ألقى أ. د. علي لقره داغي كلمة ضمن فعاليات مؤتمر “الاعتدال في الدين – الطريق إلى السلام ، وحسن الجوار ، والتقدم” والمنعقد حالياً في العاصمة الأنغوشية ماغاس بحضور رئيس الجمهورية يونس بك يفكوروف ولفيف من المفتيين والعلماء والمفكرين والسياسيين والإعلاميين ، كما أجاب القره داغي على أسئلة المفتيين والتي تركزت على قضايا فقهية تخص المسلمين في البلاد غير الإسلامية وقضايا المرحلة .
وفيما يلي نص كلمة الدكتور علي القره داغي إلى المؤتمر :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين
فخامة الرئيس يونس بك يفكوروف حفظه الله
رئيس جمهورية أنغوشيا الموقر
أصحاب السعادة والسماحة، الحضور الكرام
باسمي وباسم الوفد المرافق وباسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين رئيساً، ونواباً، ومجلس الأمناء، أحييكم بتحية مباركة طيبة من عند الله تعالى، ونسأله تعالى أن نتلقى مثلها من ربنا الرحمن في الجنان ( تحيتهم يوم يلقونه سلام) فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقدم الشكر بعد الله تعالى لفخامة الرئيس يونس بك يفكوروف عل هذه الدعوة الكريمة وحسن الإستقبال والحفاوة البالغة وكرم الضيافة الأنغوشية، وبجميع نوابه ووزرائه، وسماحة المفتي الشيخ عيسى حاجي خامخويف، وللشعب الأنغوشي العظيم، ولجميع من حضر هذا المؤتمر من اصحاب السماحة المفتيين والإدارة الدينية، وسماحة المفتي رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية، وكذلك للروسيا الاتحادية و رئيسها، ورئيس الوزراء وجميع المسؤولين فيها وللشعب الروسي بجميع مكوناته.
فخامة الرئيس، الحضور الكرام
لا يخفى على حضراتكم أن الله تعالى أرسل الأنبياء والمرسلين بدءاً من آدم ونوح، وموسى وعيسى وختاماً بسيدنا محمد ( عليهم الصلوات والتسلميات) ليكونوا هداة وأدلة خير للبشر أجمعين.
وقد أكمل الله تعالى دينه بسيدنا محمد صلى اله عليه وسلم وجعله رحمة للعالمين، وسبباً لسعادة الإنسان في الدنيا والدين، وأنزل عليه القران ليكون شفاءً وعلاجاً لأمراض القلوب والنفوس وهدى ورحمة للناس أجمعين، وجعل العقيدة والإيمان بالله وباليوم الآخر ليصبح إنساناً خائفاً من الله تعالى ومن مصيره حتى لا يؤذي أحدا بلسانه وجوارحه، وفرض عليه الصلاة حتى تنهاه عن الفحشاء والمنكر، والزكاة ليقوم بواجبه الإنساني بالمال حتى يتحقق التكافل والتضامن، وفرض عليه الصيام (لعلكم تتقون) وليُحسّ بألم العطش والجوع فلا ينسى الفقراء.
وهكذا جميع العبادات الشعائرية في الإسلام تستهدف إصلاح الإنسان وأجهزته الداخلية والخارجية ليكون قلبه سليماً من أمراض القلوب وروحه طيبة سامية عالية مرتبطة بالسماء ولا تكون شريرة هابطة نازلة إلى منازل الحيوانات وتكون نفسه هادئة مطمئنة، ولا تكون أمارة بالسوء، ويكون عقله مبدعاً يخدم الإنسانية بإبداعاته وابتكاراته.
ثم بعد صلاح الإنسان في الداخل والخارج فإن الإسلام يريد منه أن يتجه بكل قوته نحو تعمير الكون، وتحقيق الحضارة لصالح الإنسانية جمعاء، فتلك هي رسالة الإنسان الأساسية ولذلك جعله خليفة في الأرض حتى يعمرها بنص القران (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) }هود 61{ ولذلك قال علماؤنا: تعمير الأرض فريضة شرعية يفرضه الشرع، وضرورة فطرية يفرضه العقل والفطرة السليمة، ولذلك جعل العبادات العائرية قليلة ومنع فيها الزيادة حتى يوفر بقية الأوقات لأداء هذه الرسالة، فلننظر إلى الآيات القرآنية كيف تأمرنا بأن لا نبقى في المساجد إلا بمقدار أداء الصلوات (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) }الجمعة 10{ أي أمر الله تعالى بالانتشار في الأرض للتصنيع، والزراعة، والتجارة وذلك لتحقيق الخير والربح وطلب أيضاً أن تشتغل الأيادي والأعضاء بالعمل، وأن يشتغل القلب بذكر الله تعالى.
