يشارك أ. د. علي القره داغي – الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – في ندوة “البركة السابعة والثلاثين للاقتصاد الإسلامي” والمنعقدة في مدينة جدة بالسعودية خلال يومي 8 ، 9 رمضان 1437هـ الموافقين 13 ، 14 يونيو 2016م .

كما تقدم الدكتور القره داغي بورقة بحثية في الجلسة الأولى من جلسات الندوة والتي جاءت تحت عنوان: تطبيق المفهوم العام للأحاديث النبوية الشريفة والأحكام الفقهية، وتحقيق المناط على المعاملات التجارية والمالية المعاصرة، حيث جاء بحث القره داغي تعقيباً على بحث (المفهوم العام للأحاديث والأحكام الفقهية وتحقيق المناط) للدكتور عبد الستار أبو غدة.

ورقة بحثية مقدمة إلى ندوة البركة السابعة والثلاثين للاقتصاد الإسلامي

جدة –  8-9  رمضان/1437هـ = 13-14 يونيو 2016

تعقيب على بحث (ضبط عمليات البيع والشراء للأفراد والمؤسسات)

في موضوع : تطبيق المفهوم العام للأحاديث النبوية الشريفة والأحكام الفقهية ، وتحقيق المناط على المعاملات المالية التجارية والمالية والمعاصرة

بقلم

أ . د . علي محيى الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

ونائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث

 الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد

 فلا زالت ينابيع الخير في ندوات البركة تتدفق بالبركات ساعية لاستخراج الكنوز والرحمات من داخل النصوص الشرعية ، عللها ، وحكمها البالغات ، جاهدة ربط القضايا المعاصرة بالأصول الثابتات، وجامعة بين الأصالة والمعاصرة، وبين القديم الصالح والمستجدات، وباذلة كل جهدها لتطوير العقود والمنتجات ، فجزى الله تعالى كل من ساهم في إخراج هذه الندوة في كل عام تمويلاً وتخطيطاً وتنظيماً بهذه الصورة المشرقة ، والحلول الناجعات .

 هذه الندوة السابعة والثلاثون اتجهت نحو اتجاه طيب مبارك وهو ربط العقود والمنتجات المعاصرة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ومن حسن حظي أن أكلف بالتعليق على بحث قيّم لفضيلة الأستاذ الدكتور عبدالستار أبو غدة حول (ضبط عمليات البيع والشراء للأفراد والمؤسسات) من خلال الأحاديث النبوية العشرة الجامعة ، وقد ذكر فضيلته – جزاه الله كل خير – خمسة منها وعلق عليها تعليقات فقهية عميقة مرتبطة ببعض التطبيقات المعاصرة، ونحن بدورنا نحاول استكمال ما بقي من إضافة أو تعليقات، من خلال مطلبين:

المطلب الأول : إضافة ما يمكن إضافته إلى ما ذكره حول الحديث الأول من حيث التعريف بالمناط : تحقيقه ، وتخريجه ، وتنقيحه ، وكيفية تطبيقه على الحديث .

أما المطلب الثاني : فهو للتعقيب على الحديث الرابع ، وإنني أسير فيه ببيان ما يقتضينه التعقيب من المناقشة البناءة للوصول إلى ما تصبو إليه  الندوة من تقديم ما هو الأحسن بإذن الله تعالى .

والله تعالى أسأل أن يلهمني الصواب ، ويعصمني من الزلل والخلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبي ومولاي ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .

              كتبه الفقير إلى ربه

علي محيى الدين القره داغي

المطلب الأول : إضافة ما يمكن إضافته إلى ما ذكره حول الحديث الأول ، وهو ( لا تبع ما ليس عندك):

 حيث ذكر فضيلة الدكتور أبو غدة لفظين من ألفاظ الحديث ، وخرّجه ولكن آثر عدم ذكر مصادره ، والحكم عليه ، ولذلك نذكر متن الحديث ، وسنده وطرقه والحكم عليه بإيجاز ، لأهمية هذا الحديث والأحكام المستنبطة منه .

متن الحديث، وسنده وطرقه

ورد النهي عن بيع ما ليس عند الإِنسان بعدة ألفاظ مختلفة وهي:

1 ــ اللفظ الأول عن حكيم بن حزام بلفظ: «لا تبع ما ليس عندك».

روى بهذا اللفظ عن حكيم بن حزام:

أبو داود في سننه: كتاب البيوع باب الرجل يبيع ما ليس عنده، الحديث رقم 3486 (عون المعبود 9/401)، ورقم الحديث في بعض الطبعات لسنن أبـي داود 3503.

ورواه الترمذي في سننه: كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده، الحديث 1250 (تحفة الأحوذي 4/430 ــ 433).

والنسائي في سننه: كتاب البيوع، باب ما ليس عند البائع، الحديث رقم 4612، طبعة دار البشائر الإِسلامية ــ بيروت.

وابن ماجه في سننه: كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، الحديث 2187 (2/737).

وأحمد في مسنده عن حكيم بعدة طرق (3/402).

والبيهقي بعدة طرق في السنن الكبرى (5/267، 317، 339).

والطبراني في المعجم الكبير بعدة طرق، والحديث رقم 3097، 3098، 3099، 2102، 3103، 3143.

وعبد الرزاق في مصنفه، الحديث 14212.

وابن جارود، الحديث 602.

والطيالسي 2257.

كما رواه ابن حزم عن طريق النسائي (5/594).

هؤلاء كلهم رووا الحديث باللفظ السابق دون اختلاف، وإنما وقع الاختلاف في سؤال الحكيم، حيث نجد بعض الاختلافات اللفظية أو الزيادة والنقص في نقل سؤاله وصيغته، ولكن أشهرها بلفظ:

قال حكيم بن حزام: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد من البيع ليس عندي، فأبتاعه له من السوق؟ فقال: «لا تبع ما ليس عندك».

