في إطار سعيها إلى تطوير الصناعة المالية الإسلامية وبناء الجسور بين الفقه والاقتصاد عبر استشراف آفاق جديدة في مجال العمل المالي والتأصيل الفقهي للنوازل في المعاملات المالية عقدت شركة شورى للاستشارات الشرعية: مؤتمر شورى الفقهي السادس وذلك في 30 محرم-1صفر1436هـ الموافق 16-17 نوفمبر2015م، في فندق ريجينسي بدولة الكويت.
المؤتمر برعاية محافظ بنك الكويت المركزي، واجتمع فيه كبار علماء الشريعة والخبراء في المعاملات المالية الإسلامية من مختلف انحاء العالم، بالإضافة الى العديد من علماء الاقتصاد والقانون وقيادي المؤسسات المالية الاسلامية. وناقشوا الموضوعات التالية:

•تطبيقات العمل بقاعدة سد الذرائع وضوابطها الشرعية في المعاملات المالية المعاصرة.
•نظرة جديدة في التكييف الفقهي لأسهم شركات المساهمة.
•تطوير المشاركة المتناقصة.

الدراسة المقدّمة من الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ د. علي القره داغي في المؤتمر:

قاعدة سدّ الذرائع
 
وتطبيقات العمل بها في المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة
 
دراسة فقهية تأصيلية تطبيقية –
 
بقلم
أ . د . علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ونائب رئيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث
 
  الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين  ، وبعد
   فقد استقرت الآراء ، واستقرئت نصوص الشريعة ، على أنها نزلت لإصلاح الإنسان ومصالحه في الدنيا والآخرة ، ولتحقيق العدالة ، والرحمة ، والسعادة ، والخير له فقال تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً )[1].
 لذلك يجب أن تكون الفتاوى والقرارات ، والمنتجات المالية (وغيرها) محققة للمصالح والمنافع والطيبات (بجميع أنواعها) ودارئة للمفاسد ، ومانعة من الأضرار والخبائث (بجميع أنواعها) فقال تعالى في وصف رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )[2] . 
 ومن هنا يأتي الحديث عن سدّ الذرائع أو فتحها ، وفي نظري أن كون الفتوى وسيلة لتحقيق الصلاح وفتح آفاق المصالح ، وسداً لذرائع الفساد ، ووسيلة لدرء المضار والخبائث محل اتفاق في الجملة ، وأن الخلاف هو في التفاصيل والجزئيات ، أو في كون سدّ الذريعة دليلاً مستقلاً .
 ونحن هنا في هذا البحث لن نخوض في غمار التفاصيل ، وإنما نركز على التطبيقات العملية وفقاً للخطة المرسلة إلينا من (مؤتمر شورى الفقهي) .
وبناء على ذلك فإن البحث يتكون من مبحثين:
المبحث الأول : التعريف بسد الذرائع وفتحها ، وضوابطهما بصورة موجزة .
والمبحث الثاني : التطبيقات العملية لقاعدة سدّ الذرائع في المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة .
ثم الخلاصة مع بيان الحل الجذري لمنع الحيل وسدّ الذرائع المفضية إلى الفساد ، مع التوصيات والبدائل.
والله تعالى أسأل أن يلهمنا الصواب ، ويعصمنا من الزلل والخلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
   كتبه الفقير إلى ربه
                                                                       علي محيى الدين القره داغي
 
 
المبحث الأول : التعريف بسدّ الذرائع وفتحها ، مع ضوابطهما بإيجاز : 
 
تعريف سدّ الذرائع:
يراد بـ ( سدّ ) – في اللغة – المنع ، وبالذرائع : الوسائل المادية والمعنوية التي يتوصل بها إلى شيء ما ، وبالتالي فهي في اللغة شاملة لجميع أنواع الوسائل والأسباب المؤدية إلى خير ، أو شرّ ، حق أو باطل ، حلال أو حرام ، إحياء أو إماتة[3].
 
وفي الاصطلاح :
الذرائع في اصطلاح جمهور علماء الأصول والفقه لا يختلف كثيراً عن معناها اللغوي سوى أنها مقيدة بالوسائل التي يسلكها المكلف باختياره للوصول إلى تحقيق مصلحة ، أو مفسدة[4].
 وبناء على ذلك فإن الذرائع إذا كانت مؤدية إلى مصلحة تكون واجبة ، أو مستحبة ، أو مباحة (حسب القوة) وأما إذا كانت مؤدية إلى فساد ، ومضرة وخبث فتكون محرمة ، أو مكروهة (حسب القوة).
 ولكن العلماء السابقين أولوا عنايتهم القصوى بسد الذرائع (أي المؤدية إلى المفاسد) وذلك لأن الذي يحتاج إلى التفصيل هو المحرم ، وقد تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)[5] ، أما غيره فيبقى على أصل الاباحة .
 
