الدوحة – الشرق

الحلقة :السادسة و العشرون

الثبات والتغير أو التطور عند السلف وأثر ذلك على الوحدة:

المقصود بالسلف هم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية؛ اعتماداً على حديث عبدالله بن مسعود في الصحيحين (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..) وقد بيّن العلماء أن الخيرية تعود إلى القرب من ينبوع النبوة وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم، والصفاء والنقاء، فالسلف ليس مذهباً معيناً، ولا حكراً على فئة معينة، وإنما أهل السلف هم أهل المذاهب والآراء المعتمدة في إطار الكتاب والسنة.

وشاء الله تعالى أن يتكامل أصول الفقه للمذاهب الفقهية، وللفكر في هذه القرون وأن يكون أئمة الفقه في هذه العصور الثلاثة، وأن تتقدم الأمة، وتتحقق الحضارة العظيمة لهم خلال هذه القرون الثلاثة، فأصبحت الأمة خلال القرون الثلاثة الأولى أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب، متقدمة في العلوم والثقافة والفنون حققت أعظم حضارة في وقت قصير، وغدت رائدة العالم وقائدته، وتطور السلف خلال القرون الثلاثة أكثر مما تطور الخلف في عصورهم الطويلة، وتطور الفقه الإسلامي النظري والعملي تطوراً عظيماً حيث استطاع أن يستوعب كل الحضارات والأفكار.

علاقة فقه الثوابت والمتغيرات بتوحيد الأمة

تظهر علاقة فقه الثوابت والمتغيرات بتوحيد الجماعات والمذاهب والأحزاب الإسلامية من خلال ما يأتي:

أولاً: أن تلك الثوابت القواطع بمثابة المبادئ المشتركة والمنهاج السليم، والشرعية المتفق عليها عند جميع الطوائف الإسلامية والجماعات الإسلامية، وبمنزلة الدين المشترك، وأن من لم يعترف بهذه الثوابت فهي خارجة عن الإسلام مارقة في الضلالة، وليس حديثنا مع هؤلاء الذين لا تجمعهم تلك الثوابت والقواطع، وإنما حديثنا مع من يلتزم بهذه الثوابت القاطعات في الإسلام ولكنه يختلف في الفروع والوسائل ونحوها.

ثانياً: من خلال فقه الثوابت والمتغيرات يتم اعتراف كل جماعة بالأخرى وكل طائفة بالثانية ما دامت الثوابت مشتركة، وما دامت المتغيرات مقبولة ومشروعة بل مطلوبة، وبالتالي يكون من الطبيعي أن يعذر بعضهم بعضاً،أو يسعى بالحوار والجدال الأحسن للوصول إلى الأحوط والأفضل، فأعظم المشاكل بين المسلمين أن بعضهم لا يعترف بالآخر، فإذا وجدت التوعية بفقه الثوابت والتغيرات لاعترف بعضهم ببعض، كما أن هناك عدم المعرفة بالحقائق الموجودة لدى المذهب أو الجماعة الأخرى، وإنما وصلت معلومات مغلوطة أو قديمة، أو غير دقيقة، أو تخص فئة منهم، أو أشخاصاً معينين لا يجوز تعميم آرائهم ورؤاهم على جماعة بعينها، أو مذهب بعينه.

ثالثاً: أنه من خلال فقه الثوابت والمتغيرات يعلم أن الخلافات الكثيرة ما دامت في نطاق المتغيرات مقبولة شرعاً.

الإشكالية في فقه التنزيل وليست في معيارية الوحي:

إذا اعتبرنا أن تنزيل النص على واقعة مستجدة هو اجتهاد وعمل المجتهد، وليس هو النص نفسه فحينئذٍ تتسع دائرة القبول، وميدان المتغيرات، وذلك لأن قيم الوحي هي قيم معيارية لضبط المسيرة وتأطيرها، وهي أدلة وموازين، ولكنها ليست برامجَ وخططاً في مجالات الحياة العادية، ومن هنا تصبح البرامج والخطط والتدابير الإدارية اجتهادات يمكن مناقشتها، والاختلاف فيها، ولا تعتبر ديناً لا يمكن مناقشته ونقده وتغيره، بل يدخل فيما ذكره الفقهاء من تغيير الفتاوى بتغير الزمان والمكان.

