الدوحة – جريدة العرب

نعى فضيلة الشيخ د.علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين موقف الأمة الإسلامية من الإحساس بالمسؤولية، وتساءل: ماذا فعلنا من أجل سوريا؟ مشيدا بالدور القطري في هذا المقام، وقال: هذا الظالم في سوريا يظلم الشعب السوري من 12 شهرا فماذا عملنا؟ أوروبا وأميركا قامت لحماية البوسنة -ولو كان هذا القيام متأخرا- ولكن حموا البوسنيين من إبادة الصرب لهم، فماذا عملنا نحن لسوريا، نعم قد قامت قطر، وتركيا تعمل نوعا ما، ولكن لا يكفي، بل لا بد من تجمع الأمة، فدم المسلم يراق يوميا وبكل الأسلحة، ويحتاج الأمر إلى عقد قمة سريعة جدا ولا ننتظر قمة بغداد، فالنظام في سوريا لا يستطيع أن يتحدى الجامعة العربية، ولكنه يعلم أن العالم العربي لا يولي العناية، ولا يحس بالمسؤولية الكاملة. إذاً مشكلتنا في المسؤولية، مسؤولية الفرد والجماعة والأحزاب والدول. وتساءل: أين الإحساس بالمسؤولية في قضية القدس؟ أين نحن من صلاح الدين فقد حكم 24 سنة ولم يتقهقر؟ وقد روى صلاح الدين حديثا -وهو محدث- والحديث فيه تبسم، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما تكلم بهذه الكلمة والراوي قلد الرسول في التبسم، والتابعي كذلك، إلى أن وصل إلى صلاح الدين فتبسم صلاح الدين اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.. وقال: «لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم تبسم ما تبسمت، وكيف ابتسم والقدس بأيدي الصليبيين».


القوانين والضعفاء

وأكد فضيلته في خطبة الجمعة أمس بفريق كليب بجامع عائشة رضي الله عنها: إن قضية المسؤولية والإحساس بالمسؤولية قضية تربوية أساسية، وإنها ليست قضية عرضية تفرض من خلال العقوبات والقوانين، وإنما تغرس في النفوس، كما تغرس أية وسيلة من وسائل التربية في نفوس الشباب والنشء. وبين الله سبحانه وتعالى أهمية هذا الإحساس من خلال هذه التربية ثم الوصول إلى هذه النفس اللوامة. من هنا نحن نستغرب عندما تقع مشكلة كالتي تقع في الأمن في العالم الغربي إلا وتجد الوزير أو رئيس الدولة يقدم استقالته، وفي بعض بلادنا يقتل آلاف، بل عشرات آلاف، وقد يحدث تقصير كبير في أمن وسلامة المواطنين، ولا يحدث أي تغيير، وفي بعض البلاد قد يرتقي المفسد وينال ويكافأ بدل أن يعاقب، وتُحمل المسؤولية على عاتق الضعفاء والمساكين، ولا تطبق القوانين إلا على الضعفاء، وهذا ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه: «إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

التربية على المسؤولية

وكان قد بدأ فضيلته خطبته الأولى قائلا: «تحدثنا في الخطب السابقة عن أهمية المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، وأمام الإنسان والتاريخ، وقد تحدثنا عن ذلك من خلال الآيات الكريمة التي تتحدث عن خطورة المسؤولية، وعن خطورة السؤال، وعن مستقبلنا أمام الله سبحانه وتعالى {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}.

وفي هذه الخطبة أتحدث عن التربية على هذه المسؤولية، وعن غرس هذه المسؤولية في النفوس الناشئة من خلال تربية جادة؛ لأن هذه التربية تعتبر من الضروريات الأساسية لنجاح هذه الأمة، حتى تكون قادرة على صنع الحضارة، وعلى أن تلتحق بالأمم الأخرى حتى في الدنيا.

وقال فضيلته: المسؤولية هي التي تصنع الرجال، هي التي تصنع الحضارات، وقد حدثني أحد الإخوة حينما ناقش أحد الكوريين الجنوبيين فقال له لماذا تجعل ابنك يذاكر ما عدا الساعات الدراسية خمس ساعات أو ستة ساعات إضافية، فقال: «حتى يبني بلده، حتى يبني نفسه ومجتمعه»؛ لأن المجتمع لا يبنى بفضول الوقت، ولا باللامبالاة، ولا بما نراه من بعض شبابنا وهم لا يحسون بأي مسؤولية لا أمام الله، ولا أمام التاريخ، ولا أمام الوالدين، ولا أمام المسؤولين».

أمام الله

وأكد فضيلته على أنه يصنع الحضارة والتقدم والعلم حينما يحس الإنسان في البداية بالمسؤولية أمام الله، وقد منحك الله بطاقات عظيمة، لم تمنح لأي مخلوق آخر سوى الإنسان، فلماذا لا تستعمل هذه الطاقات في تعمير الأرض، وفي خدمة الإنسانية والشعب والوطن والأمة. إن أمتنا قد شاعت فيها مصطلحات غريبة، وأصبحت هذه المصطلحات في اللامسؤولية وعدم الإحساس بها كأنها حتميات، ومبررات، وعلل قاطعة لا يمكن مناقشتها، ومن هذه المصطلحات «معليش» أو «ما يخالف» أو «لا يهمك» أو «كل ماشي»، فعند إضافة هذه المصطلحات إلى فعلتك أصبحت تعلل الإثم بشيء غير حقيقي بدل أن تعتذر وتحس بالمسؤولية.