الأدلة :
 دلت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة على أن سدّ الذرائع المؤدية إلى المفاسد والمضرات والخبائث ، وفتح الذرائع المؤدية إلى المصالح والمنافع والخيرات مطلوبان شرعاً .
 فمن الكتاب قوله تعالى : (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)[6] ، فقد ذكر المفسرون أن المسلمين كانوا يسبون أصنام الكفار فيسبّ الكفار الله تعالى عدواً بغير علم ، فنهاهم عنه[7] ، فالآية تدل بوضوح على أن الوسيلة المشروعة إذا أدت إلى نتيجة غير مشروعة تكون منهياً عنها.
 يقول الزمخشري : ( فإن قلت : سبّ الآلة حق وطاعة ، فكيف صحّ النهي عنه ، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت : رب طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها ، لأنها معصية ، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر هو من أجل الطاعات ، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب معصية ووجب النهي عن ذلك كما يجب النهي عن المنكر)[8].
 وقال الخفاجي : ( إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وكانت سبباً لها وجب تركها ، بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها) [9].
 ومن السنة النبوية الشريفة ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم أن عمر بن الخطاب طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل رأس النفاق عبدالله بن أبي سلول ، فقال صلى الله عليه وسلم : (دَعْهُ لا يتحدث الناس ان محمداً يقتل أصحابه )[10] .
 ومنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه! قالوا : يا رسول الله ، وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسبّ الرجل أبا الرجل ، فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه فيسبّ أمه) [11].
ومنها الحديث الخاص بعدم إعادة البناء للكعبة[12] .
ومنها الأحاديث الخاصة بمنع الجمع بين سلف وبيع ، وغيرها.
 
آراء الأصوليين في سدّ الذرائع :
 يظهر مما يقوله بعض علماء الأصول قديماً وحديثاً أن الخلاف جوهري بين الأصوليين والفقهاء في حجيّة (سدّ الذرائع) ولكن عند تحرير محل النزاع يظهر لنا ما يأتي :
 أن هناك أمثلة كثيرة لسدّ الذرائع وردت في الكتاب والسنة مثل النهي عن سبّ الأصنام ، وعدم إعادة بناء الكعبة ، وعدم قتل المنافقين ، وغيرها بالاضافة إلى المقدمات الممنوعة لأجل أنها وسائل تؤدي إلى المحرمات فهذه كثيرة جداً.
 فكل هذه الأمثلة هي محل الاتفاق بين الفقهاء ، وإنما الخلاف في أن سدّ الذرائع هل يعدّ دليلاً وأصلاً وحجة فيما إذا لم يوجد دليل آخر من الكتاب والسنة والاجماع والقياس؟ فذهب المالكية والحنابلة إلى أنه دليل وأصل ، في حين ذهب الحنفية والشافعية إلى نفي ذلك[13].
 والتحقيق أن جميع الفقهاء – ما عدا الظاهرية الذين وقفوا عند ظاهر النصوص – قالوا بسدّ الذرائع من حيث الجملة ، وإنما الفرق بينهم من حيث الكثرة والغلبة ، ومن حيث كونه دليلاً وأصلاً عاماً ، يقول القرافي: (وأما الذرائع فقد أجمع العلماء على أنها ثلاثة أقسام : أحدهما معتبر إجماعاً كحفر الآبار في طريق المسلمين ، وثانيهما ملغي إجماعاً ، كزراعة العنب ، فإنها لا تمنع خشية الخمر ، وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال ، اعتبرنا نحن الذريعة فيها ، وخالفنا غيرنا ، فحاصل القضية : أننا قلنا بسدّ الذرائع أكثر من غيرنا ، لا أنها خاصة بنا) [14] ، ولذلك قال الشيخ أبو زهرة : ( إن العلماء جميعاً يأخذون بأصل الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم) [15] .
 وذكر ابن القيم توجيهاً لطيفاً فقال : ( وباب سدّ الذرائع أحد أرباع التكليف ، فإنه أمر ، ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما مقصود لنفسه ، والثاني وسيلة إلى المقصود ، والنهي نوعان : أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه ، والثاني : ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سدّ الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين) [16].
 ويقول أيضاً : (ولما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضى إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها ، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود ، لكنه مقصود قصد الغايات ، وهي مقصود قصد الوسائل ، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي اليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعاً ان يقرب حماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية اليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به ، وحكمته تعالى وعلمه يأبي ذلك كل الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده وكذلك الاطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه والا فسد عليهم ما يرومون اصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها ، والذريعة : ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء )[17].
 
 
 أنواع الذرائع وموقف العلماء منها :
 
والذرائع هي الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى مصلحة أو مفسدة .
وهي – سواء كانت قولاً أو فعلاً أو نحوهما – تقسم إلى ثلاثة أنواع :
 
النوع الأول : أن تكون الذريعة موضوعة للإفضاء إلى الفساد أصلاً مثل شرب الخمر التي تؤدي إلى مفسدة السكر والإضرار بالعقل ونحوه ، والقذف المفضي إلى مفسدة الافتراء والاعتداء على العرض ، والزنا المؤدي إلى اختلاط الأنساب ، وفساد الفراش ، فهذه يجب سدّها بالإجماع ، وإن فتحها حرام[18].
 
النوع الثاني : أن تكون الذريعة مفضية إلى صلاح ، وموضوعة له باليقين ، أو الظن الغالب مثل العلم الموصل إلى معرفة الحلال والحرام ، وأركان الإسلام والإيمان ، وإطعام المضطر ، والمحتاج ، واستعمال وسائل البقاء والنمو والتنمية والتعمير ، والتطوير على مستوى الأفراد ، والمجتمع والأمة .
 فهذه الذرائع يكون فتحها واجباً ، أو مندوباً ، أو مباحاً حسب درجة ما تفضي إليه من حيث القوة والضعف ، يقول القرافي : ( اعلم أن الذريعة كما يجب سدها ، يجب فتحها ، ويكره ، ويندب ويباح..) [19].
 