2- اللفظ الثاني عن حكيم بن حزام أيضًا بلفظ: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أبيع ما ليس عندي».

رواه بهذا اللفظ:

الترمذي في جامعه بسندين، الحديث 1251، 1253 (تحفة الأحوذي 4/430 ــ 434).

وأحمد في مسنده (3/402).

والطبراني بأكثر من سند، رقم الأحاديث 3100، 3101، 3104، 3105، 3132، 3137، 3138، 3139، 3140، 3141، 3144، 3145، 3146.

والبيهقي في السنن الكبرى (5/339).

والشافعي (ترتيب مسند الشافعي، ط دار الكتب العلمية ــ بيروت رقم الحديث 478).

3 ــ اللفظ الثالث ورد عن طريق عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو أن النبـي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل سلف وبيع… ولا بيع ما ليس عندك».

رواه بهذا اللفظ:

أبو داود في سننه، الحديث 3487 (عون المعبود 9/402 ــ 403).

والترمذي في جامعه، الحديث 1252 (تحفة الأحوذي 4/431).

والنسائي في سننه، الحديث 4612 (7/288)، وبسند آخر (7/289).

وابن ماجه في سننه، الحديث 2188 (2/737).

والحاكم في مستدركه، بسندين (2/17).

وابن حبان في صحيحه، (موارد الظمآن الحديث 1108 ص 271).

وأحمد في مسنده بعدة طرق (2/174، 179، 205).

والدارمي في سننه (2/168).

والبيهقي في السنن الكبرى بثلاثة أسانيد (5/343، 339، 267).

ورواه ابن خزيمة ــ كما قال الشيخ الألباني في الإِرواء ــ الحديث 1305.

وعبد الرزاق في مصنفه، (8/39).

وابن حزم من طريق أبـي داود، المحلى (9/595).

والدارقطني، الحديث 320.

وابن الجارود، الحديث 601.

والطبراني في الكبير والأوسط، (مجمع الزوائد 4/85).

وأبو حنيفة (مسند أبـي حنيفة، ط الاداب، بالقاهرة ص 124).

4 ــ اللفظ الرابع من رواية حكيم بن حزام نفسه، ولكنه خاص بالطعام، ونصه: قال حكيم بن حزام: قال لي رسول الله: ألم يأتني، أو لم يبلغني ــ أو كما شاء من ذلك ــ أنك تبيع الطعام؟ قال: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فلا تبع طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه».

رواه:

الإِمام أحمد في مسنده (3/403).

والطبراني في المعجم الكبير، الحديث 3097.

والشافـعـي (ترتيب مسند الشافـعـي (2/143) الحديث 476، 477).

والدارقطني بأكثر من سند (2/9).

والبيهقي بأكثر من سند (5/312، 313).

وابن حبان في صحيحه (الإِحسان 7/228 ــ 229).

والنسائي في سننه الكبرى (نصب الراية، ط دار إحياء التراث العربـي 4/232).

ملحوظة:

توجد اختلافات في الألفاظ في روايات هذا الحديث، لكنها لا تؤثر في متن الحديث المقصود هنا.

ما قاله نقاد الحديث :

كنـت أود أن أقـوم بدراسة نقـدية لجميـع رواة الحـديث مـن جميـع الجوانب المطلوبة في علوم الحديث، لكني آثرت أن أقتصر على ما قاله نقاد الحديث في هذا الحديث بمتونه التي ذكرناها.

* فالمتن الأول:

ــ حكم على صحته البعض، وعلى حسنه الاخرون.

فقد قال الترمذي: «حديث حكيم بن حزام حسن، وقد روي من غير وجه. وروى أيوب السختياني وأبو بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام عن النبـي.

وروى هذا الحديث عوف وهشام بن حُسّان عن ابن سيرين عن حكيم بن حزام عن النبـي، وهذا حديث مرسل؛ إنما رواه ابن سيرين عن أيوب السختياني عن يوسف بن ماهك هكذا» .

والحديث بهذا المتن:

ــ قد حكم ابن حزم بصحته .

ــ وقال الإِمام النووي: «حديث حكيم صحيح رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم بأسانيد صحيحة» .

ــ وردَّ الحافظ ابن حجر على من جرح أحد رواته بجهالته بأنه جرح مردود، لأنه معروف روى عنه ثلاثة، واحتج به النسائي .

ــ وحكم بصحته أيضًا الشيخ الألباني .

ــ ومحققا زاد المعاد .

* أما المتن الثاني:

ــ فقد قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .

ــ وقال الألباني: «صحيح» .

* وأما المتن الثالث:

فقد روى الترمذي فيه: «وهذا الحديث حسن صحيح» .

وهو كما رأينا رواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: «هذا حديث على شرط جملة من أئمة المسلمين، صحيح» ووافقه الذهبـي، وقال: «صحيح، وكذا رواه طائفة» .

وقال ابن حزم: «هذا صحيح، وبه نأخذ، ولا نعلم لعمرو بن شعيب حديثًا مسندًا إلا هذا وحده، وآخر في الهبات» .

وقال الزيلعي: «قال المنذري: ويشبه أن يكون الترمذي إنما صححه لتصريحه فيه بذكر عبد الله بن عمرو، ويكون مذهبه في الامتناع من الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب إنما هو الشك في إسناده، لجواز أن يكون الضمير عائدًا على محمد بن عبد الله، فإذا صرح بذكر عبد الله بن عمرو انتفى ذلك» .

ووافق الحافظ عبد الحق: «الترمذي في حكمه على هذا الحديث بأنه حسن صحيح» .

