الدوحة – بوابة الشرق

الحلقة الثامنة عشر

ومن مظاهر تكريم الله للإنسان:

احترام عقل الإنسان وتحريره من الخرافات، فقد أعطى الإسلام قيمة كبرى للعقل الإنسان وتفكيره، فأمر بالنظر والاعتبار، وجعل التفكير في خلق السماوات والأرض وإقامة الحجة والبرهان العقلي، فريضة، فقال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)، والنصوص الشرعية في احترام العقل وأهمية الفكر، والتدبر، والتعقل والتفقه، … أكثر من أن تحصى، إضافة إلى أن العقل هو مناط التكليف، كما أعلن الإسلام عن حرب حقيقية ضد الخرافات والدجل، والشعوذة والاستعانة بالجن والعفاريت، ونحوها، من حيث إنه حصر العلم بالغيب في ذات الله العلية فقط، قال تعالى : ( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) وحكى الله عن الجنّ قولهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً).

ومن حيث العلاقة بين الإنسان والجن، بيّن الله تعالى بصورة قاطعة أن الجن لا يملكون شيئاً من السلطان على الإنسان، فالسطان لله تعالى، فقال تعالى على لسانهم: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً).

وفي هذا المجال ،فقد أغلق الله تعالى كل مصادر المعرفة بالغيب (الجن والملائكة والعالم الآخر) إلاّ مصدراً واحداً فقط، وهو الوحي الصحيح المتمثل في القرآن الكريم، والأحاديث الثابتة، حيث يحرم الخوض في هذا العالم إلاّ من خلال الوحي، ولذلك منع العقل عن الخوض في هذا الباب فقط، لأنه لا يستطيع الوصول فيه إلى أي شيء، لذلك وجهه الإسلام إلى ما هو مجاله وهو الكون المادي الفسيح، وهذا هو المطلوب منه لأداء رسالة الاستخلاف والتعمير التي خلق الله تعالى لأجلها مع تحقيق غاية العبودية التي تصلح هذا الإنسان ليكون أهلاً لما كلف الله تعالى به من الصلاح والإصلاح.

ولذلك فإن العقول الكبيرة لفلاسفة اليونان والإغريق (أمثال أرسطو وبقرا) انشغلت بعالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) مئات السنين، ولم تحقق نتائج مفيدة تذكر، في حين أن علماء المسلمين الذين ساروا على منهج القرآن، والمنهج التجريبي المنبثق منه، ولم يشغلوا عقولهم بعالم ما وراء الطبيعة، بل شغلوها بالعلوم الإنسانية والكونية والطبيعية، استطاعوا خلال فترة وجيزة أن يبدعوا في مختلف العلوم، ويحققوا حضارة خلال أقل من قرنين.

ولم يكتف الإسلام بهذا التوجيه الرباني العظيم، بل أرشد العقل، وساعده على معرفة ما في الكون من أسرار واختصر له الطريق في كثير من القضايا العلمية، فعلى سبيل المثال أوضح له كيفية خلق الكون، وأن مرجعه إلى دخان (غازات) فماء، فقطعة واحدة تفتت منها بقية السموات والأرض فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) ناهيك عن خلق الإنسان، ومراحل حياته في بطن أمه بدقة متناهية لم يستطع العلم الحديث أن يتجاوزها على الرغم من تقدمه الهائل في هذا المجال.

وبالإضافة إلى هذه النقاط الأساسية الخاصة بالتكريم الرباني، فإننا نركز على أهم مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان، الخاصة بالحرية الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهي ما تسمى بالحريات العامة في الفكر المعاصر، وهي نفسها مثار جدل بين المفكرين، والمدارس الفكرية المتنوعة.

والمقصود بالحريات العامة، وهي حقوق يتمتع بها الفرد بسبب طبيعته البشرية، أو نظراً لعضويته في المجتمع، يحقق بها الفرد مصالحه الخاصة، ويسهم بها في تحقيق المصالح المشتركة للبلاد، ولا يحد منها إلاّ في حالة الاضرار بمصالح الآخرين.

وقد كفلت معظم الدساتير هذه الحريات بشكل واضح، فعلى سبيل المثال تكفل الدستور القطري الجديد هذه الحريات العامة بشكل واضح، حيث نصت المادة (34) على أن (المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات العامة).

ونصت المادة (35) على أن: (الناس متساوون أمام القانون. لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس، أو الأصل، أو اللغة، أو الدين).

ونصت المادة (36) على أن: (الحرية الشخصية مكفولة. ولا يجوز القبض على إنسان أو حبسه أو تفتيشه أو تحديد إقامته أو تقييد حريته في الإقامة أو التنقل إلا وفق أحكام القانون.

ولا يعرض أي إنسان للتعذيب أو للمعاملة الحاطة بالكرامة، ويعتبر التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون).

وبالإضافة إلى ذلك، فإن منظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدرت وثيقة نوقشت في صيغتها النهائية من قبل الخبراء والوزراء ، تضمنت مجموعة من المبادئ العامة المهمة والأحكام التفصيلية، منها:

1 ـ البشر جميعهم أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله، والبنوة لآدم، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإقليم، أو الجنس أو المعتقد الديني، أو الانتماء السياسي، أو الوضع الاجتماعي، أو الطبقي، أو غير ذلك من الاعتبارات.

2 ـ أكدت الوثيقة على حرمة الإنسان في حياته، وبعد موته، والحفاظ على سمعته، وعلى عدم جواز ممارسة أي لون من الإرغام، أو الضغط عليه لترك دينه إلى دين آخر، أو إلى غير دين، كما لا يجوز استغلال فقره، أو جهله لتغيير دينه.

3 ـ وأكدت الوثيقة أيضاً على حرية الرأي والتعبير وحق كل إنسان في الوظائف والانتخابات على أساس المساواة.

وأما جامعة الدول العربية فلم يتضمن ميثاقها المكون من عشرين مادة مع ملاحقها الثلاثة أي بند صريح حول حقوق الإنسان، ولم يصدر منها ميثاق خاص بها، على الرغم من أن معظم دولها قد نصت دساتيرها على حقوق الإنسان.

حماية الحريات من أعظم الكرامة للإنسان:

إن كرامة الإنسان لا يمكن أن تتحقق في ظل الكبت والظلم والتعسف، وإنما كرامة الإنسان متلازمة مع حقه في الحرية الفكرية والدينية، والسياسية، والمدنية، والاجتماعية، والاقتصادية (حرية الملكية، حرية العمل) والعلمية والثقافية ونحوها.