النوع الثالث : أن تكون الذريعة موضوعة – من حيث الظاهر – للإفضاء إلى أمر جائز ومستحب ، ولكنها تتخذ وسيلة إلى الحرام إما بقصد مثل أن يعقد نكاحاً قاصداً به التحليل ، أو بيعاً ( العينة ) قاصداً به الربا ، أو بغير قصد كمن يصلي بين يدي القبر لله تعالى .
 
وهذا النوع يتفرع منه قسمان :
القسم الأول : أن يكون الإفضاء إلى المفسدة هو الغالب الراجح مثل بيع العنب لمن يتخذه خمراً ، وبيع السلاح في وقت الفتنة ، او لمن عرف حسب الظن الغالب أنه يستعمله في الحرام ، مثل القتل ، أو الاغتصاب ، أو السرقة ، أو نكاح التحليل ونحوها ، فهذا محل خلاف بين الفقهاء فذهب الأكثرية إلى الحرمة بناء على هذه المفسدة الظاهرة ، او بناء على النيات والقصود[20].
 وذهب آخرون إلى الاعتماد على الظاهر مثل ظاهر العقد الذي توافرت فيه أركانه وشروطه وقالوا : علينا بالظاهر والله يتولى السرائر.
 وهذه المسألة مرتبطة أيضاً بمدى تأثير النيات والقصود  ، وقد أطال ابن القيم النفس في هذا القسم ورجح القول بحرمة كل ما يؤدي إلى الحرام ، وذكر لذلك أمثلة كثيرة[21].
 
القسم الثاني : ان يكون الإفضاء إلى المفسدة غير راجح بحيث يكون الإفضاء إليها ضعيفاً مرجوحاً ، ففي هذه الحالة ينظر إلى بقية الأدلة والمبادئ ، والقواعد فإذا لم نجد فيها ما يقوّي القول بالحرمة أو الكراهة يبقى الأمر على الاباحة العامة ، وقد يصححها القول بالكراهة إذا ساندها بعض الأمور.
 وأما إذا كان الإفضاء مؤدياً إلى المصلحة الراجحة فهذا داخل في النوع الثاني الذي ذكرناه ، فالمفتي يجب عليه أن يحيط علماً وحرصاً وتطبيقاً وفقهاً بمسائل الذرائع حسبما ذكرنا ، حيث تعتورها الأحكام الشرعية التكليفية ، والوضعية.
 
خطورة المبالغة في سدّ الذرائع أو في فتحها :
 والذي يجب أن ينتبه إليه المفتي هو خطورة المبالغة في سد الذرائع أو فتحها ، وذلك لأن الذرائع هي عملية اجتهادية قائمة على المصالح المرسلة التي قد تتغير من زمن إلى زمن ، كما أن في اعتبارها ذريعة للفساد – مثلاً – يدخل فيه تقدير الإنسان ، وتصوره ، وأن الإنسان مهما بلغ فلا يحيط علماً بالمفسدة أو المصلحة المرسلة ، ولا بآثارها المستقبلية .
 فقد يظن الإنسان أن شيئاً ما يؤدي إلى مفاسد ، أو انه يؤدي إلى مصالح ، ثم يتبين العكس ، وقد يعيش المفتي في حالة فتنة في بلد ما ، او حالة خاصة به ، أو مضطربة ، فيتأثر بها فيفتي في ضوئها بالحرمة ، ثم يظهر خطأ ذلك وآثاره بوضوح أو بالعكس ، وهذا يتطلب من المفتي الاحتياط الأكبر ، وإعمال المشورة مع أهل الذكر في الآثار الناجمة عن تلك الذريعة حتى تكون فتواه مدروسة دراسة كافية .
 فمثلاً ظهرت بعض الفتاوى قديماً وحديثاً بمنع النساء عن حضور المساجد للجمعة والجماعات والوعظ بحجة الخوف من الفتنة ، فقد روى مسلم وأحمد وغيرهما بسندهم أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما  هجر ابناً له إلى أن مات ، لأنه لم يسمع لحديث ذكره : ( أن الرسول صلى الله عليه نهى فيه الرجال : أن يمنعوا النساء من الذهاب إلى المساجد حيث قال : ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يمنعنّ رجل أهله ان يأتوا المساجد ) فقال ابن لعبدالله بن عمر : ( فإنا نمنعهنّ ، فقال : أحدثك عن رسول الله ، وتقول هذا ) وفي رواية صحيحة لأحمد بلفظ ( فما كلمه حتى مات ) [22].
 ولا يزال باب سد الذرائع مفتحاً على مصراعيه في معظم ما يتصل بالمرأة ، ولذلك ألف الأستاذ عبدالحليم شقة موسوعة سماها ( تحرير المرأة في عصر الرسالة ) وخصص لها من عمره ما يربو على خمس عشرة سنة يجمع مادتها من صحيحي البخاري ومسلم ، ويؤصلها ، حتى أصبح موسوعة عظيمة من عدة مجلدات ، وقد زكى هذا العمل فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فقال في مقدمته : ( وددت لو أن هذا الكتاب ظهر من عدة قرون ، وعرض قضية المرأة في المجتمع الإسلامي على هذا النحو الراشد ، ذلك أن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء ، وشاعت بينهم روايات مظلمة ، واحاديث إما موضوعة ، أو قريبة من الوضع انتهت بالمرأة إلى الجهل الطامس والغفلة البعيدة عن الدين والدنيا معاً ، وهذا الكتاب يعود بالمسلمين إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم دون تزيد ولا انتقاص ، إنه كتاب وثائق… ) ، وكذلك زكى الكتاب الشيخ يوسف القرضاوي فقدمه بمقدمة في حدود ثماني عشرة صفحة ختمها بقوله : ( وفي الختام أستطيع أن أذكر أن هذا الكتاب بما احتوى من نصوص ثابتة ونقول صادقة ، وشواهد نيّرة ، وتطبيقات ناضجة قد أضاف إلى المكتبة الإسلامية إضافة لها وزنها وأصالتها ، وقد يخالف في بعض الجزئيات بعض الناس … ولكن روح الكتاب وجوهره لا يمكن أحداً أن يمارى فيه) [23].
والكتاب رد عملي مدعم بالأدلة المعتبرة على من يوسع دائرة سد الذرائع على المرأة دون دليل .
 
