية القصوى بتحقيق العدل ، وإزالة الظلم والبغي في أكثر من ثلاثمائة وخمسين آية ، إن دلّ على شيء فإنما يدل على أهمية العدل في حياة الفرد ، والأسرة والجماعة ، والأمة والدولة ، والحضارة والبناء والتعمير ، وأن التجارب والحقائق الواقعية والقصص القرآنية تدل بوضوح على أن هلاك الأمم ، وتدمير الحضارات ، وانتهاء الدول والمماليك كل ذلك بسبب الظلم بمعناه الشامل ، والبغي والعدوان فقال تعالى : ( هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)[33] بل يقول الله تعالى بأسلوب الحصر : ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)[34] .

وهذه الحقائق نشاهدها اليوم في عالمنا الاسلامي حيث إن مشكلته الكبرى هي المظالم الواقعة بين الحكام والشعوب ، ثم بين الشعوب بعضها البعض ، ثم بين أصحاب القوى المالية والسياسية والاجتماعية ، وبين المستضعفين ، ولن ينجو عالمنا الاسلامي إلاّ من خلال العدل الذي يعيد إليه كرامته ووحدته وتماسكه .

ولهذه الأهمية فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم الوسط بالعدل في قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً …. )[35] حيث روى أحمد والترمذي بسندهما عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (…… الوسط العدل …….. )[36] وفي رواية أخرى عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجل : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً          وَسَطاً ….)[37] قال : ( عدلاً )[38] .

 

العدل والعادل من أسماء الله الحسنى ،،،،

في ضوء ما ذكره الإمام النورسي ” رحمه الله

 

أولى الإمام النورسي رحمه عناية بالغة بالعدل وتفسيره وآثاره ، وبكونه من أسماء الله الحسنى ، ونحن هنا نذكر الأدلة على أنه من أسماء الله الحسنى ، ثم نذكر ما أفاض به الإمام النورسي من أنوار واشراقات ، وإضاءات واضافات ، ثم نعقب على ذلك بتعقيبات وخواطر وتعليقات في حدود ما تمسح به طبيعة البحث .

 

كونه من أسماء الله الحسنى :

فقد روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تسعة وتسعون اسماً : مائة غير واحدة ، من أحصاها دخل الجنة ،،، هو الله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم …….. الحَكَم ، العَدْل اللطيف ، الخبير …..)[39] قال شراح الحديث : (العدل هو : الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم ، وهو في الأصل مصدر سمى به ، فوضع موضع العادل وهو أبلغ منه ، لأنه جعل المسمى نفسه عدلاً )[40] .

هذا ما يتعلق بسرد أسماء الله الحسنى ، أما أصلها فثابت في القرآن الكريم في عدة آيات منها قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[41] وقوله تعالى : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى …..)[42] وقوله تعالى : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[43]  وقوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[44]  .

يقول القاضي أبوبكر في تفسير الآية الأولى : ( هذه آية عظيمة من الآي التي جمعت العقائد والأعمال …. ) ثم قال : ( حقيقة الاسم : كل لفظ جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقاً ، فإن كان مشتقاً فليس باسم ، وإنما هو صفة ، هذا قول النحاة ) ثم عقب على ذلك بأننا في الشريعة لانحتاج إلى هذه التفرقة ( وأن الصحابة وعلماء الاسلام حيث عددوا الأسماء ذكروا المشتق ، والمضاف ، والمطلق في مساق واحد ، إجراءً على الأصل ونبذاً للقاعدة النحوية )[45] .

وقد ذكر المفسرون الخلاف في هذه الأسماء على ثلاثة أقوال:

حيث ذهب جماعة منهم إلى أنها أسماؤه التي فيها التعظيم والاكبار .

وذهب القول الثاني إلى أنها الأسماء التسعة والتسعون التي ورد فيها الحديث الصحيح[46] .

وذهب القول الثالث إلى أنها الأسماء التي دلت عليها أدلة الوحدانية ، وهي سبعة تترتب على الوجود ، وهي القادر العالم المريد الحي المتكلم السميع البصير ، حيث ان بقية الأسماء والصفات ترجع إلى هذه الأصول السبعة .

