اعتبر فضيلة الشيخ د.علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قضية الأسرى في سجون الاحتلال قضيةً إيمانيةً وليست سياسيةً، مطالبًا المسلمين بالدعاء لهم ومساندتهم، وقال فضيلته في خطبة الجمعة أمس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها: إذا كنّا نتحدّث عن حقوق المؤمنين وعن حقوق الأخوة الإيمانية وعن حقوق الجسد الواحد، فعلينا أن نستعرض ما يصيب إخواننا المسلمين في كل مكان ومدى إحساسنا بهم ومدى تفاعلنا مع قضاياهم ومع تنفيذنا لهذه المحبة حتى لا يكون ذلك مجرد قول يُقال أو شعارات تُرفع وحتى لا ندخل ضمن قول الله تبارك وتعالى: “لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” فعلينا اليوم أن نحسّ بآلام إخواننا الأسرى في فلسطين داخل سجون الصهاينة الذين قاموا بإضراب عن الطعام حتى وصل بعضهم إلى حالة قريبة من الموت وما فعلوا ذلك حبًا في الإضراب عن الطعام وإنما فعلوا ذلك لأنه وصل بهم من التعذيب النفسي والبدني إلى حالة آثروا الموت على الحياة وهم في سجون الاحتلال عشرات السنوات يبقون دون أن يُحاكموا، وهذا مخالف لكل القوانين الدولية وناهيك عن الشرائع السماوية كلها بالإضافة إلى أن هؤلاء محتلون لكل الأراضي الفلسطينية وليس لهم حق في هذه التصرفات حتى حسب قوانين الأمم المتحدة فهم عليهم أحكام المحتل ولكنهم يفعلون ما يفعلون ويدمّرون ما يدمّرون ويؤذون ما يؤذون دون رادع؛ لأن الدول الكبرى مع هذه الدولة الصهيونية والأمة الاسلامية مشغولة بنفسها وضعيفة لا تستطيع في كثير من الحالات أن تقدّم أو تؤخر.
تقتيل وتفجير بسوريا
وأشار إلى إخواننا الذين يقتلون ويعذبون بشتى أنواع التقتيل والتعذيب في سوريا ولم تكتفِ الشبيحة بما تقتل ولم يكتفِ الجيش بدباباتها وطائراتها وحتى سفنها الحربية بضرب المناطق وتدميرها في درعا وحمص وكثير من الأماكن، وإنما الآن بدأ بتفجيرات داخل المناطق التي فيها مظاهرات ويتهم بها المعارضين لهم وفي نفس الوقت يخوّف بها الأهالي ليتركوا البلد. ورأى فضيلته أن من واجبنا تأييدهم كما أشار إلى إخواننا الذين نجحت فيهم الثورة، مشيرًا إلى زيارته لتونس الأسبوع الماضي، وقال: إن الشعب التونسي متعطش للحرية تعطشًا كبيرًا وقد اجتمع في الخطبة الآلاف ليجتمعوا حول علماء المسلمين.
وذكر أننا دعمناهم بالدعاء سابقًا ولكن الآن علينا أن ندعمهم حتى تنجح هذه الثورة، وهناك مؤامرات خاصة من فرنسا لإفشال هذه الثورة وللاستفادة من الثروة وإعادتها إلى ما كان عليه في السابق، وكذلك علينا أن ندعم مصر دعاءً ومناصرة وفتحًا للشركات حتى لا تحتاج إلى صندوق النقد الدولي أو إلى غير ذلك.