ونقل الحافظ ابن حجر: تصحيح الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، وأنه أخرجه أيضًا في علوم الحديث من رواية أبـي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ آخر .

وقال الألباني: «صحيح» .

* وأما الحديث الرابع:

فقد قال فيه البيهقي: «هذا إسناد حسن متصل» .

وعلق عليه العلامة ابن التركمان قائلاً: «كيف يكون حسنًا، وابن عصمة متروك، كما قال صاحب المحلَّى، وفي الأحكام لعبد الحق: ضعيف. وأيضًا قد قدمنا في باب العين الغائبة أنه اختلف في سنده» .

وقال أبو حاتم: «هذا الخبر مشهور عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام ليس فيه ذكر عبد الله بن عصمة، وهذا خبر غريب» .

وقال العلامة الزيلعي: «وأخرجه الطبراني في «معجمه» عن عامر الأحول عن يوسف بن ماهك عن ابن عصمة به، وبسند النسائي رواه الدارقطني، ثم البيهقي في «سننهما» قال عبد الحق في «أحكامه»: ــ وقد رواه قاسم بن أصبغ في «كتابه»: عن همام ثنا يحيـى أن يعلى بن حكيم حدثه أن يوسف حدثه أن حكيم بن حزام حدثه فذكره، هكذا ذكره يعلى سماع يوسف بن ماهك من حكيم بن حزام. وهشام الدستوائي يرويه عن يحيـى، فيدخل بين يوسف وحكيمٍ عبدَ الله بن عصمة، وكذلك هو بينهما في غير حديثه، وعبد الله بن عصمة ضعيف جدًا، انتهى» .

وقال أيضًا: «قال ابن القطان في «كتابه»: هكذا رواه قاسم بن أصبغ، وأنا أخاف أن يكون سقط من الإِسناد ابن عصمة، ورواية الدارقطني تبين ذلك، قال: وذكر ابن حزم في «كتابه» رواية قاسم بن أصبغ، وقال: إن يعلى بن حكيم ثقة، وقد ذكر سماع يوسف من حكيم، فيصير سماع يوسف من ابن عصمة عن حكيم لغوًا، لأنه إذا سمعه من حكيم فلا يضره أن يسمعه من غير حكيم عن حكيم، انتهى» .

وقال: «وقال صاحب «التنقيح»: قال ابن حزم: عبد الله بن عصمة مجهول، وصحح الحديث من رواية يوسف نفسه عن حكيم، لأنه صرح في

رواية قاسم بن أصبغ بسماعه منه، والصحيح أن بين يوسف، وحكيم فيه عبد الله بن عصمة، وهو الجشمي حجازي، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عبد الحق في «أحكامه» بعد ذكره هذا الحديث: عبد الله بن عصمة ضعيف جدًا، وتبعه على ذلك ابن القطان، وكلاهما مخطىء في ذلك، وقد اشتبه عليهما عبد الله بن عصمة هذا بالنصيبـي، أو غيره، ممن يسمى عبد الله بن عصمة، انتهى كلامه» .

وما قاله العلامة الزيلعي في تخطئة ابن قطان، وعبد الحق وافقه عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني حيث قال في ترجمة عبد الله بن عصمة الجشمي: «روى عن حكيم بن حزام، وعنه عطاء بن أبـي رباح ويوسف بن ماهك وصفوان بن موهب الكوفيون، ذكره ابن حبان في الثقات».

ثم نقل ما قاله ابن حزم، وتبعه عبد الحق وابن قطان وعلق عليه بقوله: «وقال شيخنا: لا أعلم أحدًا من أئمة الجرح والتعديل تكلم فيه، بل ذكره ابن حبان في الثقات» .

وإضافة إلى ذلك:

فإن الحديث سمعه يوسف بن ماهك من حكيم مباشرة كما ورد في بعض روايات الحديث .

ولذلك تظل هذه الرواية لا تقل عن درجة الحسن كما صرح بذلك البيهقي .

هذا ما يخص هذه الرواية، أما معناها فهو صحيح .

حيث رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر بلفظ «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه».

ورواه مسلم عن أبـي هريرة بلفظ «وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيع الطعام حتى يستوفى».

كما رواه مسلم وغيره عن جابر بلفظ: «إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه».

والخلاصة: أن حديث «لا تبع ما ليس عندك» حديث صحيح حكم بصحته كبار النقاد من علماء الجرح والتعديل.

أهمية الحديث :

 هذا الحديث يعدّ من أحاديث الأصول التي يبنى عليها الاقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات وهو يمثل مبدءاً عاماً من مبادئه ، وقاعدة كلية من قواعده التي أثبتت صلاحية الشريعة الإسلامية ، وقدرتها لحماية اقتصاديات الأمة من الأزمات والهزات الكبرى، كما دلت على ذلك الأزمة المالية العالمية التي وقعت في عام 2008م ولا زالت آثارها باقية .

معنى الحديث :

 فقد ذكر فضيلة الدكتور أبو غدة المفهوم العام للحديث في صفحة رقم 5 من بحثه، وهو : منع بيع الإنسان ما ليس عنده …. ).

 ولكن يضاف إليه بأن الحديث وارد في بيع الأشياء المعينة، أما الموصوفة في الذمة (كما هو الحال في السلم والاستصناع) فلا يشترط فيهما وجودها عند البائع ، أو ملكيته لها عند البيع.

علة الحديث :

وقد توصل المحققون إلى أن العلة هي الغرر، وهذا ما قاله شراح الحديث ، حيث يقول الخطابـي في شرح هذا الحديث: «لا تبع ما ليس عندك»: «يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الأجل، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل: أن يبيعه عبده الابق، أو جمله الشارد، ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها، ويدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفًا على إجازة المالك، لأنه يبيع ما ليس عنده، ولا في ملكه، وهو غرر، لأنه لا يدري هل يجيزه صاحبه أم لا؟ والله أعلم» .

