الدوحة – الشرق

الكتاب : العلاقة بين الراعي والرعية في ظل الحكم الرشيد

الحلقة : الثانية

الالتزام بالعدل والقسط، وعدم الظلم والجور والتعدي والطغيان والبغي من أعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة ونحن هنا نذكر أهم المقاصد العامة، والقواعد الكلية، والمبادئ الأساسية التي تُعدُّ من النظام العام للسياسة الشرعية، وهي:

المبدأ الأول: الالتزام بالعدل والقسط، وعدم الظلم والجور والتعدي والطغيان والبغي:

يعتبر هذا المبدأ في الإسلام من أعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة، وهو الأساس الأول فعلاً حسب الأدلة الشرعية القاطعة، وحسب واقع الرعيل الأول، فقد أكد عليه الخليفة الأول أبوبكر الصديق رضي الله عنه وربط مشروعية حكمه به، ثم لما نزل به مرض الموت الذي أيقن بأنه يموت قال لكبار الصحابة بالمدينة: (إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلاّ ميت، لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلّ عنكم عقدتي، وردّ عليكم أمركم) ثم رشحّ لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليكون الخليفة الثاني، فوافقوا، وحينئذ كتب عهده لعمر في رسالة نذكر منها ما يتعلق بالموضوع، فقال فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبوبكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأو عهده بالآخرة، الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر، إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برّ وعدل فذلك علمي به، ورأيي فيه، وإنْ جارَ وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخيرَ أردتُ، ولكل أمرئ ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

وقدّم بعد مبايعة الصحابة له بعد موت أبي بكر برنامج عمله الخاص بتطبيق العدل فقال: (ولستُ أدعُ أحداً يظلم أحداً حتى أضع خدّه على الأرض وأضع قدمي على الخدّ الآخر حتى يذعن للحق، ثم إني بعد شدتي تلك أضع خدّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف).

المبدأ الثاني: مبدأ الحقوق المتقابلة:

تقوم العلاقات بين المسلمين على الحقوق المتقابلة، فليس في الإسلام شخص له حق دون أن يكون عليه واجب، ولا آخر يكون عليه واجبات، وليس له حقوق، فهذا هو المجتمع الإسلامي المتوازن الذي يتحمل كل واحد ما عليه مهما كان صغيراً أو كبيراً، فقيراً أو غنياً، حاكماً أو محكوماً ، راعياً، أو رعية، فلا يكون بمنأى عن هذا المنهج المتوازن، وهذا التوازن لا يوجد في المجتمعات الأخرى، فالمجتمع الرأسمالي قائم على الحقوق، والمجتمع الاشتراكي يقوم على الواجبات، أما المجتمع الإسلامي فهو مجتمع الحقوق والواجبات، وإن كل مسلم يجب أن يؤدي واجبه قبل أن يطالب بحقه، فكل مؤمن مطالب ـ بفتح اللام ـ في حين أن الإنسان في المجتمعات الأخرى يطالب بحقه أولاً، ثم يؤدي واجبه ثانياً، ولذلك تكثر فيها النزاعات في حين أن النزاع قليل في المجتمعات الإسلامية الملتزمة بشرع الله تعالى.

وبناءً على ذلك فلا يقوم المجتمع الإسلامي على الإيثار المجرد والتطوع، وإنما الإيثار زيادة خاصة بالمجتمعات الإسلامية لتقوية المجتمع وتماسكه حيث يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فأساس المجتمع الإسلامي هو الحقوق المتقابلة وإما الإيثار فزيادة فضل وتمايز.

ويترتب على ذلك وجود التنافس في الخير، والتسارع نحو الأفضل، والتسابق نحو مزيد من الكسب والبناء والحضارة والتقدم، حيث يتميز من خلال ذلك الصالح منت الطالح، والقوي من الضعيف، والحسن من الشين، وهكذا.

إضافة إلى أن ذلك يؤدي إلى عدم استغلال أحد لآخر فيجب أن يأخذ كل واحد حقه ما دام قد أدى ما عليه من واجب.

وقد تكفلت الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث الشريفة، وكذلك القواعد العامة والمبادئ والمقاصد العامة التي ذكرناها ـ أو سنذكرها ـ ببيان معظم هذه الحقوق المتقابلة، ونذكر هنا بعض الأحاديث الواردة بهذا الصدد، منها:

1- مسؤولية الراعي عن الرعية في كل ما استرعاه الله تعالى، حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول فالإمام راع وهو مسؤول والرجل راع على أهله وهو مسؤول والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول)، وهذه المسؤولية تشمل كا ما أمكنه الراعي من تحقيقه في مجال الأمن السياسي، والأمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي، وتوفير كافة حاجيات هؤلاء الذين هم تحت رعايته.

2- وجوب العدل والقسط، وعدم الظلم والبغي ـ كما سيأتي ـ.

3- الصدق والصفاء والبعد عن الخيانة والغش والتدليس، حيث روى البخاري ومسلم بسندهما عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلاّ حرّم الله عليه الجنة) وفي رواية: (فلم يَحُطْها بنصحه لم يجد رائحة الجنة).

4- النصح للأمة، ونصح الأمة لهم ـ كما سيأتي ـ.

5- وجوب استفراغ الجهد لخدمة الأمة وتقويتها وحمايتها ونهضتها، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم إلاّ لم يدخل معهم الجنة).