القره داغي:

انطلاقاً من مسؤولية العلماء، وضرورة القيام بالصلح والسعي الجاد لإزالة كل ما يثير الفتن أوجه البيان الآتي:

أولاً: أطالب بغداد وأربيل بوقف القتال والبدء بالحوار فوراً، فالحرب دمار ولا يمكن أن تهزم إرادة شعب رأى من الويلات والحروب طوال أكثر من نصف قرن، وبقي أقوى.

وأحذر من نشوة انتصار ظاهر تدفع إلى مزيد من القتال والتضحيات بين أبناء العراق الذين يجمعهم الدين والتأريخ والنضال المشترك ضد الظلم والاستبداد والإرهاب، فقال تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا  فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ  فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ  وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) } الحجرات:10-11{ .

ثانياً: أصدر هذه الفتوى بحرمة القتال بين المسلمين، وبخاصة من يقبل بالحوار، حتى ولو كان غير مسلم، فكيف بشعب مسلم في بلد واحد عاش مع إخوانه قروناً عدة، يجمعهم الإسلام، والتأريخ المشترك.

فالإصرار على الخيار العسكري استكبار وعلو في الأرض لا يقبل به الإسلام واعتداء صارخ، ومحاربة لإذلال شعب مسلم عزيز لا يقبل بالذل. وإن القبول بالدستور ينهي كل شئ يخالفه وبالتالي لماذا الإصرار على عدم القبول؟

لذلك أوجه ندائي إلى الحكومة العراقية بضرورة قبول مبادرة أربيل على أساس الدستور.

إن القبول والبدء بالحوار فريضة شرعية وضرورة وطنية، وحكمة تحمي المنطقة من المزيد من الدمار والخراب وويلات الحروب، قال تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) بل الصلح واجب بنص القرآن الكريم.

ومن المعلوم أن المبادرة لا يمكن ـــ حسب جميع الأعراف ـــ أن تتضمن كل الشروط للطرفين، وإنما بالحوار والمناقشات يتحقق الوصول إلى الحل الوسط، المقبول لدى الطرفين، ولا سيما فقد جعل الدستور حكماً بين الطرفين.

ومن المعلوم في هذا الدين العظيم أن من قتل مسلماً بدون حق أشد وأكبر عند الله تعالى من هدم الكعبة وأنه يستحق اللعنة، قال تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)} النساء:93{. والأحاديث الصحيحة وآثار الأئمة في ذلك أكثر من أن تحصى.

وهذه القضية أخطر من القتل المجرد بل هي إن حصلت فستؤدي إلى فتنة كبرى بين شعبين مسلمين تبقى آثارها الخطيرة المدمرة إلى زمن بعيد، قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)} البقرة:217{ .

كل العقلاء مستغربون من عدم القبول بالمبادرة التي تحقق ما تريده بغداد في ظل الدستور إن كانت القضية قضية الدستور.

وبناءً على ما سبق فإذا أصرت جهة من الجهتين على القتال مع قبول الجهة الأخرى بالحوار بل دعوتها إليه، فإن الجهة التي لم يقبل بالحوار وأقدمت على القتال هي جهة ظالمة معتدية، وأن من يقاتل في ظلها آثم ومشترك في الإثم والقتل، وأنه في النار، وأن الجهة التي قبلت بالحوار ولم يسمع لها بل قوتلت هي مظلومة ولها الحق في الدفاع عن النفس والعرض والمال، وإذا قُتل أحد من المؤمنين المدافعين فهو في الجنة كما ورد في الحديث الصحيح، حيث سأل شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال:" فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال:"قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال:"فأنت شهيد" قال:" أرأيت إن قتلتُه؟ قال:"هو في النار" رواه مسلم في صحيحه الحديث رقم (140).

وروى البخاري في صحيحه الحديث رقم (2480) ومسلم في صحيحه الحديث (141) وغيرهما بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل دون ماله فهو شهيد" وفي رواية أخرى ثانية بلفظ "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" رواه الترمذي في جامعه الحديث (51421) وأبو داود في سننه الحديث (4772) وفي رواية صححها ابن حبان في صحيحه الحديث رقم (24790) "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن ظلم من الأرض شبراً طوّقه الله من سبع أرضين"

وهذا ما أجمع عليه علماء السنة والشيعة بأن المعتدي على مسلم يتحمل مسؤولية اعتدائه في الدنيا والآخرة، وأنه إن قُتل فهو في النار، وأن المدافع عن نفسه وأهله وعرضه وماله إن قُتل فهو شهيد.

لذلك أناشدكم الله تعالى أن تمنعوا هذه الفتنة بجميع الوسائل المتاحة، وبما أن الحوار متاح فلا يجوز تجاوزه، فبالحوار تحل جميع المشاكل إن شاء الله.

ثالثاً: أوجه ندائي ومناشدتي إلى علماء العراق ومرجعياته، وجميع المخلصين من السنة والشيعة وبقية مكونات العراق أن يقوموا بواجبهم من السعي الجاد للمصالحة عبر الحوار، فهذه مسؤوليتكم أيضاً أمام الله، ثم أمام الأجيال والتأريخ، فيكفي العراق الحروب التي خاضها طوال أكثر من نصف قرن، ويكفي الدمار والقتال؟

رابعاً: وأوجه ندائي ومناشدتي إلى دول الجوار وعلمائها ومرجعياتها، وإلى كل من يريد السلم والسلام في العالم أجمع أن يسعوا بجميع جهودهم لإقناع الطرفين بالحوار وفقاً للدستور الذي ارتضاه الطرفان، وجعلاه مرجعاً، ولمنع الاقتتال والحرب.

فالمنطقة لا تتحمل الأكثر والأكثر، فالمآسي لا زالت قائمة في سوريا، واليمن وغيرهما.

وأخيراً: إن علماء الأمة مستعدون للقيام بالمصالحة وزيارة الطرفين ودول الجوار إذا وافقوا على ذلك.

حفظ الله هذه المنطقة كلها من الشرور والحروب والطغيان والفتن ما ظهر منها وما بطن (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) صدق الله العظيم.

 

كتبه

أ.د. علي القره داغي