العرب – الدوحة

مواصلة لمقالاته الفكرية حول تأصيل العمل الإنساني، يرى الدكتور القرة داغي أن المؤسسات الخيرية الإنسانية العاملة في بلاد الإسلام بحاجة إلى معرفة الآليات والأدوات التي تساعدها على بلوغ التكامل والوصول إلى الأهداف التي تعمل من خلالها، وبدون معرفة هذه الآليات سيبقى عمل المؤسسات الإنسانية مُشتّتاً، بحيث يتعذّر عليها بعد ذلك تحقيق الأهداف الكبرى التي أنشئت من أجلها، فهذه المؤسسات لم تنشأ من أجل إطعام جائع هنا أو هناك، ولا كفالة يتيم في هذا البلد أو ذاك، وإنما من أجل تحقيق هدف أسمى وأعم نفعاً، ألا وهو المساهمة بفاعلية في تحقيق التنمية الشاملة للأمة، حتى لا يبقى فيها جائع يحتاج لمن يطعمه، ولا يتيم بحاجة لمن يكفله، فعندما يتحقق الهدف الرئيسي، سيكون كل فرد من أفراد الأمة قادرا على العطاء، وليس عائلاً يستجدي الناس، يقول القره داغي: إن الإنسان كمحرك أساسي للعمل الإنساني وعامل فيه ومستفيد منه لا ينفك عن حالتين وواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاوناً على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله، فبين تعاون الجمعيات الخيرية وشراكتها علاقة وطيدة يجب أن نقويها؛ لأن العلاقة بين التعاون والشراكة هي علاقة العموم والخصوص؛ حيث إن الشراكة داخلة في التعاون، بل هي أقوى أنواعه، وأفضل أقسامه، فالتعاون يبدأ بأي تعاون على البرّ والتقوى، ثم يقوى ليصل إلى الشركة، لذلك استعملتُ المصطلحين؛ وذلك لأن الواجب الأدنى هو أن لا يغفل عن التعاون في جميع الأحوال، ثم علينا أن نطوّره للوصول إلى الشراكة الحقيقية التي تحقق الأهداف المنشودة.

وقد أكد الشرع ما أقرّه الطبع والعقل فجعل التعاون فريضة شرعية فقال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) فهذه الآية الكريمة تدل على مجمل الحكم الشرعي للتعاون، وهو أن التعاون بصورة عامة فريضة شرعية إما فرضاً عينياً حينما يكون التعاون سبباً متعيناً وحيداً لتحقيق واجب أو ترك محرم ومفسدة ومضرة محققة، وإما فرضاً كفائياً إذا لم يكن متعيناً، ولكن إذا لم يكن سبباً لذلك فيكون مستحباً، والاستحباب هو الحكم العام للتعاون على البرّ والتقوى، وتدل الآية أيضاً على أن التعاون على الإثم والعدوان محرّم، وإذا كان على شيء أقل من الحرام فيكون مكروهاً.

وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة لا يمكن أن تحصى في هذه العجالة، حول مجموعة من القيم العظيمة التي ترسخ روح التعاون والشراكة، والجماعة والمؤسسية، والتضامن والتكامل، بل إن جميع التشريعات حتى الخاصة بالشعائر فيها ما يؤدي إلى ذلك، ويحقق، أو يشارك في تثبيت هذه المعاني، فالصلاة التي هي عبادة وصلة بين العبد وربّه، يناجي فيها العبد بين يدي خالقه بصيغة الجمع، ويطلب المعونة كذلك قائلاً: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بالإضافة إلى فرضية صلاة الجمعة ووجوب صلاة العيدين والجماعة على الراجح من أقوال أهل العلم.

ولا يخلو الصيام أيضاً من التعاون الإنساني حيث يجوع الصائم ويعطش لتنتعش لديه روح الإحساس بجوع الآخرين وعطشهم وفقرهم وعوزهم، بالإضافة إلى ما يترتب عليه من فدية وكفارة مالية عند عدم القدرة، أو خلل، ثم ما ينتهي به الصيام من صدقة الفطر التي هي طعمة للمساكين وإدخال السرور في قلوبهم، وتعاون لجعل عيد الفطر عيد الفرحة للجميع.

وأما الزكاة فهي ركن مالي تعاوني تكافلي في الإسلام لا يكتمل إيمان العبد، ولا ادعاؤه للأخوة إلاّ بها فقال تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ).

وكذلك الحجّ فهو بالإضافة إلى جانبه التعبدي رحلة جماعية ومؤتمر عالمي لتحقيق التضامن والتعاون، وما يصحبه من الهدي والفدية المالية التي تجسد التكافل والتعاون الإنساني.;