ويقول ابن القيم: «وأما قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تبع ما ليس عندك»: فمطابق لنهيه صلى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر، لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس هو على ثقة من حصوله، بل قد يحصل له وقد لا يحصل، فيكون غررًا كبيع الابق والشارد والطير في الهواء، وما تحمل ناقته، ونحوه…» .

 وبناء على ذلك فإن الأصل المدلول عليه هو : النهي عن بيع ما لا يملكه الإنسان ، وان العلة هي الغرر المؤثر وهو الغرر في الوجود ، أو الحصول ، أو المقدار ، أو الزمن  ، يقول ابن القيم : (فاتفق لفظ الحديثين – أي حديث حكيم، وحديث ابن عمرو – على نهيه صلى الله عليه وسلّم عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه وسلّم وهو يتضمن نوعًا من الغرر، فإنه إذا باعه شيئًا معينًا، وليس في ملكه، ثم مضى ليشتريه، أو يسلمه له، كان مترددًا بين الحصول وعدمه، فكان غررًا يشبه القمار، فنهى عنه) .

 وبناء على هذا بأن الأصل هو عدم جواز بيع المعين الذي يملكه البائع، ويقاس  عليه بيع مالا يقدر على تسليمه إلى المشتري، مثل بيع البعير الشارد، والطير في الهواء ، وبيع المبيع قبل القبض ، وذكر ابن القيم أن بيع مالا يقدر على تسليمه داخل في النص (أي قياساً) وان كان في الذمة  .

المراد بالعندية في الحديث :

 والتحقيق أن المراد بلفظ (عندك) في الحديث هو : التمكن والملك، فالعندية في ألفاظ الحديث هي : فالعندية هنا هي عندية الملك والتمكين، وليست عندية المشاهدة، ولذلك لو كان المال عنده حاضرًا لكنه كان أمانة عنده، أو مستأجرًا عنده أو معارًا لما جاز بيعه لآخر، ولما لزم بالاتفاق .

  وعلى عكس ذلك لو كان ماله غائبًا وليس عنده أثناء العقد جاز بالإِجماع إذا توفرت الأركان والشروط المطلوبة في البيع، يقول ابن القيم: «والعندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهده، وإنما هي عندية الحكم والتمكين» ، ويقول ابن حزم: «فكل مـا يملكه المرء فهو عنده ولو أنه بالهند» .

وقد ذكر ابن القيم أن حديث حكيم وابن عمرو يتناول حالة شيء لا يُدرى حصوله من عدم حصوله، ويكون المشتري منه على خطر، ولا ثقة لبائعه بحصوله، وأن ذلك يعود إلى الغرر، وليس في كونه معدومًا، وذلك لأن البائع إذا باع ما ليس في ملكه، ولا قدرة على تسليمه ــ بل يذهب ليشتريه، ثم يسلمه إلى المشتري ــ كان ذلك شبيهًا بالقمار، والمخاطرة من غير حاجة إلى هذا العقد، ولا تتوقف مصلحتها عليه، فالحديث في الأعيان، وليس في الأشياء الموصوفة في الذمة ــ وفي الأمور الموصوفة في الذمة التي لا يقدر بائعها على تسليمها حسب العرف والعادة، وهو يتفق في الغاية والهدف مع الغرر .

فقه الحديث :

يدل هذا الحديث الشريف بألفاظه الثلاثة ورواياته على النهي عن بيع ما ليس لدى الإِنسان.

وإذا كانت دلالة الحديث على ذلك واضحة، بل هي قطعية، فإن دلالتها على الفساد أو البطلان محل خلاف، وكذلك الخلاف قائم في المراد ببيع ما ليس لدى الإِنسان، هل يشمل بيع المعدوم بعمومه، وبيع مال الغير، وبيع المال الغائب أو نحو ذلك.

ولذلك: نتحدث عن هذه الأمور بصورة منفصلة:

أولاً ــ حول دلالة النهي فيه:

ورد الحديث بألفاظه الأربعة ــ كما سبق ــ وهي:

( أ ) بلفظ: «لا تبع ما ليس عندك» أي: بصيغة النهي.

(ب) بلفظ: «نهاني أن أبيع ما ليس عندي» أي بلفظ النهي.

( ج )  بلفظ: «فلا تبع طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه».

( د ) بلفظ: «لا يحل سلف وبيـع… ولا بيـع مـا ليس عنـدك»، أي بلفظ: «لا يحل».

فاللفظ الرابع واضح في دلالته على عدم حل ذلك، بينما الألفاظ الثلاثة الأولى في دلالتها على الحرمة محل خلاف، حيث اختلف العلماء في ذلك على أكثر من خمسة عشر رأيًا :

فمنهم من قال: إن النهي حقيقة في التحريم .

ومنهم من قال: إنه حقيقة في الكراهة .

ومنهم من قال: إنه للتهديد …

لكن الراجح:

هو أن النهي حقيقة في التحريم، إلا إذا دل دليل على غير ذلك، ويتأكد دلالة النهي في حديثنا هذا على التحريم بسبب ورود اللفظ الثالث «ولا يحل».

وقد ثار خلاف آخر ــ له أهميته ــ هنا حول: مدى دلالة النهي على الفساد والبطلان أم لا؟ على تفصيل فيه.

فذهب الجمهور من المالكية والشافعية، والحنابلة والظاهرية والإِباضية:

إلى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه سواء كان النهي لذات المنهي عنه كالنهي عن بيع الملاقيح، والنهي عن بيع الميتة، أو لوصف لازم كالنهي عن بيع درهم بدرهمين .

