يريد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمّة أن تكون خير أمّة أخرجت للنّاس، وليست هذه الخيرية بحسب الأعراق، والأجناس، وإنّما هي خيرية الصّفات، والخدمة، والقوّة، والعزّة، والرّحمة، ولذلك أولى الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عنايةً قصوى للأسرة، وأراد الله سبحانه وتعالى من خلال آياته، وسيّدنا ونبيّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال تربيته، وأحاديثه، وسيرته، وأخلاقه، وتعامله، أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون الأسرة في الإسلام أسرة هادئة، متماسكةً، قويّةً، قائمةً على المحبّة و المودّة، وقائمةً على الاحترام، والحقوق المتبادلة.
لقد وضع الله سبحانه وتعالى لهذه الأسرة عدّة مبادئ، من أهمّها ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، هذه الآية الكريمة تتضمّن عدّة مبادئ أساسية في تهيئة الأعمال، وفي تهيئة الأسرة لتكون أسرة متماسكة، متحابّة، ومن أهم هذه المبادئ هو مبدأ أنّنا من جنس واحد، رجالاً و نساءً من نفس واحدة، وهي سيّدنا آدم عليه السّلام وأمّنا حوّاء، كلّنا من آدم وآدم من تراب، إنّ الله سبحانه وتعالى خلق حوّاء كما في أكثر الآيات الكريمة من آدم نفسه لتكون جزءًا وبضعة منه، دون انفصال ولا انخفاض، فمحبّة الإنسان لجزئه؛ قلبه و كل أعضائه هذه المحبّة يجب أن تسري على زوجته فهي جزء منه، فالنّفس الواحدة أساس التّعاون، والنّفس الواحدة أساس التّماسك، والاعتراف بأنّنا من جنس واحد، ومن نفس واحدة يقضي على التّفاخر، وعلى العصبيّة الجاهلية التي تسود بيننا مع الأسف الشّديد في هذه الأيّام إذا كانت الزّوجة من قبيلة فلان التي هي أفضل من قبيلة زوجها تجعل نفسها أفضل منه، وكذلك العكس، وهذا الأمر خاطئ يؤكّد القرآن العظيم خطورته من خلال التّأكيد على أنّنا من نفس واحدة، وأنّنا جنس واحد، وأنّه ليس هناك أحد أفضل من الآخر، ففضيلة الرجل و فضيلة المرأة بالأعمال الصّالحة، وكون الرّجل له بعض الصّفات يختلف بها عن المرأة ، وكذلك العكس، فهذه الصّفات تكاملية قائمة على فقه الميزان، والتّوازن وليس من باب تفضيل أحدهما على الآخر، ولذلك قوله سبحانه وتعالى:(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كالأنثى ۖ) ، فهذا يشملهما الاثنين فكما أنّ الذّكر ليس كالأنثى، فكذلك الأنثى ليست مثل الذّكر، فكل واحد منهما له صفاته التّكاملية، وأنّ الكون والحياة الإنسانية لا تستمرّ إلا بهذا التّكامل، فلو كان كلّ النّاس ذكورا لا انتهى جيلهم وانقرضت البشرية، والعكس صحيح، فهو تكامل وتوازن فلا ينبغي لأحد أن يفضّل نفسه لأنّه ذكر، أو تفضّل نفسها لأنّها أنثى، وإنّما الفضلة بالعمل الصالح.
هذا هو المبدأ الأساسي، وأنا من خلال متابعتي، ورجوع بعض الشباب، والشّابات إلينا نجد أنّ القضية تعود إلى ذلك المبدأ في معظمها، إمّا أنّ المرأة تعتبر نفسها أفضل من زوجها قبيلة أو غنىً، أو علماً…إلخ، فيحدث نوع من الاحتقار، أو الأمر بالعكس، فالقرآن الكريم أراد أن تكون هذه الأمّة قائمة على المساواة الحقيقة في هذا المجال المساواة المتوازنة، لأنّ المساواة المطلقة ليست عدلا، وإنّما المساواة المتوازنة، ففي الحقوق والواجبات يجب أن تكون المساواة، لكن في الوظائف والخصائص تفارق لكّنه من قبيل التّكامل، هذا هو المبدأ الأول الذي يؤكّد عليه القرآن الكريم.
المبدأ الثّاني في قوله تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، وكلمة أزواجا عندما يجتمع شيئان مناصفة فهذا يسمّى زوج، ويعني التّكامل كما أشرنا إليه في المبدأ الأوّل، فنصف الزوج زوجة، والنّصف الآخر زوج، إذا معنى ذلك أنّه لا ينبغي لأحد أن ينظر للآخر بأنّه أقلّ منه شأنا، أو أقلّ منه دوراً، فدور الإنسانية قائم على هذه الزّوجية.