الحقوق المتقابلة
وكان فضيلته قد بدأ خطبته قائلاً: إذا نظرنا إلى المجتمعات المعاصرة والمجتمعات التي مضت في القرون السابقة، نراها أنها تُبنى على أحد الوجهين، إما أن تُبنى على أساس الحقوق فقط والمطالبة بالحقوق كما هو الحال في المجتمعات الرأسمالية التي يبحث هؤلاء عن حقوقهم وإذا لم تفرض عليهم الحقوق بالقوانين فليس هناك دافع لإعطاء الحق لأي شخص آخر، وهناك مجتمعات أخرى تُبنى على أساس الواجبات والمسؤوليات فقط كما هو الحال في المجتمعات الاشتراكية والمجتمعات الشيوعية التي سقطت لأنها لم تستطع أن تحقق التوازن فلم تستطع أن تواصل مسيرتها فانتهت بانتهاء الاتحاد السوفييتي السابق. ومن هنا تأتي أهمية بناء مؤسسات المجتمع الإسلامي حيث أسسه الإسلام على أمرين أساسيين؛ الأمر الأول: الحقوق المتقابلة والأمر الثاني: هو الإيثار والإحسان. ونحن اليوم نتحدّث عن جزء من الجزء الأول الذي يتعلّق بالحقوق المتقابلة وهي مصطلح شرعي ويقصد بها أنه ليس هناك شخص صغيرا أم كبيرا إلا وله حق وعليه حق آخر وعليه واجب ومسؤولية كما أن له حقوقًا، فالحقوق متقابلة فأنا لي حق عليّ وكذلك لي حق على الآخر وهذا الحق على الآخر يُسمى في المصطلحات المعاصرة الحقوق أما الحق عليّ فيُسمى بالمسؤولية والواجبات.
المسلم مظلومًا
واستدرك قائلاً: لكن المصطلح الإسلامي هنا أدق لأنه يتحدّث عن أن كل ما يفعله الانسان إنما هو في دائرة الحقوق إما لي أو عليّ، وليس هناك فرق بين ما هو حق لي وما هو حق علي وإن المسلم في ظل هذا المصطلح وفي ظل هذه التربية يبحث أولاً عن أداء حقوق الآخر قبل أن يبحث عن حقوقه وحينما تكون النية بهذه الصورة أن كل إنسان يتربى على أن يعطي حق الآخر وألا يكون ظالمًا وحتى إن وجد الأمر وأصبح الإنسان بين أحد الأمرين، إما أن يكون ظالمًا أو أن يكون مظلومًا فالمسلم يختار أن يكون مظلومًا فكن عبد الله المظلوم ولا تكن عبدالله الظالم لأنك إذا ظلمت فإن الله سبحانه وتعالى يعاقبك وأن عقوبة الله سبحانه وتعالى في القبر وفي الجحيم أشد وأبقى من عقوبة الإنسان وهذا ما فعله الابن الصالح لسيدنا آدم حينما قال ” لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”
بناء المجتمع الإسلامي
وقال: هذا هو بناء المجتمع الإسلامي أنك تبحث ما الذي عليك من حقوق أمام الله وأمام الناس وأمام الآخرين وإذا كان كل واحد فكّر بهذا التفكير أو ربي هذه التربية ونفّذ هذه الحقوق فلن نحتاج إلى القضاء وإلى الخصومات، لأنك قبل أن تطالب بالحق أنك تسرع وتتسارع وتتعجّل في أداء ما عليك من حقوق أمام أخيك سواء كان هذا الحق قرضًا أو واجبًا أو أجرة وهذا ما حدث في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانت الخصومات نادرة وكذلك في عصر أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حينما عيّن عمر قاضيًا لمدة سنة ولم تأتي إليه إلا قضية أو قضيتان من أسهل القضايا فقدّم استقالته وقال: يا أبا بكر ليس هناك حاجة للقاضي لأنه لا يأتيني أحد للمخاصمات فكلهم يحلون مشاكلهم بالتصالح والمصالحة وأغلبهم يعطون حقوقهم وإذا لم يعطَ له حقه فيفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى ويرى أن أخذ حقه يوم القيامة أحوج ما يكون من أن يأخذه في الدنيا.
الأخوة الإيمانية
وأكد فضيلته أن هذا هو المجتمع الإسلامي الحقيقي الذي هو يقوم على أساس الأخوة ومبناه وأسسه تقوم على الأخوة الإيمانية التي فضلها الله سبحانه وتعالى على الأخوة النسبية دون أن يلغيها فالأخوة النسبية قائمة والأخوة القومية قائمة والمواطنة قائمة ولا حرج ولكنها في دائرة الأخوة الإيمانية التي هي الحاكم والمرجعية فيما إذا تعارضت هذه الأخوات مع الأخوة الإيمانية فقال “إنما المؤمنون إخوة” ثم قال في سورة أخرى: ” لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” .