وأما النهي عن الشيء لوصف غير ملازم كالنهي عن البيع وقت أذان الجمعة فلا يوجب فساده إلا عند الحنابلة، والظاهرية، والإِباضية .

وذهب الحنفية:

إلى أن النهي ــ عند عدم وجود قرينة دالة على أن النهي لمعنى في ذات المنهي عنه، أو لغيره ــ لا يدل على أن المنهي عنه بذاته غير مشروع، بل ينسحب على معنى لغيره، فيكون الأصل مشروعًا، والفساد في الوصف فقط .

فالحنفية اتفقوا مع الجمهور:

في أن النهي لذات الشيء المنهي عنه يدل على بطلانه، واتفقوا معهم – ما عدا الحنابلة والظاهرية والإِباضية – في أن النهي عن شيء لوصف غير لازم لا يدل على الفساد أو البطلان، بينما اختلفوا معهم جميعًا: في أن النهي عن شيء، تدل القرائن على أن النهي عنه لوصف لازم له لا يدل على البطلان، بل على الفساد، حيث إنهم فرقوا

بينهما فجعلوا البطلان للشيء المنهي عنه لذاته، والفساد للشيء المنهي عنه لوصف لازم. ومن المعلوم أن الباطل لا يترتب عليه أي أثر، بينما الفاسد عندهم يترتب عليه بعد القبض جملة من الاثار العقدية .

ولا يسع هذا البحث لإِثراء هذا الموضوع، ولكن الذي يظهر رجحانه هو مذهب الجمهور .

فعلى ضوء ذلك يكون النهي في الحديث الذي معنا:

من باب النهي عن الشيء لوصف لازم إذا فسر الحديث بالغرر، فيكون المنهي عنه باطلاً وفاسدًا عند الجمهور، وفاسدًا عند الحنفية.

أما لو فسّر «ما ليس عندك» بالمعدوم الحقيقي عينًا وذمة فيكون النهي لذات الشيء وحينئذ يكون باطلاً بالإِتفاق.

أما لو فسّر بما هو غائب عن الإِنسان كالبعير الشارد وإن كان ملكه، فيكون النهي لوصف غير لازم، فلا يدل على البطلان عند الجمهور ــ كما سبق ــ .

فتحديد المعنى هو الذي يحدد مصير النهي: هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وتظهر تطبيقاته من خلال الجوانب الفقهية التي نذكرها.

ثانيًا ــ الأحكام المستفادة من الحديث:

1 ــ بيع المعدوم.

2 ــ مدى دخول السلم في هذا الحديث.

3 ــ بيع الغرر.

4 ــ البيع قبل القبض.

5 ــ بيع مال الغير دون إذنه.

6 ــ بيع مال مملوك غير قادر على تسليمه.

1 ــ بيع المعدوم:

لا شك أن الحديث يفهم منه عدم جواز بيع المعدوم الذي ليس له وجود في الواقع، ولا في الذمة، كبيع الملاقيح ــ وهو ما في بطون الأمهات، والمضامين ــ وهو ما في أصلاب الفحول ــ .

قال الشيرازي: «ولا يجوز بيع المعدوم كالثمرة التي لم تخلق» .

وهذا محل اتفاق بين العلماء، قال الإِمام ابن المنذر: «وأجمعوا على فساد بيع حبل الحبلة، وما في بطن الناقة… وعلى فساد بيع المضامين والملاقيح…» .

فالمعدوم المطلق الذي ليس له وجود أثناء العقد، لا يجوز بيعه بالإِجماع، لكنه لو ارتبط بالعقد بمعدوم موصوف في الذمة – كالسلم – فإنه في الواقع ليس معدومًا في جميع الوجوه، وإنما هو موجود في الذمة بالوصف والتقدير ــ كما سيأتي ــ فلا يدخل فيه إذن عقد السلم، ولا عقد الاستصناع.

التحقيق:

والتحقيق هنا في أمرين:

الأمر الأول: في علاقة الحديث بالمعدوم:

حيث ربط بينهما بعض الفقهاء ــ كما سبق ــ حتى ذكروا في المعدوم حديثًا، وهو أن النبـي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع المعدوم

قال العلامة ابن القيم: «وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا له أصل، والظاهر أنه مَروي، بالمعنى من هذا الحديث ــ أي حديث حكيم ــ وغلط من ظن أن معناهما واحد، لأن هذا المنهي عنه في حديث حكيم وابن عمرو رضي الله عنهم لا يلزم أن يكون معدومًا، وإن كان فهو معدوم خاص كبيع حبل الحبلة، وهو معدوم يتضمن غررًا وترددًا في حصوله» .

فهذا الحديث ــ في الواقع ــ سرد في جواب سائل يسأل عن حالة معينة، وهي أنه يبيع شيئًا قبل أن يتملكه، فيعقد العقد مع آخر على شيء معين، ثم يذهب إلى السوق فيشتريه وهذا هو عين الغرر، حيث قد يحصل عليه، وقد لا يحصل عليه، كما سبق.

الأمر الثاني: معنى المعدوم:

لو تتبعنا ما قاله الفقهاء في المعدوم، وما ذُكر له من أحكام نصل إلى أن المعدوم أربعة أنواع:

النوع الأول:

المعدوم الذي لا يمكن حصوله أبدًا فهذا لا يجوز بيعه أبدًا، ولا إجراء العقود عليه ما دام معدومًا مطلقًا لا يمكن الحصول عليه عقلاً أو عرفًا.

النوع الثاني:

معدومٌ وقتَ البيع، لكنه يمكن وجوده فيما بعد، مثل بيع حمل ما تحمل ناقته، أو بقرته، أو نحو ذلك، وهذا ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلّم بحبل الحبلة ، وهو نتاج النتاج على التفسير الراجح.