فتح الذرائع إلى المصالح :
 إذا تبين للمفتي أن الوسيلة تؤدي إلى تحقيق المصالح دون موانع شرعية ، مثل أن لا تتعارض مع نص شرعي ، ولا مصلحة أكبر منها ، فإذن هذه الوسيلة مقبولة شرعاً ، للأدلة الدالة على أن الأصل في الأشياء الاباحة.
 
شروط العمل بسدّ الذرائع :
من أهم شروط العمل بسد الذرائع ما يأتي :
1- أن يكون إفضاء الذريعة إلى المفسدة باليقين ، أو الظن الغالب ، وأن يكون ذلك كثيراً ، فلا عبرة بالشكوك ، ولا بالندرة ، بل يجب للقول بالحرمة أن تكون مفسدتها راجحة وكثيرة ، لأن الأصل في الأشياء الاباحة.
2- أن تكون المفسدة التي تفضي إليها الذريعة أرجح من مصلحتها ، وليست مجرد مفسدة مرجوحة أو موهومة.
ومن المعلوم شرعاً أن عدّ الشيء مفسدة ومضرة وخبثاً يعود إما إلى نص شرعي صحيح وصريح ، أو إلى أهل الذكر والاختصاص ، فلا يجوز أن تصدر الفتوى إلاّ بعد تحقق العلم بمحل الفتوى والاحاطة به وبآثاره ومآلاته .
3- أن يتم الأمران السابقان من خلال دراسات علمية وبينات ، وليس عن طريق التخمين والتقرير .
4- أن يكون الحكم الشرعي وفق المفسدة ، فإن كانت يقينية وقوية فيمكن أن يذكر لها التحريم ، وإلاّ فكراهة التحريم ، أو الكراهة حيث لا يجوز القول بالحرمة في جميع الأحوال ، بل الأفضل والأحوط عدم إطلاق التحريم إلاّ فيما ثبت بنص صريح ، وإلاّ فالأمور الاجتهادية يجب أن يدور حكمها بين كراهة التحريم والكراهة .
 
أسباب التوسع في دائرة سد الذرائع :
والسبب في التوسع في دائرة سد الذرائع هو ما يأتي :
الجهل بمقاصد الشريعة من التيسير والتخفيف ورفع الحرج ما أمكن إلى ذلك سبيلاً ما لم يكن هناك دليل صريح على الحرمة والحظر .
الجهل بالمبادئ والأصول القاطعة بان الأصل في الأشياء الإباحة ، وأن التحريم لا يثبت إلاّ بدليل صحيح صريح .
الغفلة عن شروط إعمال سد الذرائع التي ذكرناها آنفاً .
الحساسية المفرطة من النساء وسوء الظن بهنّ ، والتوسع في دائرة فتنة النساء بصورة خاصة ، والفتنة بصورة عامة .
التوسع في دعوى فساد الزمان ، والبناء عليها كثيراً .
 