غير أن أهم إشكالية هي في الخلط بين النص نفسه، وبين تنزيله على واقع لم يرد في النص، وبين القيمة، والبرنامج، وبين المعيار والاجتهاد، وبين الدليل المعصوم، والاجتهاد القابل للخطأ، وبين المطلق والنسبي، والمجرد والمجسد.

تنزيل التفرق المذموم والخلاف المشروع (تحرير محل النزاع):

إذا نظرنا إلى أمتنا الإسلامية من حيث التفرق المذموم، والخلاف المشروع فنراها كالآتي:

1 — إن الخلاف الفقهي السائد بين جميع المذاهب الفقهية مندرج — من حيث المبدأ العام — في الخلاف المشروع ما دام في إطار عدم المخالفة للنصوص قطعية الدلالة والثبوت، ولما علم من الدين بالضرورة.

2 — إن الحركات السياسية الإسلامية (وكذلك الأحزاب الإسلامية) على الرغم من اختلاف برامجها ليس الخلاف فيها من التفرق المذموم — من حيث المبدأ العام — فالإخوان والسلف والتبليغ والجماعة الإٍسلامية في الهند وباكستان وبنغلاديش وغيرها، وكذلك الأحزاب والحركات المنبثقة في دائرة البرامج السابقة في العالم الإسلامي، يعد الخلاف بينها في دائرة البرامج وليس في دائرة التكفير والتفسيق.

3 — لكن التفرق المذموم فيما يخص الفقرة السابقة هو بين الامة الإسلامية وبين الحركات والتيارات السلفية الجهادية المتشددة والقاعدة التي تنطلق من التفسيق والتكفير لمعظم الأمة لتصل إلى العنف والهدم والتفجير.

فهؤلاء لا بد أن نضع لهم علاجاً آخر يبنى على أساس التحاور والتوعية ومعايشة العلماء لهم ليعودوا إلى رشدهم كما عاد أكثر الذين خرجوا على سيدنا علي — رضي الله عنه — إليه بعدما ذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه فناقشهم وحاججهم في آرائهم، فهدم بنيانها فخرّ السقف وانجلى الحق وزالت الشبهة فعادوا إلى الحق، وكما حدث مثل ذلك في مصر بعد مقتل السادات على أيديهم، فدخل شباب الجماعة الإسلامية وغيرهم فذهب إليهم العلماء أمثال الشيخ محمد الغزالي، والشيخ الشعراوي رحمهم الله، فناقشوهم وحاوروهم وأعطيت لهم فرصة في السجن لقراءة كتب العلماء من السابقين والمعاصرين فتأثروا بهم وكتبوا مراجعاتهم في عدة مجلدات، والحمد لله فهم اليوم يمثلون أيضاً التيار المعتدل في مصر.

4 — إن التفرق المذموم — الذي يخاف منه أن يؤدي إلى الصدام والحروب — يكاد يظهر — مع الأسف الشديد — بين السنة والشيعة في ظل بعض القنوات الفضائية التي تبث السموم، وتثير الفتنة من خلال الهجمات العنيفة، وكشف المستور… وفي ظل إصرار البعض على الطعن في مقدسات الآخر، واللعن لرموزه، وفي ظل إصرار البعض على نشر مذهبه في البلاد التي يسود فيها مذهب الآخر، وفي ظل التفرق الكبير في مواقف العالم الإسلامي حول ثورة الشعب السوري المظلوم، حيث تقف جمهورية إيران الإسلامية وجماهير الشيعة في لبنان والعراق، والخليج مع نظام بشار الأسد بكل قوتهم، في حين يقف بقية العالم الإسلامي مع الشعب السوري وثورته الحقة.