فهذا المعدوم لا يجوز وقوع العقد على ذاته المعينة، أما السَّلمُ فيه فيجوز لأنه واقع على الموصوف في الذمة المضمون، حيث يتعهد بأن يأتي بشيء موصوف بكذا وكذا وليس معينًا وإنما وجوده في الذمة، وما هو موجود في الذمة كما هو موجود حقيقة.

يقول ابن القيم: «وهذا الذي منع الشارع بيعه: هو الذي يكون المشتري منه على خطر، ولا ثقة لبائعه بحصوله، لا لكونه معدومًا، بل لكونه غررًا» .

النوع الثالث:

معدوم تابع للموجود مثل الثمار التي لم يبدُ صلاحها فلا خلاف في صحة العقد الوارد على الشجرة التي تتبعها الثمرة الموجودة والتي توجد، وذلك لأنها تبع للموجود، والقاعدة الفقهية تنص على أنه «يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وأنه يغتفر في الشيء ضمنًا ما لا يغتفر فيه قصدًا» .

وكذلك اتفق الفقهاء على جواز بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها، قال ابن القيم: «فاتفق الناس على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منها، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت العقد، ولكن جاز بيعها تبعًا للموجود، وقد يكون المعدوم متصلاً بالموجود، وقد يكون

أعيانًا أُخر منفصلة عن الوجود لم تخلق بعد» .

ولكنهم اختلفوا في بيع ثمار القثاء والبطيخ إذا طابت بعضها:

ــ حيث ذهب مالك وأهل المدينة وأحمد في رواية: إلى جواز بيعها جملة، ومفردًا، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم .

ــ وذهب الاخرون: إلى عدم جواز ذلك إلا لُقْطَةً لقطةً، أو أن يقع العقد على أصلها معها .

وهذا الخلاف يعود إلى فهم هذا الحديث الذي معنا:

ــ حيث فهم منه الفريق الثاني: الدلالة على عدم جواز ذلك، لأنه بيع المعدوم، أو غرر.

ــ أما الفريق الثاني: فقد نظر إلى عدم دخوله فيه، لأن عدم البعض تبع لموجود ثابت، كما أنه لا غرر فيه. وهذا هو الراجح، قال ابن القيم: «لأن بدو الصلاح في المقاثي بمنزلة بدو الثمار، وأن تلاحق أجزائها كتلاحق أجزاء الثمار، وجعل ما يخلق منها تبعًا لما خلق في الصورتين واحد، فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين .

إضافة لما في القول الثاني من التعسير على الناس، بل يؤدي إلى النزاع والاختلاف الشديد؛ لأن المشتري قد يريد الصغار والكبار، والبائع

لا يعطيه إلا الكبار، فيحدث النزاع، بينما لو بيع المجموع في صفقة واحدة لما أدى إلى ذلك .

النوع الرابع:

المعدوم الموصوف في الذمة الذي سيتحقق، فهذا يجوز السلم فيه بالاتفاق على تفصيل بينهم .

والخـلاصـة:

أن الحديث لا يتناول المعدوم لأنه معدوم، بل إنما يشمله إذا كان فيه غرر.

يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: «لا نسلم صحة هذه المقدمة (أي عدم جواز بيع المعدوم) فليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا لفظ عام، ولا معنى عام، وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، وليست العلة في المنع لا الوجود، ولا العدم، بل الذي ثبت في الصحيح عن النبـي صلى الله عليه وسلّم أنه نهى عن بيع الغرر، والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا كالعبد الابق، والبعير الشارد ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمه.. هو غرر لا يجوز بيعه وإن كان موجودًا، فإن موجب البيع تسليم المبيع، والبائع عاجز عنه، والمشتري إنما يشتريه مخاطرة ومقامرة… وهكذا المعدوم الذي هو غرر، نهي عن بيعه لكونه غررًا لا لكونه معدومًا، كما إذا ما يحمل هذا الحيوان، أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل وقد لا يحمل، وإذا حمل فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه فهذا من القمار…»

ثم أثبت ابن تيمية أن الشرع قد صحح بيع المعدوم في بعض المواضع: «فإنه ثبت عنه من غير وجه أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، ونهى عن بيع الحب حتى يشتد، وهذا من أصح الحديث، وهو في  الصحيح عن غير واحد من الصحابة، فقد فرق بين ظهور الصلاح وعدم ظهوره، فأحل أحدهما وحرم الاخر، ومعلوم أنه قبل ظهور الصلاح لو اشتراه بشرط القطع… جاز بالاتفاق، وإنما نهي عنه إذا بيع على أنه باقٍ فيدل ذلك على أنه جَوَّزَهُ بعد ظهور الصلاح أن يبيعه على البقاء إلى كمال الصلاح… ويدخل في هذا ما هو معدوم لم يخلق…» .

2 ــ مدى دخول السَّلَم في هذا الحديث:

فهم جماعة من الفقهاء (منهم الحنفية): أن هذا الحديث يدل على عدم جواز بيع المعدوم، ومن ثمة قالوا: «إن مشروعية السَّلَم ــ وهو بيع المعدوم ــ جاءت استثناء، حيث سموه بالاستحسان بناءً على أن القاعدة العامة: هي عدم جواز بيع المعدوم استنادًا على الأحاديث الواردة فيه، ويقول المرغيناني: – والقياس يأباه -أي السلم ــ ولكنا تركناه بما روِّيناه، ووجه القياس أنه بيع المعدوم، إذ المبيع ــ هو المسلم فيه ــ » .