وقد رجح معظم العلماء المحققين القول الثاني ، قال ابن العربي  : ( لكن الصحيح عندي : أن المراد بها التسعة والتسعون التي عددها صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ) ثم قال : ( فإن قيل : هل إلى معرفتها سبيل ؟ قلنا : حلّق العلماء عليها ، وساروا إليها ، فمن جائر ، وقاصد ، فأما من وقف على الأمر فما عرفته إلاّ الاسفرايني ، فأسند طريقه ، ووضع تحقيقه …. ) ثم ذكر بأنه من خلال النظر في القرآن الكريم والسنة النبوية تصل أسماء الله تعالى إلى مائة وستة وأربعين اسماً ذكرها مع شرح موجز لكل اسم ، وأضاف إليها ثلاثين اسماً آخر ذكره في كتابه ( الأمد ) ولكنه قال :  إن أسماء الله الحسنى التي طلب الدعاء بها تسعة وتسعون اسماً كما في الحديث الصحيح ، حيث إن على الداعي أن يدعو بكل هذه الأسماء والصفات رجاء أن يصيب تلك الأسماء حيث قال : ( فإنها ـ أي أسماء الله الحسنى ـ مخبوءة فيهما ـ أي القرآن والسنة ـ كما خبئت ساعة الجمعة في اليوم ، وليلة القدر في الشهر … وكذلك أخفيت هذه الأسماء المتعددة في جملة الأسماء الكلية ، لندعوه بجميعها ، فتصيب العدد الموعود به فيها ….. )[47] .

 

ما ذكره النورسي حول اسم ” العدل ” لله تعالى :

فقد أولى الإمام النورسي عناية قصوى بالعدل وأهميته وآثاره ، وتجلياته ، نذكر منها بعضها :

1ـ فقد أولى في خاتمة اللمعة الثلاثين ، أن العدل من أسماء الله الحسنى الأعظم عند الإمام علي رضي الله عنه وعند الإمام أبي حنيفة حيث يقول : (ان الاسم الاعظم ليس واحداً لكل أحد، بل يختلف ويتباين، فمثلاً: لدى الامام علي رضي الله عنه هو ستة اسماء حسنى هي: فردٌ، حيٌ، قيومٌ، حكمٌ، عدلٌ، قدوسٌ.. ولدى أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه اسمان هما: حَكَمٌ عدلٌ.. ولدى الشيخ الكيلاني قُدس سره هو اسم واحد: يا حيّ.. ولدى الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) رضي الله عنه هو: القيومُ.. وهكذا، فلدى الكثيرين من العظماء الافذاذ اسماء اخرى هي الأسم الاعظم عندهم )[48] .

 

2- وقال في النكتة الثالثة التي تخص إحدى نكات اسم الله تعالى : (لقد تراءت لي نكتة  لطيفةٌ من لطائف هذه الآية الكريمة، ونور من انوار تجليات اسم الله: “العدل” الذي هو اسم الله الاعظم، أو هو نور من أنواره الستة.

تراءى لي ذلك النور من بعيد – كما هو الحال في النكتة الاولى – وانا نزيل سجن “اسكي شهر” ولأجل تقريبه الى الافهام نسلك أيضاً طريق ضرب الامثال. فنقول:هذا الكون قصر بديع يضم مدينة واسعة تتداولها عوامل التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكة واسعة تغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة، وبين جوانح تلك المملكة عالم عظيم يسبَح كل حين في خضم الموت والحياة.. ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب، فان موازنةً عامة وميزاناً حساساً، وعملية وزنٍ دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينة وتسود في كل ارجاء المملكة  واطراف العالم، وتهيمن عليها هيمنة، بحيث تدل بداهة: ان ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العدّ من تحولات، وما يلجُ فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون الاّ بعملية وزنٍ وكَيْلٍ، وميزان مَن يرى انحاء الوجود كلها في آن واحد، ومن تجري الموجوداتُ جميعُها أمامَ نظر مراقبته في كل حين… ذلكم الواحد الأحد سبحانه.