فإذا كان الأمر كما قرّرناه آنفا، فيجب من التّفاهم بين الزّوجين وإن وجدت مشاكل، ولا بدّ من التّحمّل حتى يصل الأمر إلى هذا التّفاهم، ثمّ بعد ذلك بيّن الله سبحانه وتعالى مبدأ آخر وهو مبدأ السّكنى، فالرّجل لا يمكن أن يعيش معيشة حقيقيّة، وعيشة هادفة، وعيشة مستقرّة، وعيشة متوازنة، إلاّ من خلال وجود زوجة يسكن إليها، وكذلك الزّوجة.
إذن المصالح المشتركة تقتضي التّعامل على أساس هذه المصلحة، على أساس هذه السّكنى للطرفين فالزّوج محتاج إلى الزّوجة، والعكس صحيح، إذن يجب أن يتحمّل الطّرفان في سبيل هذه السّكنى، و السّكون وهو الاستقرار النّفسي والأسرين وهذا هو المطلوب، وبدون هذه السّكنى وهذا الاستقرار، تكون هناك فوضى، وتكون هناك مشاكل، وتكون هناك أسباب خطيرة تؤدّي إلى تشرّد الأطفال، وإلى خطورة المحيط الاجتماعي، لأنّ المجتمع يتكوّن من الأسر فيتفكّك بتفكّكها وعدم استقرارها، والأسر إذا كانت قويّة مستقرّة عزيزة متماسكة متحابّة ينعكس كلّ ذلك على المجتمع.
وحتّى إذا لم تكن مودّة بين الزّوجين فلا بدّ لهما، أن يتجاوزا مبدأً آخر وهو مبدأ الرحمة، فديننا دين الرّحمة، والله سبحانه وتعالى أوجب علينا الرّحمة، وكلّ الأمور تبدأ ببسم الله الرّحمن الرّحيم، الرّسول صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ رحمةً للعالمين، إذا فحتّى وإن وُجدت مشاكل زوجية فلابد أن يكون كل طرف رحيماً بالآخر، وهذا موجّه للأسرة كلّها، وليس الزّوجين فقط، فالأسرة قائمة على اللّين و الرّحمة، والخضوع، وليس هناك ذلٌّ مقبول في الإسلام إلاّ ذلاًّ لله سبحانه وتعالى، و ذلاًّ لإخوانك وأخواتك، فهذا ليس من الذّل المذموم، وإنّما هو من باب الرّحمة المطلوبة والتّواضع قال تعالى:( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ، أذلّة على المؤمنين فما بالك داخل الأسرة، فهذا مبدأ أساسي، فإذا وُجدتِ الرّحمة فلا يمكن أن يوجد الضّرب، أو الإيذاء، أو يوجد العنف،.
ومن المبادئ الأساسية في هذا المضمار مبدأ الإمساك بالمعروف، أو التّسريح بإحسان، وهذا المبدأ لا يمكن أن نصل إليه إلاّ بعد خطوات لابدّ من التّنبيه عليها
هذه الخطوات هي: الهجر، والضّرب، والتحكيم حكم من أهلها، وحكم من أهله، وكذلك اليوم الرجوع إلى المتخصّصين في الجوانب الاجتماعية، وإلى غير ذلك من الأمور، فالطّلاق هو آخر شيء، والشيطان لا يفرح بشيء كفرحه بطلاق الزّوجين كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فهذا الإمساك ميثاق غليظ قال تعالى:( وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) ، فلا يجوز كما يحدث الآن التّسرع إلى الطّلاق، بل و المبالغة فيه والاعتداء كما يقول بعضهم أنت طالق بالثلاث، أو العشرة، أو المئة…إلخ، فهذه مخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويترتب عليها إثم، فهذا التّسريح بالإحسان لا يجوز إلاّ بعد نفاد كل الوسائل، حينما لا تبقى أيّ حيلة فحينها كما يقال آخر الدّواء الكي .
