الدوحة – بوابة الشرق
الحلقة : السابعة
Save
يجب على الأقلية المسلمة أن لا تتنازل عن ثوابت دينها، وأن لا تقبل بما يتعارض مع ثوابت دينها وعقيدتها، أو يؤدي إلى تذويبها.
ونذكر هنا ما حدث من حرب على الحبشة، وموقف الصحابة منها حيث تروي لنا أم سلمة المهاجرة هذه القصة قالت: ( فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه.. فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط هو أشد منه، فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي فخرج إليه سائراً فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون؟ وقال الزبير — وكان من أحدثهم سناً — أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه. فجاء الزبير فجعل يليح لنا بردائه ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشي. قالت: فوالله ما علمنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعاً إلى مكة وأقام من أقام ).
ما يستفاد من هذه القصة:
1 — أن المدخل إلى قلوب الآخرين إنما يتحقق من خلال الثوابت المشتركة وبيان الأوصاف الطيبة لرموزهم، حيث إن جعفراً رضي الله عنه قرأ صدراً من سورة مريم التي تذكر الأوصاف الطيبة لسيدنا عيسى، وسيدتنا مريم عليهما السلام حتى بكى الملك، ولم يتحدث في هذا المقام كما ذكره القرآن عن بعض النصارى من التثليث، ونحوه من ذم النصارى، وهذا يقتضي من الأقلية المسلمة أن تبحث دائماً عن الثوابت المشتركة والأمور المحببة.
2 — الالتزام بثوابت الدين مهما كانت الظروف، فقد رأينا أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجدوا للملك على الرغم من ظروفهم الصعبة وحالتهم الخطرة، وأن العرف السائد كان يقتضي ذلك، حيث دخلوا على الملك بعد أن جاء وفد قريش بالهدايا العظيمة والسجود له لردهم إلى مكة، فسلموا عليه ولم يسجدوا له، فقال الملك: مالكم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من قومكم… فقال جعفر: (وأما التحية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا: أن تحية أهل الجنة: السلام، وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيى بعضنا بعضاً) وفي رواية: (ثم أمرنا أن لا نسجد إلاّ لله).
وهذا يقتضي من الأقلية المسلمة وجوباً أن لا تتنازل عن ثوابت دينها، وأن لا تقبل بما يتعارض مع ثوابت دينها وعقيدتها، أو يؤدي إلى تذويبها، والقضاء على هويتها، فهذا أمر في غاية من الأهمية، وإلاّ فما قيمة البقاء والعيش آمناً رغداً والعقيدة والثوابت في خطر، لذلك يجب عليها أن تبذل الغالي والثمين، وتضحي بكل شيء في سبيل الحفاظ على هويتها الإسلامية وهوية الأجيال اللاحقة.
3 — جواز الهجرة إلى دار الكفر، والبقاء فيها، حيث إن هؤلاء الأصحاب بقوا إلى عام خيبر، حيث يقول جعفر: (فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنقني، ثم قال: (ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح، أم بقدوم جعفر).
4 — الحبّ للوطن الجديد الذي آواهم، والحزن على انتصار الأعداء على أهله وملكه، والدعاء لنصرته والفرح بها، وحضور أحدهم الموقعة، والاستبشار بنصره.
وفي هذا دليل على أنه لا تعارض بين ما سبق وبين الولاء لله ورسوله وللمسلمين.
5 — الوفاء، حيث روى البيهقي وغيره عن أبي أمامة قال: (قدم وفد النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: (إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وإني أحبّ أن أكافئهم).
وفي صنيع رسول الله مع هذا الوفد مع أنهم كفار، دليل آخر على أن المسلم يجب أن يكون وفياً شاكراً لله تعالى لكل من أحسن اليه مهما كان دينه.
والخلاصة: كان هذا بعض ما يمكن الاستنباط من هذه القصة الرائعة، والقدوة الطيبة لسيدنا جعفر، ورفاقه رضى الله عنهم أجمعين.
المطلب الثالث: فقه المواطنة باعتباره مدخلاً للتعايش، ومنطلقاً للاندماج الايجابي:
التعريف بالمواطنة:
المواطنة لغة: مصدر واطن، وأصله من: وطن بالمكان، يطن وَطْناً: أي أقام به، اتطن البلد، أي اتخذه بلداً، واستوطن البلد أي توطنه، وَوَطنُ الشخص: بلده الذي أقام به.
وأما المواطنة من واطن: بمعنى عاش معهم في وطن واحد، فقد بيّن المعجم الوسيط (الذي يعبر عن رأي مجمع اللغة العربية بالقاهرة) بأنها (محدثة) أي لم تستعملها العرب بهذا المعنى الحديث.
ولكن الفقهاء استعملوا (وطن الاقامة) في مقابل بلد السفر، أي الموضع الذي استقر فيه، أو يستقر فيه مدة يخرج بها المسافر عن أحكام السفر مثل خمسة عشر يوماً.