ولكن التحقيق يبين: ــ

أن هذا الحديث الشريف إنما هو في بيع ما لا يملكه الإِنسان، كما أنه في بيع شيء معين، أو بعبارة أخرى أن الحديث في بيان حكم بيع ما ليس

عنده ــ أي لا يملكه ــ وليس في بيان حكم السلم، فكل عقد ــ في نظري ــ له تكييفه الخاص به وأحكامه وآثاره الخاصة، فلا ينبغي أن نحمل أحكامًا خاصة بالبيع على السلم أو بالبيع.

وهذا هو السبب وراء ما وقع فيه الحنفية؛ حيث اعتبروا السلم أيضًا بيعًا، يقول ابن الهمام: «تقدم أن البيع ينقسم إلى بيع مطلق، ومقايضة، وصرف، وسلم» .

ثم بين وجه هذا التقسيم وسبب دخول الجميع في البيع قائلاً: «لأن البيع إما بيع عين بثمن وهو المطلق، أو قلبه وهو السلم، أو ثمن بثمن فالصرف، أو عين بعين فالمقايضة» ، ثم لما شعر بورود اعتراض عليه من حيث تخصيص اسم السَّلَم قال: «وخص باسم السَّلَم لتحقيق إيجاب التسليم شرعًا فيما صدق عليه، أعني تسليم رأس المال» .

 ولما جاء اعتراض آخر عليه مفاده: أن قوله هذا يدل على أن الأولى أن يسمى الصرف بالسلم لوجوب تسليم البدلين في المجلس، فرد عليه ابن همام ردًا غير مقنع .

وقصدي من هذا العرض بيان ضعف مسلك من يدخل السَّلَم في البيع، ثم يجعل جواز السَّلَم استثناء من هذا الحديث الذي نحن بصدده، مع أن التحقيق: هو أن السَّلَم ليس بيعًا بمعناه الاصطلاحي، ولا المعقود عليه فيه معدومًا، وإنما هو موصوف في الذمة، وما هو موجود في الذمة ليس معدومًا، كما أن هذا الحديث ليس فيه دلالة على منع بيع المعدوم ــ كما أوضحنا في معنى الحديث.

وقد أفاض العلامة ابن القيم في هذه المسألة فقال: «وأما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس توهم دخوله تحت قول النبـي صلى الله عليه وسلّم: «لا تبع ما ليس عندك» فإنه بيع معدوم، والقياس يمنع منه» .

ثم قال: «والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبًا، وهو المعاوضة على المنافع في الإِجارة… وقياس السَّلَم على بيع العين المعدومة – التي لا يُدرى: أيقدر على تحصيلها أم لا؟ والبائع والمشتري منها على غرر – من أفسد القياس صورة ومعنى، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإِنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له، وبين السَّلَم في مُغلِّ مضمون في نصِّه مقدور في العادة على تسليمه، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكَّى، والربا والبيع» ، وقد سبقه إلى ذلك شيخه ابن تيمية.

والخـلاصـة:

أن بيع ما ليس عندك لا يشمل السَّلَم المؤجل، أو الحال لسببين:

السبب الأول: أن الحديث وارد في البيع، وهو له مفهومه الخاص حيث يقـع عـلـى الأعيان فقط، ولذلك يسمى العقد الوارد على المنافع إجارة أو إعارة أو نحوهما، فالسَّلَم له مدلوله الخاص لا يدخل في البيع، لأنه عقد وارد على شيء موصوف في الذمة ــ كما سبق ــ فالسلم عقد خاص، وأنه أقرب إلى كونه دينًا من الديون، ولذلك أدخله ابن عباس في آية الدين .

السبب الثاني: أن السَّلَم ليس عقدًا واردًا على المعدوم، بل هو وارد على موجود موصوف في الذمة مضمون ثابت فيها مقدور على تسليمه عند مَحِلِّه، ولا غرر فيه، ولا خطر .

يقول ابن القيم:

«أظهر الأقوال: أن الحديث لم يرد به النهي عن السَّلَم المؤجل، ولا الحال مطلقًا» .

وإنما المراد بالحديث: النهي عن بيع السلع المعينة التي هي مال للغير، ويكون معناه: لا تبع ما ليس عندك من الأعيان، وكذلك يدخل فيه بيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكًا له، ولا يقدر على تسليمه، فعلى ضوء ذلك: لا يدخل السَّلَم حالاًّ أو مؤجلاً في هذا الحديث ما دام التسليم مقدورًا عليه في وقت حسب العرف.

ثم إن جعل النهي عن «بيع المعدوم» هو الأصل، وجواز السلم استثناء منطق يثير كثيرًا من النقاش، والجدال حول المعيار الذي جعل ذلك أصلاً، وذاك استثناءً، بل المفروض العكس، وذلك لأن حديث النهي عن بيع المعدوم بهذا اللفظ غير ثابت قطعًا، ودلالة حديث حكيم عليه محل نقاش ــ كما رأينا ــ بينما حديث السَّلَم صحيح متفق عليه ودلالته على صحة السَّلَم قطعية.

فإذا كانت المعيارية للأصل هي وجود النص الشرعي فكان المفروض عكس ما يقولون، وإذا كان المراد أن ذلك الأصل باعتبار القاعدة العامة فكيف تثبت هذه العمومية مع أن أحد أفرادها قد ثبت له حكم آخر بحديث صحيح، مع أن التخصيص والاستثناء في النصوص الشرعية لا بد أن يكونا من الكتاب والسنة؟.

3 ــ بيع الغرر: أي كل ما لا يعلم عاقبته:

يقول العلامة الشيرازي: «والغرر ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته» .

فالغرر يدخل فيه المعدوم عينًا ووصفًا، وذلك لأن المعدوم «قد انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته»  وكذلك يدخل فيه المجهول جهالة فاحشة، وكل ما هو قائم على احتمال الوجود والعدم، أو احتمال الحصول عليه وعدمه، أو احتمال ربح كثير وعدمه.