العلاقة بين الذرائع والحيل :
 سبق تعريف الذرائع ، وأما الحيل فبإيجاز شديد : هي الطرق الخفية المفضية إلى غرض غير مشروع فتكون حيلة غير مشروعة ، أو إلى غرض مشروع فتكون مشروعة .
وعند إطلاقها لدى الفقهاء يراد بها : الطرق التي يتوصل بها إلى إباحة المحرمات ، أو ترك الواجبات ، كحيل اليهود ، وحينئذ تكون مذمومة وقبيحة (على تفصيل لا يسع البحث بالخوض فيها) [24].
 والعلاقة بين الذرائع التي يجب سدّها وبين الحيل المحرمة علاقة تلازم في معظم الحالات ، حيث عندما تحدث الأئمة الكرام عن الحيل ، أو الذرائع ربطوا بينهما ربطاً محكماً أمثال ابن تيمية ، وابن القيم ، والشاطبي ، ويمكن أن نفهم من كلامهم ان العلاقة هي علاقة العموم والخصوص من وجه ، أي أنهما يلتقيان عندما تكون الذريعة مفضية إلى محرم بقصد مثل بيوع الآجال ، وبيع العينة ونحوها.
 وتتحقق الذريعة دون الحيلة عندما لا يكون هناك قصد مثل سبّ الأصنام ، وسبّ والد شخص آخر ، إذ لا يقصد السابّ أن يترتب على سبّ الأصنام سبّ الله تعالى ، أو سبّ والد الشخص السابّ.
وتتحقق الحيلة عندما لا تكون في الحيلة وسيلة مفضية.
 فقد صرّح ابن تيمية باشتراط القصد في الحيلة دون الذريعة فقال : ( والغرض أن الذرائع حرّمها الشارع وإن لم يُقصد بها محرّم ، خشية إفضائها إلى المحرّم ، فإذا قصد بالشيء نفس المحرّم كان أولى بالتحريم من الذرائع)[25].
 وسار على هذا النهج ابن القيم ، ولكنه جعل الذرائع تابعة للحيلة ، وأن وجوب سدّ الذرائع يناقض القول بالحيل ، لأن الشارع يسدّ الطريق إلى المفاسد بكل ممكن ، والمحتال يفتح الطريق إليها بكل حيلة ، ثم ذكر أن مدار الخداع على أصلين هما : إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له ، وإظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له ، وكلا الأصلين يدل على القصد[26].
 ولا يختلف منهج الشاطبي في الذرائع ، والحيل عما سبق حيث يفهم منه أن العلاقة بينهما عموم وخصوص من وجه ، إذ يشترط القصد في الحيلة ، ولا يشترط في الذريعة ، ولكن الشاطبي حصر الحيلة في العقود خاصة ، والذريعة أعم ، وضرب لذلك مثلاً ببيع المال  البالغ نصاباً في أثناء الحول فراراً من الزكاة[27].
 ولكن هذا الفرق غير مسلّم ، بل هنا اجتمع القصد في الوسيلة المفضية إل ترك واجب (أي الزكاة) فتجتمع فيها الحيلة والذريعة .
 
العلاقة الحكميّة بينهما :
 تبين مما سبق أن العلاقة قوية بين سدّ الذرائع المفضية إلى المحرمات ، والحيل المؤدية إلى إسقاط المحرمات وترك الواجبات.
 وبناء على ذلك فإن القول بسدّ الذرائع المحرمة يفضي إلى القول بسدّ أبواب الحيل المحرمة قطعاً ، كما أن فتح أبواب الذرائع المؤدية إلى المباحات أو الواجبات يؤدي إلى فتح أبواب الحيل المشروعة.
 
ضوابط العمل بقاعدة سدّ الذرائع حسب الفتاوى الجماعية:
فقد صدرت قرارات من المجامع والمؤتمرات الفقهية ، ذكرت ضوابط العمل بقاعدة سدّ الذرائع ، نذكر أهمها :
أولاً – قرار رقم 92(9/9) الصادر من مجمع الفقه الإسلامي الدولي ، هذا نصه :
(إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 – 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 – 6 نيسان (إبريل)  1995م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع سد الذرائع، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:
1- سدّ الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات.
2- سدّ الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط، وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام.
3- سدّ الذرائع يقتضي منع الحيل إلى اتيان المحظورات أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى دون الثانية.
4- والذرائع أنواع:
الأولى: مجمع على منعها: وهي المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، أو المؤدية إلى المفسدة قطعاً أو كثيراً غالباً، سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أم واجبة. ومن هذا النوع العقود التي يظهر منها القصد إلى الوقوع في الحرام بالنص عليه في العقد.
والثانية: مجمع على فتحها: وهي التي ترجح فيها المصلحة على المفسدة.
والثالثة: مختلف فيها: وهي التصرفات التي ظاهرها الصحة، لكن تكتنفها تهمة التوصل بها إلى باطن محظور، لكثرة قصد ذلك منها.
5- وضابط إباحة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادراً، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
وضابط منع الذريعة: أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة – قطعاً – أو كثيراً أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة. والله أعلم)[28].
 
ثانياً – قرار مؤتمر شورى الفقهي الخامس للمؤسسات المالية الإسلامية المنعقد في دولة الكويت في الفترة 16-17 ديسمبر2013 ، نص على 🙁 أن سد الذريعة أصل من أصول الشريعة ، وأن ضوابط العمل به أربعة:
الضابط الأول: أن تقوى التهمة ويكثر القصد، – بحسب القرائن والأحوال – إلى لتوصل بما هو مشروع إلى ما هو محظور.
الضابط الثاني: أن لا يعارض العمل بقاعدة سد الذرائع حاجة ماسة، عامة كانت أم خاصة.
الضابط الثالث: أن لا يعرض العمل بها مصلحة راجحة.
الضابط الرابع: أنه في حال عدم تحقق ما يقتضي العمل بقاعدة سد الذرائع أو زوال المعنى الباعث على وجوب العمل بها، يرجع إلى استصحاب الأصل وهو الإباحة الأصلية).
 
 
المبحث الثاني : تطبيقات العمل بقاعدة سدّ الذرائع في المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة:

تمهيد

 فقد وضع قرار رقم (92(9/9) لمجمع الفقه الإسلامي الدولي ضابطاً مهماً ، وأكده قرار مؤتمر شورى الفقهي الخامس للمؤسسات المالية الإسلامية، حيث نص قرار المجمع على أن : (وضابط إباحة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادراً، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.

وضابط منع الذريعة: أن يكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة – قطعاً – أو كثيراً ، أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة. والله أعلم)[29].

ونحن نحاول أن نربط التطبيقات المعاصرة بهذا الضابط الخاص بإباحة الذريعة ، أو الخاص بمنعها.

