الدوحة – بوابة الشرق
الحلقة : الحادية عشرة
المواطنة الدولية
وفي أواخر القرن العشرين وبداية هذا القرن لاحظ المفكرون من الغرب أن مفهوم المواطنة بالمفهوم السائد تواجهه صعوبات جمة وتحديات عالمية كثيرة كعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والعملية التقنية، ونحوها في مجال حقوق الإنسان، كما أن وجود حضارات قوية وأمم لها ديانات وثقافات مختلفة، وظهور العولمة، وإقرار الحقوق للإنسان — باعتباره إنساناً — من قبل الأمم المتحدة، كل ذلك دفع إلى تطور مفهوم المواطنة والميل به نحو شيء من العالمية ليظهر مصطلح جديد وهو: (المواطنة الدولية) حيث اتسعت دائرتها، وتحددت مواصفاتها بما يأتي:
1 — احترام حقوق غير المواطنين وحريتهم داخل الدولة.
2 — الاعتراف بثقافات وديانات أخرى غير ثقافة الوطن ودينه.
3 — فَهم وتفعيل أيديولوجيات سياسية واقتصادية مختلفة.
4 — العناية بالشؤون الدولية.
5 — الحث على التعايش بأمان، والمشاركة في تشجيع السلم والسلام الدولي.
6 — التشجيع على الحوار في إدارة الصراعات بعيداً عن العنف.
وهذا التوسع في مفهوم دائرة (المواطنة الدولية) يضعف دائرة القومية، ويقرب هذا المصطلح من مفهوم المواطنة في الاسلام، وذلك لأن الوطن المعبر بالوطن القومي لشعب واحد، أو تحديده بالجنسية لجزء صغير أو كبير من ذلك الشعب المقسم وإن كانت له بعض الحقوق في الاسلام — كما سنوضحه — ولكنه لا ينبغي أن يكون إطاراً ضيقاً محدوداً تنحسر فيه الحقوق والواجبات في تلك الدائرة الضيقة.
ويبدو أن العالم بعد التجارب المريرة يضطر للعودة إلى الإسلام ومبادئه العظيمة إنْ عاجلاً أو آجلاً قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
موقف الإسلام من فكرة المواطنة المعاصرة (التوازن)
إن مما لا شك فيه أن الإسلام يقيم المجتمع والأمة والدولة على أساس روابط العقيدة والدين دون إهمال الروابط الايجابية الاخرى بتوازن دقيق يسعى جاهداً لتحقيق الاخوة الحقيقية تأصيلاً وتنظيراً وتطبيقاً وتفعيلاً فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، ويفرض على المسلمين جميعاً حقوق الاخوة من الولاء والنصرة والتعاون والتكافل والتضامن فقال سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) بل إن الله تعالى بيّن ضرورة هذه الولاية الجامعة على الايمان لحمايته ولدرء العدوان، أمام الولاية الجامعة على الكفر والنفاق لأجل القضاء على الاسلام والمسلمين فقال تعالى: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).والسنة قد أفاضت في هذه الاخوة الايمانية وحقوقها وآثارها.
ولكن مع هذه الأخوة الإيمانية توجد أخوة النسب التي حصر الله تعالى فيها الارث دون أخوة الإيمان، كما أن هناك أخوة في الإنسانية، وفي الوطن المشترك، وبالتالي فلكل رابطة حقوقها المتقابلة.
الاسلام راعى الجوانب الايجابية والإنسانية في المواطنة
ومع هذه الاخوة الايمانية الجامعة فإن الاسلام لم يهمل الجوانب الايجابية البعيدة عن التعصب والتفريق والتمزيق للقومية والوطنية في ضوء ما يأتي:
1 — الوطن في المفهوم الاسلامي هو الوطن الكبير للأمة الإسلامية، حيث كان المواطن (مسلماً أو كافراً) في الدولة الاسلامية منذ الخلافة الراشدة إلى سقوط الدولة العثمانية يصول ويجول في عرض العالم الإسلامي وطوله دون قيد ولا شرط، فكانت جنسيته الاسلام، فأينما أقام فهو وطنه له حقوقه وعليه الواجبات، فالمسلم ولاؤه لوطنه الاسلامي الكبير.
2 — إن الجوانب الإيجابية للمواطنة من الحقوق والواجبات، وربط المواطن المسلم بدولته وتصرفه لمجتمعه بالحق والعدل، وتعاونه مع مجتمعه ودولته على البر والتقوى مشروعة بل مطلوبة، وأن انتماء المسلم إلى دولته التي آوته وأعطت له حقوقه لا يتعارض مع انتمائه إلى الإسلام ما دام في الحدود التي رسمها له، كما لا يتعارض انتماؤه القومي والقبلي ما داما في إطار التعاون المشترك، وأن الشرط الأساسي في هذه الانتماءات أن لا تكون أيديولوجية بديلة عن الإسلام وأن لا تؤدي إلى الانصهار فيها والذوبان، فالمسلم العربي في فرنسا هو فرنسي من حيث الوطن له حقوق، وعليه واجبات الوطن، وعربي من حيث اللغة، ومن قبيلة فلان — مثلاً —.
لذلك دعونا نحن في المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث إلى الاندماج الايجابي البعيد عن الانصهار والذوبان، وعن الانعزال.
والحق أن مبدأ الإسلام في هذا المجال أيضاً هو مبدأ التوازن الدقيق بين كل هذه الروابط والانتماءات وهنا تأتي عظمة الاسلام، وهنا يجب على المسلم أن يحقق هذا التوازن بحكمة بالغة وميزان دقيق، في حين أن معظم البشرية تميل بهم العواصف الفكرية يميناً أو شمالاً، فإمّا إهمال لرابطة الدين، أو لرابطة المواطنة، أو القومية..الخ.
3 — ومع ذلك فإن الاسلام راعى الجانب الفطري للإنسان من حبه لوطنه الذي ولد فيه، وحنينه لمسقط رأسه، بل لاقليمه الذي ينتمي إليه:
أ — فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يحنون إلى مكة المكرمة حنيناً شديداً، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة المكرمة: (ما أطيبك من بلد، وأحبك إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما سكنت غيرك).