الدوحة – الشرق

الحلقة الرابعة عشرة

مكونات الانتماء

سواء فسرّنا الانتماء بأنه اتجاه، أو شعور أو إحساس أو حاجة نفسية، أو دافع وميل، فإنه لا يخلو منه إنسان، بل لا يمكن أن يوجد إنسان عاقل دون انتماء، ولكن الانتماء الوطني حسب العرف السائد يتكون من المكونات الآتية، وهي: الهوية، والقومية (أي النسبة إلى القوم)، والولاء الذي هو جوهر الالتزام، والمحبة والعطف، والالتزام بالدستور والقوانين، والمعايير الحاكمة في الدولة، والديمقراطية.. والذي يظهر لنا هو أن الانتماء ـ حتى بكل مكوناته ـ إذا لم يجعل البديل عن الانتماء الإسلامي، ولم يحل محل رابطة العقيدة، فلا مانع منه، بل يمكن أن يجعل هذا الرابط الوطني ليكون وسيلة لتحقيق مزيد من الربط بين المواطنين، المتحدين؛ قومية واحدة، ولغة واحدة، ولمزيد من الضبط للحقوق والواجبات، ولتأكيد عرى المحبة وتأكيد القرب من خلال القرابة والتجانس اللغوي، حينئذ يكون هذا الرابط ايجابياً لا سلبياً، نافعاً مقوِّياً، لا ضاراً مفرقاً.

الإطار الثاني الجامع بين المسلمين وغيرهم: ففي هذا الإطار فإن الإسلام نفسه استعمل المواطنة، لتكون رابطاً جامعاً بين المواطنين، (أي الذين يعيشون في الوطن الإسلامي الكبير)، كما هو الحال في الوثيقة التي سنتحدث عنها بشيء من التفصيل.. إن الإسلام في سبيل ربط غير المسلمين بالدولة والوطن، وتحقيق ولائهم ونصرتهم، يؤصل ويؤكد على مجموعة من الروابط الجامعة، ليس لتحقيق التعايش بين المسلمين وغيرهم، من أهل الكتاب فقط، وإنما لتحقيق واجبات المواطنة وحقوقها أيضاً، لذلك نراه يؤكد على المشتركات الآتية:

1 — المشتركات الإنسانية الجامعة، وفي هذا الإطار يؤكد في آيات كثيرة على أن جميع البشر يشتركون في: أ ـ أن أصلهم واحد؛ فهم من آدم وحواء، وآدم من تراب، وتأكيد القرآن على بيان هذا الأصل في أكثر من آية، يأتي لترسيخ مبدأ المساواة الحقيقية بين بني آدم جميعاً، ثم إن التركيز على أن أصلنا من التراب والأرض، يدل أيضاً على أهمية الوطن، وإنني دائماً أقول: الأرض أمنا الأولى قبل حواء، وهي حاضنتنا التي تضمنا بعد الموت، وتحفظ رفاتنا لنحيا منها مرة ثانية، فقد قال تعالى: “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى”. ب ـ أنهم جميعاً تجمعهم صلة الرحم الإنسانية فكلهم إخوة وأخوات، من حيث رجوعهم إلى أب واحد وأم واحدة (آدم وحواء)، ولذلك طالبهم القرآن الكريم برعاية هذه الصلة والقرابة، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء، وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً”، حيث فسّر هذه الرحم برحم البشرية الجامعة.. ج ـ أن آدم أبو البشرية جميعاً (وليس أبا المسلمين، أو أهل الكتاب وحدهم) فأبو البشر جميعاً بيّنه الله تعالى، بأنه قد خلقه بيديه، ثم نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فقال تعالى: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ”. فالتأكيد على هذه المعاني الثلاثة الشريفة يدل على أهمية هذا الإنسان ومنزلته الرفيعة، من حيث هو إنسان. د ـ إن الله تعالى قد أكرم هذا الإنسان من حيث هو إنسان، فقال تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً”. فهذه المشتركات الإنسانية تقوي الروابط والانتماء والمحبة. 2 ـ المشتركات الجامعة بين المسلمين وأهل الكتاب، حيث أعطاهم الإسلام ميزة، لأنهم أهل الكتاب، ولأنهم أهل الإيمان بالله، واليوم الآخر من حيث المبدأ، ولذلك أجاز الزواج من نسائهم المحصنات، وأكل ذبائحهم.. فهذه المشتركات تجعل الروابط الجامعة بين المسلمين وأهل الكتاب، أكبر من السابق لأن الكتابي قد يصبح أبا لزوجة المسلم، أو جداً، أو خالاً، أو نحو ذلك.. 3 ـ المشتركات الإنسانية حيث خلق الله تعالى الإنسان، وجعله مدني الطبع يحب الاجتماع، والمدنية والحضارة، ولذلك طلب من المسلمين أن يتعاملوا ويتعاونوا مع كل من يريد التعاون معهم، دون النظر إلى دينه فقال تعالى: “وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”، ونرى أن الله لم يذكر المتعاون معه، لأنه ليس مهماً، وذلك لأن المهم هو محل التعاون، فإن كان خيراً فيجب التعاون معه عليه، وإن كان شراً فيحرم التعاون معه عليه. حتى لو كان مسلما،

وكذلك أمر المسلمين بالجلوس والتحدث والحوار مع الجميع بأجمل أسلوب، وأحسن جدال وحوار، وأفضل وسيلة لأنهم يشتركون في البحث عن الحقيقة، فقال تعالى: “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ”، فبهذا الأسلوب الجميل أمر الله تعالى نبيه، بأن يخاطب غير المسلمين حتى المشركين والملحدين. كل هذه المشتركات تساعد في الاندماج الايجابي، ومنح الحقوق بكل عدل وإنصاف.

دار الإسلام ودار الحرب هي دار المواطنة

إن هذا التقسيم الذي درج عليه الفقهاء المسلمون من تقسيم الديار إلى: دار إسلام، ودار حرب، أو دار عهد، يعود في حقيقته إلى رعاية الوطن والمواطنة، وذلك لأن جميع من يعيش في دار الإسلام من المسلمين والذميين، هم مواطنون لهم حقوق المواطنة على الدولة، وعليهم التزامات ومسؤوليات، فقد صرح الفقهاء بعدم التفرقة بين المسلمين، وأهل الذمة، في وجوب الحماية والدفاع عنهم داخل ديار الاسلام، أو في حالة الأسر. حيث نص الفقهاء على أن من واجبات الدولة المسلمة أن تسعى لإطلاق الأسرى من المسلمين والذميين على حد سواء، حتى حكى ابن حزم الإجماع على: أن من كان في الذمة وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة. وأما المستأمِنون الذين دخلوا دار الإسلام لأجل التجارة أو نحوها، وأخذوا الأمان من الدولة، أو من المواطنين فإنهم ليسوا مواطنين، ولكنهم لهم كثير من الحقوق.