 ونقسم هذا المبحث إلى فرعين :

الفرع الأول : التطبيقات الفقهية القديمة

الفرع الثاني : بعض التطبيقات المعاصرة القائمة على الحيل والمتعارضة مع قاعدة سدّ الذرائع في بعض المؤسسات المالية الإسلامية .

 
الفرع الأول : التطبيقات الفقهية القديمة:
 
تمهيد
 إن من الجدير التنبية عليه هنا أن التوسع في التطبيقات الفقهية (قديماً وحديثاً) أو التضييق فيها يعود إلى أحد المنهجين الفقهيين السابقين ، وهما : منهج الاعتماد على النيات ، والإرادة الباطنة ، وهذا ما تبنّاه المالكية ومن معهم من الفقهاء الذين وسعوا في باب سدّ الذرائع ، ومنهج الاعتماد على الإرادة الظاهرة الذي تبنّاه الشافعية ومن معهم من الفقهاء والقائم على التضييق في دائرة سدّ الذرائع[30] .
 ونحن هنا نذكر بعض التطبيقات القديمة لتكون لنا عوناً في فهم التطبيقات المعاصرة ، ولكن نذكرها بإيجاز دون الخوض في التفاصيل الفقهية من حيث ذكر الآراء الفقهية والمقارنة المقتضية لذكر الأدلة والمناقشات ثم الترجيح ، وإنما نذكر شيئاً من التفصيل في بعض التطبيقات المعاصرة.
 
بعض التطبيقات الفقهية القديمة (بإيجاز) :
(1) بيوع الآجال التي تكون ذريعة للربا، ويدخل فيها بيع العينة عند المالكية والحنفية ، والحنابلة الذين حرموه وقالوا ببطلانه ، خلافاً للشافعية على تفصيل ، وكذلك بيع التورق العادي عند بعض الفقهاء[31].
وقد توسع المالكية في فروع بيوع الآجال ، وبيع الديون ، وفسخ الديون ، وقلبها حتى وصلت مسائلها إلى ألف مسألة[32].
(2) نكاح المحلل ، حيث ذهب إلى صحته الحنفية والشافعية والظاهرية، في حين ذهب إلى بطلانه المالكية والحنابلة والزيدية[33] .
(3) الجمع بين القرض والبيع في صفقة واحدة – كما سبق – .
(4) حظر المقرض من قبول هدية المقترض لدى جماعة من الفقهاء[34].
(5) حظر بيع السلاح في الفتنة[35] .
(6) بيع العنب لمن يتخذه خمراً عند جمع كبير من الفقهاء[36].
(7) تحريم قضاء القاضي بعلمه عند الحنفية ومن معهم[37] .
 
(8) منع شهادة الخصم ، والمتهم[38] ، والآباء للأبناء ، والأبناء للآباء[39].
(9) حرمة بيع النصاب في الزكاة ، أو هبته ، أو إنقاصه قب لحولان الحول ؛ هروباً من دفع الزكاة.
(10) حرمة صيام يوم الشك لمن لم يكن صيامه من عادته[40]وهو منصوص عليه في الأحاديث الصحيحة.
(11) الحداد على البائن والمتوفى عنها زوجها بترك الطيب والزنية والكحل ، والدهن إلاّ من عذر خلال فترة العدّة ، حتى نص الحنفية في سبب المنع على أن : ( تجنبها كي لا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرّم وهو النكاح) [41].
(12) منع تبرع المريض في مرض الموت بما زاد عن ثلث ماله وعدم إلزامه ونفاذه إلاّ بإذن الورثة عند جمهور الفقهاء ، وتقديم إقراره بالدين في حالة الصحة على إقراره في حال مرضه مرض الموت[42].
(13) كراهية الشراء ممن يرخص في سلعته لمنع الناس من الشراء من جاره ، أو في سوقه[43].
(14) تضمين الأجير المشترك عند جمهور الفقهاء لأن القول بعدم ضمانه يؤدي إلى ضياع الأموال التي يعدّ الحفاظ عليها من مقاصد الشريعة[44].
(15) عدم لزوم إقرار المجور عليه بدين لزمه قبل الحجر في حق الغرماء ، لأنه قد يتخذ ذريعة إلى التصرف بأمواله عن تواطء ، عند جماعة من الفقهاء منهم الشافعية[45].
(16) حرمان القاتل من الإرث ، ومن الوصية ، وهذا عند جماهير الفقهاء[46].
(17) ترجمة معاني القرآن الكريم وأركان الاسلام وشريعته إلى اللغات الأخرى.
 
 فهناك أمثلة كثيرة نكتفي بما ذكرناه حيث تدل على أنها واسعة منها المنصوص عليها في الكتاب والسنة ، ومنها ما ذكره الفقهاء.
 