ليست الأخوة شعارات
وأشار فضيلته إلى أن الأخوة الإيمانية ليست مجرد قول يقال وليست مجرد شعارات ترفع وليست مجرد كلمات تقال وليست مجرد قوانين تكتب أو دساتير تسجل وتسطر وكم من دساتير تنص على هذه الحقوق ولكن الحكومات لا تنفذ وكم من ادعاءات بالأخوة القومية والقبلية فحينما تتصارع مصالح الإنسان مع قومه يضرب مصلحة قومه عرض الحائط ولا يبحث إلا عن مصلحته لذا وضع الله سبحانه وتعالى لهذه الأخوة موازين ومعايير طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم في المجتمع الأول مجتمع المدينة حينما آخى أولاً بين المهاجرين أخوة حقيقية فاقت كل أنواع الأخوة ثم بعد ذلك آخى بين الأنصار والمهاجرين وكان الأنصار قد نجحوا في ذلك نجاحًا عظيمًا حينما لم يكتفوا بالحقوق فقط وإنما وصلوا إلى مرحلة الإيثار ” وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ” محتاجون فقراء ولكن مع ذلك يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويحبونهم حبًا ويطعمون الطعام ويعطون المال ويشاركونهم بمنتهى الحب وبمنتهى الإيثار فحينما يتآخى الأنصاري مع المهاجر فيعرض عليه نصف ماله ثم يعرض عليه لإن كانت له أكثر من زوجة أن يطلّق إحدى زوجاته ليتزوجها أخوه المهاجر ولكن المهاجرين لم يرضوا ذلك في مسألة النساء ولكنهم أتوا ولم يكن معهم أي شئ فقبلوا كرم إخوانهم وحق إخوانهم في الخيرات والبركات والمشاركة في الأموال وفي ثمار المدينة وفي خيراتها وبركاتها.
أنت أولى بمالي
وروى قائلاً: يُقال أن شخصًا ذهب إلى أبي حنيفة الإمام الأعظم رحمة الله عليه وكان يوده ويتوادد إليه كثيرًا وكان يقول اقبلني أخًا لك فقال أبو حنيفة بالله الذي خلقك وأناشدك أن تكون صادقًا هل إنني افضل مما في جيبك من نفسك أو أنت فقال الرجل أنا أولى بمالي منك وإذا احتجته أفكر فقال أبو حنيف وأنت صديقي ولست أخي فالأخ الذي إن لم يكن مؤثرًا فهو يعتبر ما يدفعه لأخيه كأنه يدفعه لنفسه بل أفضل من ذلك .. وشبّه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلم بسندهم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” فهذه السخونة كلها لأن الجسم يتحرّك للقضاء على الجرثومة التي دخلت في الجسم وهكذا المسلم إحساس وعمل وتطبيق فإحساس، انظر إلى ظاهرة السخونة في الجسد هي تكاتف أجزاء الجسد للقضاء على الجرثومة ومشاركة فعلية للتنفيذ والقضاء على هذه الجرثومة.
مرجعية الأخوة
وقال فضيلته: تعود مرجعية هذه الأخوة إلى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر متفق عليه ويضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا معيارًا يخاف منه الإنسان فوالله كلما أقرأ هذا الحديث أحسّ بشيء من القشعريرة والخوف وهو “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” فلينظر كل واحد إلى نفسه هل وصلت إلى هذه المرحلة وليس مجرد الحب لأن الحب لا بد أن يتبعه العمل.. ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث وبنى هذا المجتمع القوي الذي استطاع أن يفتح به العالم وأن يكون القاعدة العظيمة لانطلاق الدعوة، والصحابة كانوا على هذا المستوى العظيم من التربية ومن المحبة للناس ولذلك بلغوا ما بلغوا وهذا لا يعني أن هؤلاء معصومون؛ وإنما يعني خاصة الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار أبلوا هذا البلاء العظيم وأصبحوا قدوة لنا في كيفية الأخوة الإيمانية والحقوق المتقابلة.