الحلقة الثانية

جريدة العرب – الدوحة

يعرف القره داغي الأمن بما يلي: الأمن لغة مصدر أمِن أمْناً، وأمانة، وأمنةً أي اطمأن ولم يَخَف فهو آمن، وائتمنه أي جعله أميناً، واستأمن إليه أي استجاره وطلب حمايته، والأمانة: الوديعة، والوفاء ومنه الإيمان، فالأمن هو الاطمئنان، وعدم الخوف.

2 – الروحي نسبة إلى الروح أي ما به حياة النفس، وتطلق على النفس، وروح القدس عند النصارى هو الأُقنوم الثالث، والآباء الروحانيون علماء النصارى، والطب الروحاني: ضرب من علاج النفس.

وفي الفلسفة يطلق الروح على ما يقابل المادة، وعند أفلاطون تتكون الروح من العقل والنفس والرغبة، فقصد بالنفس: المتطلبات العاطفية، وبالرغبة: المتطلبات الجسدية، والعقل: هو الذي يحفظ التوازن، والروحية هي الفلسفة التي تقوم على إثبات الروح وسموها على المادة، وتفسر في ضوء ذلك الكون والمعرفة والسلوك.

وفي القرآن الكريم ورد فيه «روح القدس» بمعنى سيدنا جبريل فقال تعالى: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وقال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) وهو جبريل عليه السلام، وبمعنى الوحي كما في قوله تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، وبمعنى القرآن كما في قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) أي بمعنى القرآن الكريم، وبمعنى النصر والمدد فقال تعالى: (أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ)، وأطلقه أيضاً على سيدنا المسيح (عليه السلام) فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ).

والمراد بالأمن الروحي هو تحقيق الاطمئنان النفسي للفرد المؤمن من خلال سلامة المنهج الديني القائم على الاعتدال والوسطية، البعيد عن الغلو والإفراط والتفريط بحيث يتحقق لصاحبه، ولغيره الاطمئنان والسكينة، وعدم الخوف.

3 – الفكري نسبة إلى الفكر، وهو إعمال العقل للوصول إلى معرفة مجهول، ويقال: لي في الأمر فكر، أي نظر ورؤية، والفكرة هي الصورة الذهنية لأمر ما، وفي الاصطلاح عُرِّف الأمن الفكري عدة تعريفات، لكن الذي نراه راجحاً أن الأمن الفكري هو: سلامة التصورات من الانحراف الذي يشكل تهديداً للمنظومة الفكرية والثقافية والقيمية السائدة في المجتمع، بحيث يتحقق له الاطمئنان.

أما مقاصد الشريعة فالمقاصد لغة هي: جمع «مقصد» وهو مصدر ميمي مأخوذ من «قصد» وله عدة معان، منها: العزم، والتوجيه، واستقامة الطريق، والعدل، والاعتدال، والمقاصد في الاصطلاح: عرفت باعتبار المضاف إليه، فمثلاً: عرفت مقاصد الشريعة بأنها: «المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة»، أو أنها: «الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد»، إنَّ من يتدبَّر في الكتاب والسنة، وفيما كتبه علماء الأصول قديماً وحديثاً، يجد أن للأحكام الشرعية بل لأفعال الله تعالى وسننه تعليلات وحِكماً ومقاصد، فقد بيَّن القرآن الكريم أن العلة أو السبب، أو الهدف، أو الحكمة من إنزال الكتب هو: تحقيق العدل والقسط، فقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) بل إن القرآن الكريم بيَّن الحكمة من الصلاة، وهي من الشعائر التعبدية، فقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، أما في الحج فقال: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)، وهكذا.

ولكنّ الأصوليين والفقهاء بدءاً من إمام الحرمين، فالغزالي إلى الشاطبي قد وصلوا بالاستقراء إلى أن المقاصد العامة للشريعة تنحصر في المقاصد الضرورية، والحاجية، والتحسينية، وهذا التقسيم الثلاثي تقسيم عقلي لا يقبل وجود نوع رابع مطلقاً، وإنما الخلاف في أنواع المقاصد أو المصالح الضرورية، والحاجية، والتحسينية.

وبناءً على ذلك فإن جمهور علماء الأصول يرون أن الكليات الضرورية التي جاء الإسلام لحفظها وتنميتها هي خمس، أو ست وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل، والعرض، وهؤلاء العلماء الأعلام وضعوا معيارين للمقاصد العامة للشريعة لكل ضروري، أحدهما: أن يكون مما لا بد منه لقيام الحياة للإنسان، بحيث إذا اختل ذلك الضروري اختل نظام الحياة، وعمت الفوضى والاضطراب، والثاني: أن هذه الضروريات وضعت للمعتدي عليها عقوبات رادعة، وبناءً على هذين المعيارين يراد، في نظري، كليّان ضروريان آخران، أولهما: حفظ أمن المجتمع، أمنه السياسي، وأمنه الاجتماعي، وأمنه الاقتصادي، وأمنه البيئي، حيث شرع الله تعالى أعظم الحدود وأشدها على الإطلاق في حالة الاعتداء عليه وهو حد الحرابة، حيث يقول الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم) فالآية تدل بوضوح على محاربة من يعتدي على أمن المجتمع ويسعى لنشر الفساد في الأرض سواء كان هذا الفساد يخص الإنسان، أو الحيوان، أو البيئة، فهو فساد مطلق شامل لكل ما ينطبق عليه الفساد، بل إن الله تعالى قيَّده في آية أخرى بالفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، فقال الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).

بل إن الآيات القرآنية الواردة في خطورة الفساد في الأرض وآثاره المدمرة أكثر من أن تحصى في هذه العجالة، منها قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ)، بل إن الله تعالى حرم الجنة أيضاً على هؤلاء المفسدين فقال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، إذن فحفظ أمن المجتمع ودرء الفساد في الأرض ضرورة من الضروريات على ضوء المعيار الذي وضعه الفقهاء.;