المبدأ الآخر داخل الأسرة، أنّ قواعد الإسلام تأبى كما يُقال اليوم الدّكتاتورية، القائمة على أوامر طرف واحد وهو الزّوج فقط، أو الزّوجة فقط، فهذا خطأ بنص القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى يأمرنا بالتّوافق، والتّراضي، والتّشاور بين الزّوجين، فيقول الله سبحانه وتعالى:( فَإِنْ أَرَادَا) أي الزوجين(فِصَالًا) أي الولد يفطم عن الرّضاعة، فلا يجوز للزّوجة أن تقطع الفطام بنفسها دون مشاورة الزوج، وكذلك الزّوج لا يجب عليه أن يأمرها بذلك دون رضاها لقوله تعالى: (عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ ) ، وهاتان الجملتان حسب فقه اللغة من باب مشاركة التفاعل، أي بين الطرفين، على عكس باب المشاركة في المفاعلة، فهذه الآية تدل على أنّ قوامة الرّجل مثل رئيس مجلس الإدارة، ولكنّ المرأة هي الرّئيس التّنفيذي إن صحّ هذا التّعبير، فهذان إذا أرادا شيء فيجب أن يكون بالتّوافق بينهما، وهذا عند كثير من النّاس يرفضونه على أساس الفهم الخاطئ لهذا المبدأ وهو التّوافق بين الطّرفين.
فإذا كان هذا في مسألة الرّضاعة، فإنّه يعم جميع الأمور كما هو منصوص في كتب الفقه والأصول، فإذا أخذنا بهذا المبدأ الرّباني تكون الأسرة قويّة، متماسكة، تسير وفق مبدأ التّشاور، فإذا كان الرّجل يأمر فقط والمرأة تطيع أو تعصي الأوامر فحينئذ تحدث الاختلالات والمشاكل.
وهناك مبادئ أساسية أخرى، الذي يهمّنا الآن هو أنّ الإسلام يريد أن تكون الأسرة متماسكة، متراحمة، متفاعلة، متشاورة، متراضية، لا يكون فيها ضرب ولا إيذاء، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:((لن يضرب خياركم))، لا يمكن أن يكون هناك ضرب مهما بلغ الأمر إذا طُبِّق الإسلام على أحسن وجه، فماذا نفعل بقول الله سبحانه وتعالى:(وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) ، فالقرآن ربط الضرب بالنّشوز، الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن لنا هذا الضرب أنّه يكون في حالة الخيانة الزّوجية، فحن قدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأنا أتحدّث إليكم في هذا اليوم الذي جعلوه يوماً ضد عنف المرأة، وهذا اليوم العالمي صدر به قرار من الأمم المتّحدة في 25 نوفمبر 1993م، ومع الأسف الشديد أنّ أعداء الإسلام وجّهوا سهامهم الحاقدة إلى القرآن بأنّه يأمر بالضرب، وهو زعم باطل كما وضّحته من خلال تفسير مفهوم الآية، ورغم هذا الزعم الباطل وتشدّقهم باحترام حقوق المرأة، فإنّ منظّمة الصّحة العالمية، وكلّية الطب في لندن، وغيرهما من المنظمات، قاموا بالإحصائيات السنوية حول هذا الموضوع، فإذا بتوقّعاتهم وشبهاتهم التي كانوا يتبجّحون بها انعكست عليهم، فوجدوا نسبة العنف ضد المرأة تتمركز في العالم الغربي وليس الإسلامي كما كانوا يعتقدون، رغم أنّنا لا ندّعي الكمال في ذلك، لأنّنا بعيدين عن المنهج الكامل للإسلام، ورغم هذا فنور الإسلام مزال ساطعا و الحمد لله تعالى وحده، فالنّتائج الأوّلية حسب تقاريرهم أنّه يوجد حولي مليون و أربعمئة ألف امرأة متوفاة بسبب العنف في العالم كل سنة، وأكثر من هذا العدد تقريبا مليوني امرأة تسبب لها العنف بجروح ونحو ذلك، وأيضا وزّعوا هذه النسبة فوجدوا اليابان 15% ، ونسبة العنف في فرنسا 95%، وفي كندا نسبة العنف 60%، و بسبب العنف ثلاثة آلاف امرأة تشرّد سنويا في العالم، و فيكندا في كل ستة أيام تقتل المرأة من طرف شريكها كما يقولون وهو بالنسبة لهم يعتبر زواج، و أكبر نسبة للعنف سجّلت في إثيوبيا.
والعنف في الإسلام لا يقتصر على ما هو مفهوم لدى الكثيرين، ولكن يُعتبر الاغتصاب، والتحرش الجنسي، والدعارة، كل ذلك يعتبر عنف في ديننا الحنيف عنفا.
والغرض من ذلك هو تطبيق مبادئ الإسلام الحنيف، وأن نكون قدوة للعالمين.