جريدة العرب – الدوحة
أدان فضيلة الشيخ د.علي محيي الدين القره داغي, الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التشدد الذي ينتشر في الأمة ، مشيراً إلى ما يجري في سوريا والعراق من هؤلاء المتشددين الذين يقتلون الناس بغير حق ويتقاتلون فيما بينهم.
وقال فضيلته لو صرف الصهاينة تريليونات الأموال لما استطاعوا أن يشوهوا الإسلام كما يشوهه هؤلاء المتشددون.
وذكر فضيلته في خطبة الجمعة أمس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها بفريق كليب: أن الأمة تتكون من الجماعات والشعوب والقبائل, ولكنها في الأساس تتكون من الأفراد, فإذا كان الأفراد صالحين فالأمة صالحة وإذا كانوا سيئين فإن الأمة كذلك سيئة, والعبرة دائما بالغالب، (وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيد الْعِقَاب).
وقال فضيلته: إذا نظرنا إلى أخلاقيات أمتنا اليوم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة, وفي ضوء قدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم كان صبورا وحليما ورفيقا في التعامل مع الناس, وليس في مرحلة الضعف كما كان في مكة – وهذا يضرب به المثل – ، وإنما لما كان له الحكم وله الدولة في المدينة المنورة أيضاً, كم كان رفيقا فيأتي الأعرابي ويجذب حلته ويؤثر ذلك في عنقه المبارك من شدة الجذبة, ومع ذلك يتلفت الرسول صلى الله عليه وسلم فيبتسم له، وجاءه أعرابي يومًا يطلب منه شيئًا فأعطاه -صلَّى الله عليه وسلَّم- ثم قال له: «أحسنتُ إليك؟»، قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفُّوا، ثم قام ودخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئًا، ثم قال: «أحسنتُ إليك؟» قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنك قلتَ ما قلتَ وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت فقُلْ بين أيديهم ما قلتَ بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك»، قال: نعم، فلمَّا كان الغد أو العشي جاء فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟»، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا.
وضرب مثلا آخر بقوله: ويأتي أعرابي آخر ويبول في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين «ولأن كرامة الإنسان أعظم عند الله من المسجد, وهذا دليل على الترويض والتربية على الرفق وعلى كرامة أو إنسانية الإنسان, وكذلك تعاملنا مع الخدم والسائقين, فلا يجوز أن نغلظ عليهم, فهؤلاء من بني جنسنا, وقد يكونون عند الله أفضل, فأكرمهم وارفق بهم فهذه مسؤولية أمام الله.
وكان أبوبكر رضي الله عنه يكرم أحد الفقراء بالأموال والرفق, ولما جاءت قصة الإفك مال هذا الرجل وكان على رأس الذين ينشرون هذا الإفك, فحلف سيدنا أبوبكر بأنه لا يساعده بعد اليوم, وكانت عائلة الرجل تعيش على ما يعطيهم أبوبكر رضي الله عنه ولكن الله سبحانه وتعالى ينزل في كتابه: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الله سبحانه وتعالى ربط بين المغفرة والرحمة وبين تعامله مع الناس, وكأن مغفرة الله مقيدة ومرتبطة بهذا الصفح, بهذا الكرم والعفو والرفق. هذا هو ديننا وهؤلاء رجالنا, أولئك أبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
وتساءل فضيلته قائلا: ولكن أين نحن من هؤلاء؟ إن الشدة في أمتنا فقد بلغت شأنا كبيرا, والإرهاب والعنف, حتى بين الإسلاميين بشكل كبير, ولاسيَّما من هؤلاء المتشددين الذين شوهوا حقيقة الإسلام من يوم ما فعلوا ما فعلوه في أميركا وغير أميركا, وأعطوا مبررات لضرب الإسلام والمسلمين وأعطوا مبررات لتشويه الإسلام والمسلمين. ويسأل صحافي دنماركي المسلمين هناك: لماذا الرجل الأوروبي طيب ويعامل بالطيب, ولكن حينما يدخل الإسلام يصبح شديدا ويكره الآخرين وينعزل؟ فحاول المسلمون أن يدافعوا عن دينهم بأن هذا لا يمثل الدين, وهذه الفئة جاءت أفكارهم من الجهل, ولكن هذه الفئة هي المنتشرة الآن وهي صاحبة الأصوات, وتروج لها وسائل الإعلام الغربية, ولو صرف الصهاينة والصليبيون تريليونات لما استطاعوا أن يشوهوا الإسلام كما يشوهه هؤلاء المتشددون من الذين يقتلون الناس من دون وجه حق, ويتقاتلون فيما بينهم في العراق وسوريا.
