الدوحة – بوابة الشرق

الحلقة : الثانية عشرة

ان الصحابة الكرام حينما هاجروا إلى المدينة، حنوا كثيرا إلى مكة المكرمة، فهذا بلال يقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

وقد سمعت عائشة هذا فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة) فاستجاب الله دعاءه فغرس فيهم حب المدينة.

كما أن الشعراء المسلمين قد أنشدوا في حب الأوطان فهذا ابن الرومي يقول:

وَلي وطنٌ آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكاً

والشاعر ابن الأبار بكى وطنه بقصيدة رائعة فقال:

أنين واشتياق وارتياع لقد حُمّلْتُ ما لا يُستطاع

فللعبرات بعدهم انحدار وللزفرات إثرهم ارتفاع

نأوا حقاً ولا أدري أيقضى تلاقٍ أو يُباح لنا اجتماع

ولما رأى الخليفة الأموي بالأندلس عبدالرحمن الداخل نخلة أثارت فيه شجونه وحنينه إلى الشرق والشام فقال:

فقلت: شبيهي في التغرب والنوى وطول اكتئابي عن بنيّ وعن أهلي

إن جســـــــمي كـمـــا تراه بأرض وفـؤادي ومالكيه بأرض

ولكن الشعراء المسلمين كان حبهم للبلاد متأثراً بالأماكن التي لها منزلة أكبر في الاسلام فهم جميعاً يحبون مكة والمدينة، والقدس أكثر من غيرها، فهذا الشاعر الاسلامي محمد إقبال يقول:

أشواقنا نحو الحجاز تطلعت كحنين مغترب إلى الأوطان

واعتبر الاسلام إن إخراج الإنسان من وطنه الذي ولد فيه أو اقليمه الذي ينتمي إليه من أهم أسباب القتال والجهاد في سبيل الله فقال تعالى في أول آية في الجهاد: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) حيث ذكر الله تعالى أول سبب لمشروعية الجهاد والقتال هو الاخراج من الديار، وهو بذلك تأكيد لما أقره الله تعالى لبقية الأنبياء، حيث يذكر لنا في قصة طالوت وجالوت هذه الحقيقة فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

وذكر القرآن الكريم الفرق بين مسلم مواطن يعيش في ظل الدولة الاسلامية، ومسلم لا يعيش في ظلها، فالأول له الحق في الحماية والنصرة المعلقة على الدولة الاسلامية، وأما الثاني فله حق الولاية والنصرة إلاّ على قوم، أو دولة لها ميثاق وعهود مع الدولة الاسلامية حيث يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وهذا يعني أن العيش في ظل الدولة الاسلامية يفرض حقوقاً أكثر من حقوق من يعيش في خارج الدولة حتى لو كان مسلماً حقاً، وبالتالي فالدولة الاسلامية تتعامل في هذه الحالة وفق العهود والمواثيق وحسب المصالح العليا.

وإن وثيقة المدينة (أو دستور المدينة) لم تغفل بجانب رباط العقيدة عن رباط المواطنة والعيش في وطن واحد مشترك حيث ذكرت بل وأصلت نوعين من الرباط له اعتباره وقيمته.

1 — الرباط العقيدي الواحد، حيث نصت على: (أن اليهود أمة، والمسلمون أمة) أي أمة العقيدة والدين والشعائر والقيم.

2 — رباط الشراكة في الوطن، حيث نصت على: (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم) ثم ذكر بقية قبائل يهود من بني النجار ونحوهم، حيث أثبتت أن المسلمين واليهود أمة واحدة، فإثبات وحدتهم لا يمكن إلاّ من خلال رباط جامع يضم الجميع وما يسمى في عصرنا الحاضر برباط المواطنة، يقول الشيخ راشد الغنوشي: (أي أمة السياسة والمواطنة بالتعبير الحديث، أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقاً متساوية باعتبارهم أهل كتاب وأهل ذمة أي مواطنين حاملين لجنسية الدولة المسلمة من غير المسلمين).

وهذا يعني أن غير المسلمين في بلاد الإسلام لهم حقوقهم الكاملة في المواطنة على أساس أنهم شركاء وبالتالي فهم عليهم واجبات المواطنة ومسؤولياتها، ولها حقوقها، حالهم في ذلك حال المسلمين، ولذلك نصت بنود الوثيقة على هذه الحقوق والواجبات في الدفاع عن المدينة.

حتى إن مسألة الجزية هي من واجبات مالية غير المسلم نحو التكافل كما أن المسلم يدفع الزكاة لهذا الغرض، وإذا كانت المشكلة في الاسم فإن عمر وحّد المصطلحين وفرض على بني تغلب الزكاة بناء على طلبهم حيث إن الجزية أقل بكثير من الزكاة وربما يكون رأي الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه يجعلنا في العصر الحديث أن نختاره لأهمية توحيد الوعاء الوظيفي جباية وصرفاً.

وسيأتي مزيد من التفصيل حول وثيقة المدينة.