جريدة العرب- الدوحة
الحلقة التاسعة

يقول القره داغي: فلا نجد ديناً أو نظاماً أولى عنايته بمحاربة التطرف والغلو والإفراط والتفريط في كل شيء مثل الإسلام، فقد شنّ عليه حرباً، وحذر منه تحذيرات شديدة، فقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب الذين غلواً في دينهم بغير حق، وترهبنوا أو ابتدعوا الرهبانية وترك الدنيا وطيـباتها فقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ)، وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين فإنما هلك مَنْ قبلكم بالغلو في الدين) قال الإمام ابن تيمية: قوله: (“إياكم والغلو في الدين” عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة الحد والنصارى أكثر غلواً في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف).

وقد ذكر الرسول عاقبة وخيمة لأهل الغلو والتطرف وهي الهلاك في الدين والدنيا حيث قال: (هلك المتنطعون) ثلاث مرات قال الإمام النووي: أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم).

ولذلك دعا الإسلام إلى الوسطية، وجعل هذه الأمة أمة وسطاً فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)، ولذلك علمهم منهج الوسطية في العبادات والعقائد والعادات والملبس والمأكل والمشرب، كما سبق، وجعل شعارهم (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)، ودعا إلى التمتع بالدنيا وملذاتها بالحلال، وأنكر على من يقول بأن الزينة محرمة فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقال أيضاً: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)، وأوضح الرسول منهجه وطريقته في التعامل مع أمور الدنيا حينما سمع أن بعضهم يريد الابتعاد عن أكل اللحم، وعن الزواج، والنوم في الليل فقال: (ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟، لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب سنتي فليس مني).

ومن الضرورة الإشارة إلى أن التمسك بالكتاب والسنة، أو بالأحوط من آراء الفقهاء ليس تطرفاً، وإنما التطرف هو التجاوز عن الحد الوسط مع التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وقد يؤدي ذلك إلى التكبر أو الاعتداد بالذات أكثر من لازم، فقد سمعنا بعضهم (وهم لا يزالون محتاجين إلى فهم النصوص الشرعية) يقولون: (هم، أي أبو حنيفة ومالك والشافعي ونحوهم، رجال، ونحن رجال).

ومن مظاهر التطرف أيضاً: التزام التشدد على النفس، والتشديد على الغير في غير محله وإلزامهم بما لم يلزمهم الله به في حين أن الإسلام دين التيسير في الأحكام، والتبشير في الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)، ومن مظاهره أيضاً الغلظة والخشونة في التعامل، وهم يخطئون في الاستشهاد بآية نزلت في حالة الحرب مع الأعداء (وليجدوا فيكم غلظة)، كما أن سوء الظن بالناس من مظاهر التطرف، والتساهل في غيبتهم من باب الجرح والتعديل في حين أن من أخلاق الإسلام حسن الظن بهم والتماس الأعذار لهم، أما السقوط في هاوية التفسيق والتكفير للمخالفين فهو أخطر مظاهر التطرف والغلو، وحينئذٍ تكون الكارثة حيث تسقط عصمتهم وتُسْفَك دماؤهم.;