وقال: أما إذا تحدثنا عما يحدث في مصر التي عرفت بالطيب واللين والرفق وبمجرد, أنهم يحيون ذكرى 25 يناير يستشهد منهم حوالي 200 شخص, والجرحى والمعتقلون بالآلاف، وربما قد يقول قائل: في العراق كانت هناك مشكلة قومية, وربما سنة أو شيعة, ولكن المصريين كلهم سنة, وكلهم على مذهب واحد, إلا فئة معينة من إخواننا الأقباط, فلماذا جعلتم المصريين شعبين, هم شعب, وآخرون شعب تجب إبادته, كيف يباد شعب حصل على استحقاقات انتخابية في أكثر من 6 مرات. اتقوا الله فلا هذا منهج الإسلام ولا منهج الغرب, الغرب يبحث عن شخص واحد منهم ويعطونه حق تشكيل حزب وتشكيل فكر, ولا يحاسبون أحدا على أفكاره, اقتدوا بهم إن كنتم لا تقتدون بالإسلام.
القضية تجاوزت الحدود والمؤامرات الدولية مع هذا لأنها تجعل الأمة الإسلامية مشغولة بنفسها.
أما في سوريا فحدث ولا حرج, وهذه المؤتمرات من أجل سوريا مجرد مؤتمرات إمهال وتضييع لحق الشعب السوري, فقد بدؤوا بأشهر, وأضافوا عدة أشهر أخرى, وجنيف 1, ومن ثم جنيف 2, فلا فائدة فإذا لم يرحم المسلمون أنفسهم بأنفسهم بعد رحمة الله لا يرحمهم أحد ولا يسعنا إلا أن نتضرع إلى الله أن يعيد أمر هذه الأمة التي رشدها.
وتابع: لقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن العنف الأسري وعن مخاطره وآثاره الخطيرة على المستوى الفرد والأسرة, بل على مستوى الأمة والجماعة، واليوم نتحدث عن عناية الإسلام بما يقابل العنف، وهو الرفق الذي يشمل في الفكر الإسلامي, وفي ضوء الكتاب والسنة جميع حركات الإنسان الداخلية والخارجية, فالرفق من أعظم الأخلاقيات الإسلامية التي أولى لها الإسلام العناية القصوى, ومن هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا, وكان الأنبياء جميعًا قدوة في كيفية التعامل مع الناس, والرفق في هذا الجانب، أي جانب التعامل مع الناس، أو ما يسمى اليوم بفن التعامل مع الناس, وفن التعامل مع الناس يهتم به حتى غير المسلمين, ولاسيَّما الأمم المتحضرة، ولهذا الفن معاهد وكليات تابعة لجامعات عريقة في كيفية التعامل مع الناس, وفيها شهادات من الماجستير والدكتوراه في كيفية التعامل مع الناس. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه أمر فطري يحبه الإنسان ولا يرتقي الإنسان إلا بالرفق, ولا ترتقي الحضارة إلا بالرفق ولا يمكن أن ترتقي الحضارة بالعنف والشدة والقسوة، والرفق في الإسلام يشمل الرفق الداخلي الذي يشمل الجوانب النفسية في ترويض النفس وملء القلب بحب الناس لأن التظاهر بالرفق لا يحقق الحقيقة ولا يحقق ما ينشده الإسلام, لأن الرفق يجب أن يكون متأصلاً في داخل النفس, وذلك حينما يكون الإنسان متصلا بالله سبحانه وتعالى, ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم, وبالتالي يكون مقتديا به في حِلمه وصبره وفي رفقه وشفقته بالناس.
وذكر فضيلته أن الرفق الداخلي عبارة عن هذه المعاني الجميلة في داخل النفس, وعن تربية النفس عليها, وترويض النفس عليها, وليس الرفق أمرا سهلاً وإنما يحتاج إلى الترويض والتدريب, ويحتاج إلى التفكير في كيفية التعامل مع الآخر وفي داخل الأسرة ومع أقاربك والآخرين, وحتى مع غير المسلمين, بل أكثر من ذلك في التعامل مع الحيوانات لأن الله سبحانه وتعالى كتب الرفق في كل شيء. وقد ورد في أحاديث صحيحة «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه»، وليس هناك عطاء أجزل من عند الله سبحانه وتعالى على عطائه حينما يكون الإنسان رفيقا وحليما وصابرا, وحينما يتعامل الإنسان بالرفق والطيب مع الآخرين. الترويض في الجانب النفسي والتربية الصحيحة لهذا الجانب والعناية به هو المنطلق الأساسي للسان والجوارح والتصرفات والحركات التي يتحرك الإنسان من خلالها مع الآخرين.