 
الفرع الثاني : بعض التطبيقات المعاصرة القائمة على الحيل والمتعارضة مع قاعدة سدّ الذرائع في بعض المؤسسات المالية الإسلامية :
 إن المؤسسات المالية الإسلامية (من مصارف ، وشركات التأمين التكافلي ، والتمويل ، والإجارة ، والاستثمار…ال ) قد أسست لتحقيق مجموعة من الأغراض والمقاصد ، من أهمها :
1- تحقيق العبودية لله تعالى في مجال الاقتصاد والمال من الالتزم بأحكام الشريعة ومبادئها ، ومقاصدها ، وأخلاقياتها ، ورفع الحرج الشرعي عن المؤمنين ، والمساهمة في بناء اقتصاد إسلامي حقيقي متميز نظرياً وتطبيقياً يكون له دوره في النهوض بالأمة ، وترسيخ روح التكافل والتعاون ، والتوزيع العادل وإعادته بالقسط.
2- المساهمة في التنمية الشاملة للإنسان : داخله وخارجه ، والتنمية الاقتصادية ، والاجتماعية ، والتشريعية ونحوها.
3- جمع المدخرات من أصحاب الأموال الكبيرة والصغيرة واستثمارها استثماراً مشروعاً ، وتوفير التمويل اللازم للمشروعات النافعة ، وتقديم الخدمات المصرفية المطلوبة للمتعاملين معه.
4- توفير خدمات التأمين التكافلي لتحقيق التعاون والتكافل وتفتيت المخاطر .
 تلك هي أهم المقاصد الشرعية المرجوة من إنشاء المؤسسات المالية الإسلامية ، وهي في جورهاه تتعارض مع الحيل ، والذرائع المفضية إلى الحرام.
 
ومن أهم التطبيقات التي تتهم بأنها تقوم على الحيل ، أو أنها ذرائع إلى المحرمات حسب الظن الغالب ما يأتي :
 
الموضوع الأول : المرابحات عن طريق أسواق السلع والمعادن الدولية سواء كانت في لندن ، أو دبي أو غيرهما ، حيث إن التعامل فيها وفقاً للمرابحة الدولية لا تتجاوز الأوراق التي ينظمها الوسيط (البروكر) في الغالب الأكثر.
 حيث تجري عمليات المرابحات في المعادن ، وبخاصة الألمنيوم ، والنحاس ونحوهما ، وتجري عن طريق السماسرة في بورصات السلع الدولية وبخاصة بورصة لندن للمعادن ، وبورصة شيكاغو ، والآن وجدت بورصتا دبي ، وماليزيا.
 
 وأهم مميزاتها :
أ- أن هذه المرابحات تجري على معادن غائبة ، وبيع الغائب محل خلاف أجازه جماعة من الفقهاء .
ب- تقوم على عقد الوكالة .
ج- تمنح شهادات المخزون بأن السلعة متوافرة في المستودع الفلاني.
د- مؤجلة الثمن .
 
المشاكل الفقهية :
هذه الأمور كلها يمكن قبولها ، ولكن المشكلة الكبرى هي أن نظام البورصة العالمية في هذا المجال يقوم على أن من يتعامل معها فئتان :
الفئة الأولى : (وهي الأقل) تشتري السلع لاستهلاكها أو استعمالها كمن يشتري النحاس لاستعماله في صناعة الأسلاك الكهربائية مثلاً.
الفئة الثانية : وهم المضاربون (المجازفون) حسب عرف البورصة (وهم الأكثرية) يشترون المعادن ، ويبيعونها مباشرة ، فهؤلاء يشترط عليهم في العقود : أن لا قبض ، لأنه تترتب عليه مخاطرة في نظرهم ، وإنما للمشتري الحق في بيعها إلى طرف آخر[47].
 
(1) اشتراط عدم القبض :
 وهذا الشرط يتعارض مع مقتضى عقد البيع ، لأن من شروط صحته القدرة على تسليم المعقود عليه ، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان[48]، وثبت بالاجماع على منع بيع الكالئ بالكالئ[49] ، وللسبب نفسه حرّم الله الميسر ، يقول ابن تيمية : (.. لأنه عقد وايجاب على النفوس بلا حصول مقصود لأحد الطرفين ، ولا لهما ، ولهذا حرّم الله الميسر الذي منه بيع الغرر، ومن الغرر ما يمكن قبضه وعدم قبضه ، والدواب الشاردة لأن مقصود العقد وهو القبض غير مقدور عليه) [50].
 وقد صدر قرار رقم (63(1/7) من مجمع الفقه الاسلامي الدولي في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7-12 ذي القعدة  1412 الموافق 9 – 14 أيار (مايو) 1992م ، نص على اشتراط أن يكون محل العقد سلعة موجودة وأن يتضمن حق تسليم المبيع ، ونص كذلك على أنه : (لا يجوز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها) بل نص على : (الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس. وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً)[51].
 ثم أكد المجمع في دورته السادسة عشرة بدبي (دولة الإمارات العربية المتحدة) 30 صفر – 5 ربيع الأول 1426هـ، الموافق 9 – 14 نيسان ( إبريل ) 2005م ، كلَّ ما قرره في الدورة السابعة والدورة السادسة عشرة مع إضافات أخرى.
 
(2) ربط الثمن بمؤشر معين مثل لايبور، وله حالتان :
الحالة الأولى : ربطه بمؤشر معين مثل لايبور لمعرفة نسبة الرح فقط فهذا لا مانع منه .
الحالة الثانية : ربطه بأن يتم البيع أو الشراء بثمن محدد في أساسه ومتحرم في جملته ، وذلك بأن يربط بمؤشر معين ، حيث تحدث هذه الحالة عندما تكون المدة طويلة ، ويخاف أحد الطرفين من تغير أسعار الفائدة نزولاً أو هبوطاً ، وذلك بأن يبيع له البضاعة برأس مالها المدفوع فلنفترض مليون دولار ، مع ربح سنوي مرتبط بمعدل الفائدة (لايبور) فهذا يحدث جهالة كبيرة وغرراً فاحشاً منهياً عنه[52].
 