والاّ فلو كانت الاسباب الساعية الى اختلال التوزان، سائبة أو مفوضة الى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة البلهاء، لكانت بويضات سمكةٍ واحدة التي تزيد على الالوف تخل بتلك الموزانة، بل بذيرات زهرةٍ واحدة – كالخشخاش – التي تزيد على العشرين ألف تخل بها، ناهيك عن تدفق العناصر الجارية كالسيل، والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في ارجاء الكون.. كل منها لو كان سائباً لكان قميناً أن يخل بتلك الموزانة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات، ويفسد التوزان الكامل بين اجزاء الكائنات خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد ، ولكنت ترى العالم وقد حلّ فيه الهرجُ والمرج وتعرّض للاضطرابات والفساد..  فالبحار تمتلئ بالانقاض والجثث، وتتعفن ، والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة، ويفسد ، والارض تصبح مزبلة ومسلخة، وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.

فان شئت فأنعم النظر، في الموجودات كلها، ابتداء من حجيرات الجسم الى الكريات الحمراء والبيضاء في الدم، ومن تحولات الذرات الى التناسب والانسجام بين اجهزة الجسم، ومن واردات البحار ومصاريفها الى موارد المياه الجوفية وصرفياتها، ومن تولدات الحيوانات والنباتات ووفياتها الى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر وحركات النجوم الى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام الى تعارض الحرارة والبرودة.. وما شابهها من أمور، كي ترى ان الكل:  يوزَن ويُقدَّر بميزان خارق الحساسية، وان الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقلُ الانسان ان يرى اسرافاً حقيقياً في مكان وعبثاً في جزء.. بل يلمس علمُ الانسان ويشاهد اكملَ نظامٍ واتقنَه في كل شئ فيحاول أن يُريَه، ويرى اروَع توازنٍ وابدعه في كل موجود فيسعى لإبرازه.

فما العلوم التي توصَّل اليها الانسان الاّ ترجمة لذلك النظام البديع وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.

فتأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الاثنتى عشرة التي كل منها مختلفة عن الاخرى، الا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس نفسها على الله سبحانه الذي هو “العدل القدير”؟ )[49] .

هذا هو العدل القدير ، وآثار عدله وتقديره ، وهكذا الأمر لو طبقنا هذه المعايير على حركات الأرض ( السفينة الجارية السابحة في الفضاء ) وفيما يحدث فيها من ( ولادات ووفيات النباتات والحيوانات ، وإعاشتهما ، وحياتهما على الأرض التي يزيد عدد أنوعها على الأربعمائة ألف نوع ، ترى موزانة رائعة ذات رحمة تدل دلالة قاطعة على الخالق العادل الرحيم جل جلاله ، كدلالة الضياء على الشمس )[50] .

ثم ختم الشيخ النكتة بقوله : ( وان العدالة العامة الجارية في الكون النابعة من التجلي الاعظم لاسم “العدل” انما تدير موازنة عموم الاشياء، وتأمر البشرية باقامة العدل.

وان ذكر الميزان اربع مرات في “سورة الرحمن” اشارة الى اربعة انواع من الموازين في اربع مراتب وبيان لأهمية الميزان البالغة ولقيمته العظمى في الكون. وذلك في قوله تعالى: (والسماء رفَعها وَوَضَع الميزان_ الاَّ تَطْغَوا في الميزان_ وَاقِيمُوا الوزْنَ بالقِسْطِ ولا تُخْسِروا الميزانَ)[51]  نعم فكما لا اسراف في شئ، فلا ظلم كذلك ظلماً حقيقياً في شئ، ولا بخسَ في الميزان قط، بل ان التطهير والطهر الصادر من التجلي الاعظم لاسم “القدوس” يعرض  الموجودات بأبهى صورتها وابدع زينتها، فلا ترى ثمة قذارة في موجود، ولا تجد قبحاً اصيلاً في شئ ما لم تمسّه يد البشر الوسخة.

فاعلم من هذا ان “العدالة والاقتصاد والطهر” التي هي من حقائق القرآن ودساتير الاسلام، ما أشدها ايغالاً في اعماق الحياة الاجتماعية، وما اشدها عراقة واصالة. وأدرك من هذا مدى قوة ارتباط احكام القرآن