الدوحة – الشرق

الحلقة : الثانية عشرة

المنهج الوسط معالمه وضوابطه:

الله تعالى أنزل رسالته الخاتمة (القرآن الكريم) وأرسل رسوله الخاتم (محمداً المبعوث رحمة للعالمين) لإخراج أمة تكون خير أمة أخرجت من حيث العقيدة والفكر والتشريع والسلوك ، والقوة والوحدة، وخير أمة من حيث تقديم الهداية والعدل والحق للناس أجمعين، ولتحقيق الرحمة الحقيقية للعالمين.

فالغاية من إنزال القرآن الكريم واضحة، وهي تحقيق الخير الشامل للدنيا والآخرة لمن يلتزم به، فقال تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا).

والغاية من إرسال سيدنا محمد صلى الله عليهوسلم هي تحقيق الرحمة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وبيان حل ِّالطيبات، وحرمة الخبائث فقط، والأمر بكل ما هو معروف مستحسن شرعاً وعقلاً وطبعاً، والنهي عن كل ما هو منكر وقبيح شرعاً وعقلاً وطبعاً فقال تعالى: (النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).

فقد أكمل الله تعالى دينه، وأتم على هذه الأمة نعمته ورضي لهم الإسلام دينا ليعتصموا بحبل الله جميعاً ولتتكون منهم أمة واحدة، تدعو إلى الخير والإحسان في علاقاتها، وتسير على منهج التوحيد لله تعالى في عقيدتها، ومنهج الوحدة في مسيرتها الإيمانية والحضارية والاجتماعية والإنسانية والسياسية، والاقتصادية حتى تكون قادرة على أداء رسالة الاستخلاف والتعمير الإيجابي للأرض، وتُصبح معتدلة وسطاً لتكون شهيدة على العالم بالقسط، وقادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).

وقد أفاض القرآن الكريم في بيان سنن الله تعالى، وسنن الذين كانوا قبلنا من أهل الأديان السابقة كيف تفرقوا واختلفوا في دينهم بعد ما جاءهم الحق والبينات، فحرَّفوا، وحلَّلوا ما حرَّم الله، أو حرَّموا ما أحل الله ، وكذلك اختلفوا أيضاً في إدارة شؤونهم فدخلت الأهواء وحظوظ النفس فكانت عاقبتهم الخسران والضعف والهوان، وتوالت عليهم المصائب، لأنهم لم يأخذوا بما أمرهم به دينهم ولم يرجعوا إلى الله تعالى فلم يتقوه، بل رانت على قلوبهم حظوظ النفس وأهواؤها فقست فلم تخشع إلى الله تعالى، ولم تلِن، كما أنها لم تعد إلى العقول المستقيمة والفطر السليمة.

إن القرآن الكريم الذي ذكر قصصاً كثيرة جداً وكرر بعضها أكثر حتى تكون عبرة لنا فقال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، وقال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ) أي قيسوا الأحوال المتشابهة بعضها على بعض، حتى نستفيد من التاريخ ومن الحاضر، ومن الانتصارات، ومن الهزائم، ومن السلم والصلح، ومن الحروب والفتن، ومن الحضارة والتقدم والعمران، ومن التخلف والتخريب، وخراب البلدان، ندرسها ونستخرج منها السنن، حتى نستفيد من الإيجابيات، ولا نقع في السلبيات والمصائب.

ومع الأسف الشديد، فقد أصاب أمتنا معظم أمراض الأمم السابقة من الفرقة والاختلافات المدمرة، ومن البعد عن السير على منهج الحق والصراط المستقيم، فقال تعالى (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً)، قال القرطبي في تفسير: “ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم ..”، وقال ابن تيمية: “وإنما قصَّ الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين”.

إن أمتنا الإسلامية لن يصيبها ـ بفضل الله تعالى ـ عذاب الاستئصال الكلي مثل ما أصاب الأمم السابقة ، ولكنها تتعرض لغيره من أنواع العذاب والهلاك، فقد روى مسلم وغيره بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك : أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها … حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويُسبي بعضهم بعضاً”، وفي رواية لأبي داود في سننه ، وابن حبان في صحيحه زيادة: “وإنما أخاف على أمتي، الأئمة المضِّلين”.

يقول ابن القيم: “وقد جعل الله سبحانه أعمال البَرِّ والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاءً لا بد منه فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء والقحط والجدب، وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك، والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا … فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يُظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم وآلام وغموم تُحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزَّا، لتحق عليهم الكلمة، وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يُسيِّر بصيرته بين الأقطار … وينظر مواقع عدل الله وحكمته”.