وأشار فضيلته إلى أن العقيدة الإسلامية ركزت على تصفية هذا الجانب من العنف والشدة والقسوة, وملأت هذا الجانب بالحب والرفق والحلم والصبر والتصبر, حتى لو لم يكن الإنسان صابرا يتصبر لأجل الله سبحانه وتعالى, والتصبر هو التكلف، تتكلف وتتعب نفسك, أنت لست صابراً ولست حليما ولكنك تحاول أن تصبح صابرا, فيكون لك أجران, أجر التكلف وأجر الصبر والحلم على هذه التصرفات التي يراها الإنسان ويستفز منها الإنسان, ولكنك تضغط على نفسك ولا تستفز، فهذا الجانب لا يمكن أن يتحقق إلا بترويض النفس, وبملء النفس بهذه المعاني الجميلة. وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين الصادقين بقوله سبحانه وتعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فالإنسان يسمع كلمة نابية أو يسمع تصرفا سيئاً وربما تصرفا يؤثر فيك, وربما يتجاوز مقامك, لكنك تكظم هذا الغيظ ولا تبديه, وتتعامل معه كأنه لم يفعل شيئاً, وأكثر من ذلك أنت تعفو وحينئذ تجاوزت الحد الأول ووصلت إلى حد راق وعال الذي يريده الله سبحانه وتعالى.
وقال فضيلته: إذا نحن لم نول العناية القصوى لهذا الجانب, ولم نروض أنفسنا على هذه الصفات الطيبة فإننا لا نستطيع أن نصبر وإنما ينفجر الإنسان كلما سمع كلمة, ولكن حينما نركز على هذا الجانب تصبح الأخلاق وبخاصة قضايا الرفق والحلم جزءاً متأصلا, وتصبح ملكة عادية تسير عليها ولا تتأثر بما يحدث حولك, لأنك لديك هذا الجانب الأساسي وهذه التربية هي جزء من تربيتنا الإسلامية, ولكننا نسير اليوم مع العواطف والتقاليد الجاهلية والعصبيات الجاهلية التي كانت قبل الإسلام بحيث إذا كانت لدي قوة لا بد أن أظهرها, فإذا لم أظهر القوة ولم أقم برد مناسب فهذا يعتبر أنني ضعيف, وهذا كلام غير صحيح لا شرعا ولا عقلاً.
وأشار إلى أن الأمر الثاني في ترويض النفس على هذه المعاني وعلى هذه الأخلاقيات العظيمة، أنها تروض كما تروض الحيوانات، لأن هذا الجانب النفسي قابل وقادر على التكييف حسبما يريد, وليس هناك شخص أخذ من جيناته الغضب من أبيه, والأخلاقيات لا تورث, وإنما البيئة هي التي تُورث, وقد أثبت العلم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل 1400 سنة (كل مولود يولد على الفطرة) فهذه الفطرة السليمة كل إنسان يولد عليها, ولكن المشكلة أن الطفل يتأثر بالبيئة وهو جنين, وهو في بطن أمه فإذا كان الوالد كثير الغضب والوالدة كثيرة الغضب وإذا كانت الأسرة معظمها تسير وفق الغضب والشدة والقسوة فهو يتأثر بهذه البيئة السيئة.
وإذا كان الأمر عكس ذلك يتأثر بذلك, وهذا الجانب يعتبر إعجازا علمياً كشفه القرآن الكريم قبل 1400 سنة حينما قال (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وكلمة الدس هي الإخفاء, فحينما تظهر الغضب فإنك أخفيت الحقيقة، حقيقة نفسك، وهو الحلم والرفق فجعلت الشدة ظاهرة على حقيقتك , فالذين يثورون هم أكثر الناس عرضة لأمراض القلب والسكر وغيرها من الأمراض الخطيرة, التي تأتي بسبب هذه الانفعالات, وكم من الخلايا تقتل وتذبح حينما تثور ثورة عادية, من خلايا المخ والجسد, لذلك العنف والشدة ليسا من مصلحة الإنسان لا شرعاً ولا عقلا.
والجانب الثاني هو الرفق في الكلام, ويراد به أن يختار في حديثه مع الآخر الكلمات بدقة, وليس كلما جاءتك فكرة قلتها, وليس كلما سمعت شيئا نقلته, وبذلك يكون من الكذب أن تتحدث بكل ما تسمع, فأين عقلك وأين فكرك، يصبح الإنسان حينذاك مثل الببغاء, بل أقل من الببغاء لأن الببغاء يحتاج إلى تدريب, ولكنك بعد سماعك الخبر تنشره مباشرة على وتس آب أو تنشره في رسالة أو قلته في مجلس، ولكن أين تفكيرك! وقد وصف الله المؤمنين الصادقين الذين يستحقون الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى بقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) وبعدها الصفة الثانية مباشرة (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) واللغو هو كل شيء لا فائدة فيه حتى لو لم يكن شراً, لأنه يمكن لرجل أن يتكلم بكلمة لا يلقي لها بالا, ولكن يبعد الله بها سبعين خريفا, أو يدخله الله النار سبعين خريفا.