ورأى أن هذا المرض الخطير لا بد من المعالجة علاجاً جذرياً؛ لأن هذا المرض حينما يصل بالإنسان إلى مرحلة عدم الإحساس، وترتكب المنكرات وتخالف المواعيد، ولا تؤدي واجب الوظيفة ثم تبررها بهذه المصطلحات، أصبحت كالميت في عالم الطب من عدم الإحساس والشعور، أو مصابا بمرض السرطان الذي لا يصاحبه الألم إلا أن ينتشر إذا لم يكشف، حينئذ لا ينفعه الدواء إلا من رحمه الله، مضيفا: «إذا أردنا أن نبني الأمة فلا بد أن نحمي شبابنا، وقد ضحت الأمة بكثير ولكن كل هذه التضحيات لن تنفع الأمة إلا إذا بنيناها على الجسد الواحد الحساس بالمسؤولية، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فإذا أحسست بألم الإثم تسعى للعلاج، أما إذا لم تحس وتظن أنك صحيح فحينئذ أنت مريض أو مصاب بمرض خطير نسأل الله العفو والعافية».

إحساس الأمة

وقال: يجب على الأمة الإسلامية بدولها وشعوبها وأسرها أن تتعاون جميعا لبناء الأمة من جديد إذا أردنا أن تكون لنا قائمة، وأن تكون لنا حضارة وقوة، وأن يُحسب لنا حساب، ناهيك من حساب الله في ذلك اليوم العصيب، ولكن قبل ذلك نحن مسؤولون أن نحقق لأمتنا الخير، ولا يتحقق الخير إلا من خلال أمة قادرة مبدعة وحساسة، تحس بالألم والنقص إلى أن تعالجها.

الرسول صلى الهخ عليه وسلم بنى أمته على هذه المسؤولية، وجعل كل واحد منهم يحس بالمسؤولية أولا أمام الله سبحانه وتعالى، وهذه المسؤولية تعمل في داخله ليل ونهار، فيتكون لديه النفس اللوامة التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}، والنفس اللوامة هي التي تلومك على تقصيرك في فعل الخيرات، تلومك على ارتكاب المنكرات، ولا ترضى بما تفعل حتى تزداد في الخيرات.

الأمة تبنى بالإنسان، بتكوين الإنسان، بالأمة الفاعلة والإبداعات والتطوير والتعمير، ولو وقعت ألف ثورة، ولم تتجه هذه الثورات لبناء إنسان صاحب مسؤولية، فلا يكون إلا تغييرا في الأشخاص والوجوه دون تغيير في الأمة وبناء الأمة.

المسؤولية تعم

ولفت فضيلته إلى أن المسؤولية ليست خاصة بالدولة فقط، وإنما هي تعم الدولة وتعم الفرد والأسرة ووزارة التعليم ومؤسسات التربية والجامعات والمساجد وأئمة المساجد، على هذه المؤسسات أن تتكاتف لتصنع هذا الإحساس بالمسؤولية من خلال الأسرة في البداية والمؤسسات التعليمية بعدها، وأن نصنع أجيالا من منطلق الإحساس بالمسؤولية في السن المبكرة للطفل والطفلة، وهكذا فعل الرسول مع ابن عباس ومع عبدالله بن الزبير ومع أولاد الصحابة، فكان يغرس الإحساس بالمسؤولية من البداية «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»، وهكذا فعل سيدنا لقمان وقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} وبهذا يحس الصغير بأن الله يراقبه، ويحس الشاب أن الله يراقبه، ويحس الكهل كذلك، ولا بد أن نفهم أن هذه المراقبة ليست مراقبة أخروية فقط، فلم يخلق الله هذه الأمة من أجل الآخرة فقط، إنما أخرج هذه الأمة لخدمة البشرية والكون والتعمير على منهج الله. فالله كما أمرك بالذكر أمرك بالاستخلاف، وأمرك بتكوين الأمة، وأمرك بالإعداد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، فهذا الأمر مثل الأمر الذي قال الرب جلا وعلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، وكما أمرنا بالصلاة من يوم الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أمرتم أيضاً بـ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، فلماذا نعمل ببعض الأوامر ونهمل الآخر، حتى أن أخذ الأوامر الأولى قد يكون شكلا وليس حقيقة وجوهرا.

الرقابة الذاتية

ووجه نداءه قائلا: «إذا أردت أن يكون أولادك صالحين ومبدعين، فعليك أن تغرس هذه الروح، روح المسؤولية في أنفسهم، وهكذا تصنع الأجيال من خلال القدوة، ومن خلال الرقابة الذاتية، ومن خلال الوعظ والإرشاد والبيئة والرفقة الصالحة، والتشجيع على الإبداع، وتعطي لها قوة، حتى تسعى ليكون نجما من النجوم أو شمسا من الشموس. إن عدم الإحساس أم المشاكل والإحساس بالمسؤولية أم الخيرات ويدور حوله كل شيء نافع ويدور حول عدم الإحساس كل شيء ضار، فعند الإحساس بالمسؤولية لا يكذب الفرد، وقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم الحقيقي أن يكذب. وتشترك في غرس هذا الإحساس بالمسؤولية الدولة ومؤسسات الدولة بحيث يكون هناك برنامج خاص نظريا وعمليا وسلوكيا لبناء هذا الفرد المسلم بحيث يجعل الطفل الصغير يتحمل مسؤوليته، وبالتالي يُسأل عن هذه المسؤولية وهو صغير، لا يعاقب، ولكن يربى على هذه المسؤولية.