ويقول العلامة ابن القيم:

«وأما بيع الغرر، فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين. والغرر: هو المبيع نفسه، وهو فعل بمعنى مفعول، أي: مغرور به.

وهذا كبيع العبد الابق الذي لا يقدر على تسليمه، والفرس الشارد، والطير في الهواء.. ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يعرف حقيقته ومقداره، ومنه بيع حَبَل الحَبَلَة.

ومنه بيع الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرهما في نفس الحديث، ففي صحيح مسلم عن أبـي هريرة رضي الله عنه: «نهى عن بيعتين: الملامسة والمنابذة، أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الاخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه»، هذا لفظ مسلم.

وليس من بيع الغرر بيع المغيبات في الأرض كاللفت والجزر والفجل والقلقاس والبصل ونحوها، فإنها معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها،

وظاهرها عنوان باطنها فهو كظاهر الصبرة مع باطنها، ولو قدر أن في ذلك غررًا فهو غرر يسير يغتفر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها، فإن ذلك غرر لا يكون موجبًا للمنع» .

ومرجع ذلك يعود – بالإِضافة إلى حديث حكيم – إلى حديث صحيح آخر وهو ما رواه مسلم، وأصحاب السنن وغيرهم بسندهم عن أبـي هريرة رضي الله عنه قال: «إن النبـي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر»   .

قال النووي:

«النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، وتدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الابق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع» .

وقال أيضًا:

«الأصل أن بيع الغرر باطل… والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز عنه، أما ما تدعو إليه الحاجة، ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار، وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر… وذكر أو أنثى، كامل الأعضاء، أو ناقصها… فهذا يصح بيعه بالإِجماع، ونقل العلماء الإِجماع أيضًا في أشياء غررها حقير…، وقد يختلف العلماء في بعض المسائل كبيع العين الغائبة، وبيع الحنطة في سنبلها، ويكون اختلافهم

مبنيًّا على هذه القاعدة، فبعضهم يرى الغرر يسيرًا لا يؤثر، وبعضهم يراه مؤثرًا» .

4 ــ البيع قبل القبض:

دل الحديث الرابع على النهي عن بيع الطعام قبل شرائه، واستيفائه بالكيل بأن يكيله البائع ــ كما سبق ــ .

وقد قال المحققون : إنَّ الاستيفاء أعم من القبض، وذلك لأنه قد يستوفيه بالكيل، بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري، بل يحبسه عنده لينقده الثمن، وهذا رأي بعض العلماء؛ حيث قصروا المنع من بيع الطعام قبل قبضه على طعام يستوفي بالكيل، أو الوزن، أما إذا لم يستوف، بأن يبيع جزافًا فيجوز بيعه قبل القبض . غير أن اشتراط القبض في الطعام مطلقًا قد جاء في أحاديث صحيحة .

وأيًّا ما كان فإن جماعة من الفقهاء: استدلوا بهذا الحديث على عدم جواز البيع قبل القبض، ففهموا منه ذلك، ولذلك جمع البخاري بين متن هذا الحديث، وهذا الحكم، فترجم: «باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك».

وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا يمكن حصر

اتجاهاتهم في ثلاثة اتجاهات عامة تتمثل في الرفض مطلقًا، والإِجارة مطلقًا، والتوسط القائم على التفصيل:

الاتجاه الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا، سواء كان المعقود عليه طعامًا أم غيره، وسواء أكان مكيلاً أو موزونًا، وعقارًا أو منقولاً.

وهذا مذهب: الشافعي وأكثر أصحابه ، وأحمد في رواية ، ومحمد بن الحسن وزفر من الحنفية ، والظاهرية ، والزيدية ، ورواية الإِمامية ، والإِباضية في المشهور عنهم ، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وسفيان الثوري .

الاتجاه الثاني: يرى جواز بيع المبيع وكل تصرف فيه مطلقًا.

وهذا رأي: عطاء بن أبـي رباح، وعثمان البتي ، ورأي الإِمامية .

الاتجاه الثالث: يرى التوسط والتفصيل، وأصحاب هذا الاتجاه مختلفون فيما يجوز بيعه قبل القبض وفيما لا يجوز، فذهب أكثرهم إلى: عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، وإلى جوازه في غيره. وهذا رأي: مالك في المشهور عنه ، وأحمد في رواية عنه ، واختيار أبـي ثور وابن المنذر ، والإِمامية في وجه لهم . (وفيه تفصيل في التوفية…).

وذهب فريق ثانٍ منهم إلى: عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضهما، وإلى جوازه فيما عداهما. وهذا مروي عن: عثمان بن عفان، وابن سيرين، وابن المسيب، والحسن، والحكم، وحماد بن أبـي سليمان، والأوزاعي، وربيعة، والنخعي .

وذهب فريق ثالث إلى: إلحاق ما يباع بالعدد بالكيل والموزون في عدم جواز بيعه قبل القبض. وهذا اتجاه: أحمد في رواية وجماعة من أصحابه ، وأبـي حنيفة، واختاره جماعة من أصحابه ما دام يراعي فيه العد .

وذهب فريق رابع إلى: إلحاق ما يباع بالذراع (المتر ونحوه) بالمكيل والموزون. وهذا اتجاه: أبـي حنيفة إذا أفرد لكل ذراع ثمن .

وذهب فريق خامس إلى: عدم جواز المبيع قبل قبضه إذا كان منقولاً، وجوازه إذا لم يكن منقولاً كالعقار. وهذا اتجاه جمهور الحنفية.

ومن الجدير بالتنبيه عليه: أن المنقول يشمل المكيل والموزون والمعدو