وذكر أن الله سبحانه وتعالى جعل بقية الأمور مفتوحة, فالعين مفتوحة إلا أن تغمض, والسمع مفتوح, تسمع لكن للكلام هناك موانع ومكابح من الأسنان واللسان حتى لا تتكلم إلا في الحق, ولذلك يقول القرآن في آية أخرى (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) وقالوا (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) فنحن المسلمين مشغولون بأعمالنا أو نسبح الله ونستغفره, واللسان رطب بذكر الله بدلا من أن أتكلم بكلمة أعاقب عليها، أتكلم بكلمة يثيبني الله تعالى عليها، وفي حديث صحيح (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فإذا كان إيمانك حقيقيا فيجب أن تقول الخير ولا تقول الشر أبداً, أو فيه خير وشر (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فلماذا تثقل كتابك بشيء لا فائدة فيه, بل ثقل ميزانك بما فيه الخير فلذلك الرفق في الكلام والتعامل مع الناس واستعمال أجمل الكلمات هي من صفات عباد الرحمن.
وأرى أننا نحن المسلمين أولينا العناية القصوى للشعائر فقط دون مقاصدها وأهدافها, بينما شرع الله هذه الشرائع لأجل الأهداف الأساسية (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) قولا وفعلاً. ولذلك وصف الله عباد الرحمن الذين يستحقون الفردوس الأعلى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) والجاهلون هنا بمعنى السابون الشاتمون «الغالطون» وليس المقصود الجهل هنا, لأن السياق هنا ليس المقصود به الأمي -وأن يكون أميا وجاهلا هذا صحيح- ولكن المقصود به هو الجهل في الكلام, كما قال أحد الشعراء (ألا لا يجهلن أحد علينا… فنجهل فوق جهل الجاهلين) ولكن المسلم يقول, والإيمان يقول إنك إذا تكلم الجاهل معك وغلط معك تقول أنت سلام عليكم.
فهذا هو الرفق, وهذا هو التعامل الحقيقي, وهذا هو الإسلام يمشي, هذا هو الإسلام الذي يحول القرآن إلى سلوك, كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن) أي أنه يطبق القرآن تماماً, كأنه قرآن يمشي على الأرض.
ونحن المسلمين مأمورون ومطالبون بأن نقتدي برسول الله, فلا ضجر وإهانة ولا ننهره ولا نخجله, إنما نتكلم بما هو أفضل, (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهذه ليست صفة سهلة, ولذلك يقول رب العالمين (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
كذلك تعاملنا مع الآخرين في كيفية المشي, وربما الناس يظنون أن الرفق مع الناس هو مجرد التلطف في الكلام, لا, ولا يكفي هذا, وإنما حينما أمشي بين الناس أمشي هادئاً غير مؤذ, وليس كما يحدث اليوم, وحتى الآن لا أعرف الغرض ولا الحكمة مما يفعله هؤلاء الشباب من تخريب سياراتهم من أجل أن تكون الأصوات مرتفعة, ويمشون أمامك وفي نصف الليل تزعج الناس والمرضى والنيام والأطفال, فهذا جزء من الأخلاقيات الني نهى عنها الإسلام, وحتى إن أول الصفات التي ذكرها الله في عباد الرحمن ليست الصلاة, وإنما هو هذا المشي الجميل (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) هينين ولينين لا يحبون أن يؤذوا أحدا ولو استطاعوا أن يكبتوا هذه الأصوات في السيارات لفعلوها, ولذلك حتى في الصلاة لا يجوز لك أن تمشي على أكتاف الناس وتؤذي المصلين من أجل الوصول إلى الصف الأول فلا يجوز هذا لأن إيذاء الناس أشد من العبادات.
ما أحوجنا إلى هذه الأخلاقيات, وإذا كان الغرب ينفق المليارات من أجل فن التعامل فإن ديننا جعل ذلك جزءا من عقيدتنا وجزءا من أخلاقنا الإسلامية, فما أحوجنا ألا نأخذ بالشكليات فقط والمظاهر, حتى في باب العبادات, وإنما نأخذ بالعبادات وحقائقها فنصلي وننظر ما الذي تريده منا الصلاة, وما الذي يريده منا الصوم والحج.