(3) عدم ذكر مكان التسليم ، وهذا ما يحدث في المرابحات الدولية لأن القبض غير موجود ، بل غير ممكن بسبب الشرط ، وهذه مخالفة أخرى .
 
(4) إهمال شرط الحق في الحصول على الشهادة الأصلية للمخزون ، وهذا يحدث كثيراً إذ لا يذكر في العقد شرط الحق في الحصول على شهادة المخزون الأصلية ، وهي الشهادة القانونية الوحيدة لوجود السلعة المحددة ، بل يكتفون بصورة منها ، وقد لاحظنا إرسال هذه الصور لأكثر من بنك في وقت واحد ، وهذا يؤدي إلى احتمالية بيع السلعة على الأوراق لأكثر من شخص في وقت واحد.
 وأدهى من ذلك فإنه قد يشترط على البنك عدم الحق في المطالبة بشهادة المخزون الأصلية ، أو حتى صورتها ، وهنا تكمن الكارثة الكبرى الموغلة في الصورية والتحايل ، وذلك لأن هذا يؤكد عدم وجود السلعة ، أو أنها مبيعة لطرف آخر.
 
 
ربط المرابحات الدولية بقاعدة سدّ الذرائع:
 رأينا في المرابحات الدولية بصورتها الراهنة هذه المخالفات ، والحيلة هنا تأتي من خلال العقود المرتبة في الظاهر أنها متوافرة الأركان والشروط ، وفي حقيقتها أن فيها مخالفات جوهرية .
 وسدّ الذرائع يأتي هنا بمنع التعامل عن طريق المرابحات الدولية للمضاربات ، وفي الأسواق العالمية للمعادن.
 
 
الموضوع الثاني : التورق المنظم الذي صدر بحرمته قرار مجمع الفقه الإسلامي  قرار رقم (179(5/19) ، نذكره بنصه :
(أولاً: أنواع التورق وأحكامها:
1-التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقداً بثمن أقل غالباً إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد. وهذا التورق جائز شرعاً، شرط أن يكون مستوفياً لشروط البيع المقررة شرعاً.
2-التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (المموّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالباً.
3-التورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل.
ثانياً: لا يجوز التورقان (المنظم و العكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤاً بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا.
ويوصي بما يلي:
(‌أ) التأكيد على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية باستخدام صيغ الاستثمار والتمويل المشروعة في جميع أعمالها، وتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة التزاماً بالضوابط الشرعية بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء، ويجلي فضيلة الاقتصاد الإسلامي للعالم الذي يعاني من التقلبات والكوارث الاقتصادية المرة تلو الأخرى.
(‌ب) تشجيع القرض الحسن لتجنيب المحتاجين للجوء للتورق. وإنشاء المؤسسات المالية الإسلامية صناديق للقرض الحسن. والله أعلم) [53].
 
وقد كتبت كتاباً حول التورق المصرفي بين التورق المنضبط والتورق المنظم ، فصلت فيه القول ورجحت فيه القول بجواز التورق العادي المنضبط ، وحرمة التورق المنظم غير المنضبط[54].
 
 
الموضوع الثالث : المرابحة العكسية التي صدر بحرمتها قرار مجمع الفقه الإسلامي (قرار رقم 179(5/19) وهو القرار الذي ذكرته في التورق المنظم ، حيث سماه المجمع : بالتورق العكسي فحرّمه أيضاً.
 
علاقة التورق المنظم والمرابحة العكسية بسدّ الذرائع والحيل والبُعد المقاصدي :
 إن التورق المنظم ، والمرابحة العكسية يتمان في الغالب الأكثر عن طريق المرابحات الدولية في سوق السلع والمعادن التي ذكرناها في السابق ، ولدى التعمق في هذين المنتجين نرى أنه لا تتوافر فيهما شروط البيع الصحيح ، كما أنهما لا تتحقق بهما مقاصد الشريعة من التنمية ، ومقاصد البيع من التسليم والتسلم ، والتبادل الحقيقي ، وإنما هما عقدان صوريان للوصول إلى الربا ، فهما ينطبق عليهما قول ابن عباس رضي الله عنهما : (بيع درهم بدرهمين بينهما حريرة)[55] ، وقد نص المجمع في قراره السابق رقم (197(5/19) على أن فيهما – أي التورق المنظم ، التورق العكسي – 🙁 تواطؤاً بين الممول ، والمستورق صراحة ، أو ضمناً ، أو عرفاً ، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة ، وهو ربا).
 ويزداد عقد المرابحة العكسية سوءاً وإشكالية من حيث يترتب عليه تحقيق الضمان حيث إن العميل يأتي إلى البنك ليضمن رأس المال والربح بَدَلَ الودائع الاستثمارية التي تقوم على المضاربة الشرعية ، وإذا استجاب البنك ، فإنه يقوم بعملية تورق منظم ، ومرابحة عكسية ، أي يكون البنك الآمر بالشراء ، والعميل يكون هو القائم بعملية المرابحة ، ويصبح الثمن الناقص حسب نسبة المرابحة ملكاً للبنك ، وأن العميل مقرض للبنك ، فمثلاً لو كان المبلغ مليون ريـال ، واتفق العميل والبنك على أن ربح العميل 10% مثلاً لمدة عام كامل ، حينئذ يقوم البنك نيابة عن العميل بشراء سلعة دولية بمبلغ مل