ذلكم هو الإسلام الصحيح والدين القيم الذي يريد به أن يحقق الخير والرحمة والحضارة، ولا يرضى بالشر، والقسوة والتخلف، ويريد البناء والتعمير، ويحرم الهدم والتدمير، ويطالب بالقراءة الشاملة لجميع الكتب في مختلف العلوم، وللإنسان وللكون كله فقال تعالى (إقرأ) اي إقرأ كل شئ، فجميع النظريات والإبداعات العلمية هي قراءة للكون والإنسان، وتلك هي مفتاح الكون، وجعل الله تعالى العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ورفع شأن العلماء وجعل شهادتهم مع شهادة الله تعالى وشهادة الملائكة، لأنه بالعلم وحدهُ يتحقق التمكن من الأرض والاستخلاف، حيث أمر الله تعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم حينما نجح في الامتحان العلمي ولم يستطع الملائكة أن تجيب وفي هذا دليل على أن الكون كذلك يخضع للإنسان عندما يتحقق العلم، كما نراه اليوم هذا التقدم الرهيب في عالم المواصلات، والاتصالات والتقنيات.
لذلك نقول للمسلمين جميعاً، وبخاصة الشباب إن هذا المجال العلمي والعملي، والحضاري هو مجالكم المطلوب شرعاً، وأنه لا يجوز لأمة “إقرأ” أن لا تقرأ،وأن تكون جاهلة، أو متخلفة، بل واجبها أن تكون عالمة وأن تقود العالم بالعلم والقراءة وبما تقدمه للبشرية من الخير والسعادة، فالله تعالى خلقنا لصناعة الحياة الجميلة الهادئة الهادفة، ولنحول الأرض إلى جنة الله الخلابة ولم يخلقنا لصناعة الموت، وللتدمير والتفجير ولذلك جعل من يقتل نفسه في النار خالداً، ويكون ذنبه من اكبر الكبائر.
ايها الشباب، ايها المسلمون:إن الله تعالى لم يخلقنا لصناعة المشاكل والمصائب والتناحر والتقاتل والصراعات، بل خلقنا للتنافس في الخيرات، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) } المطففين 26{ ولحل المشكلات، وعلاج الأمراض فقال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) } الاسراء 82{ ولتحقيق الأخوة الإيمانية بين المؤمنين فقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) } الحجرات 10{ فجميع أهل القبلة أخوة في الله فلا يجوز التقاتل والتناحر بل تجب المحبة والتآلف والتكافل والتضامن والحقوق المتقابلة.
وكذلك جاء الإسلام لتحقيق الأخوة الإنسانية بين جميع البشرية من جميع الشعوب والأديان فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( } الحجرات 13{
خلقنا الله للتعارف، وليس للتناكر، وللتعاون وليس التصارع، وللتحاور وليس التقاطع، وللتكافل والتضامن وليس التفرق والتمانع .
ايها الإخوة الكرام
يريد الله تعالى من خلال القران الكريم أن ترتقي نفوسنا عن الأمور الصغيرة لتنشغل بقضايا الأمة الكبرى، وأن تسمو أرواحنا وتعلو قلوبنا عن الإيذاء وسفاسف الأمور، ولذلك يخاطب كل من له كتاب من اليهود والنصارى، والبشرية جمعاء يخاطبهم بقوله تعالى (تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء) أي تساموا وارتقوا بأرواحكم ونفوسكم كما أننا جميعاً من آدم وحواء، وبالتالي فنحن اقارب نسباً وهذا ما أكده القران فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) }النساء 1{
كما إننا نشترك جميعاً في وجود نفحة من روح الله تعالى فينا فقال تعالى في خلق آدم (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) }الحجر 29{ ولذلك فكل إنسان مكرم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) }الإسراء 70{
ولذلك لا يجوز الإعتداء على هذه الروح بل إن من اعتدى عليها فكأنما اعتدى على العالم أجمع فقال تعالى (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) }المائدة32{
كما لا يجوز الاعتداء على أموال الناس ولا على أعراضهم، لذلك أدعو باسم الإسلام وباسم العلماء شبابنا في العالم إلى العودة الواعية إلى القران العظيم، أدعوهم إلى العودة إلى التعايش السلمي والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالتي هي أحسن فذلك الجهاد الكبير بنص القران العظيم (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) }الفرقان 52{ وأن الجهاد الدعوي هو الأصل في الإسلام، وأما الجهاد بمعنى القتال فقد كان محرماً محظورواً طول العصر المكي، ثم اذن له، وهذا يعني المنع أولاً وأن الإذن يحتاج إلى توافر شروطه فقال تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) }الحج 39-40{ فقد بين الله أن الإذن مشروط بالأمور الأربعة لدرء الظلم، ومنع العدوان، ومنع الاخراج، وتحقيق الحرية الدينية لجميع الأديان، فالصوامع للنصارى والبيع لليهود، والمساجد للمسلمين، والصلوات لبقية الأديان، وهذا يعني ان الإسلام فرض الجهاد لتحقيق الحرية الدينية، كما أن للجهاد القتالي للطلب شروطاً أخرى.
وأوجه خطابي الخاص هنا إلى المسلمين في أنغوشيا بأنها فعلاً دار سلم وإسلام ولا يجوز الاعتداء عليها، وكذلك الحال في جميع الجمهوريات الإسلامية داخل روسيا الاتحادية، وذلك لوجود الحرية الدينية، والحقوق المشروعة للجميع.
واقول إذا وجد شئ ونقص فتجب المطالبة بالطرق السلمية والقانونية، ولا يجوز حمل السلاح لما يترتب عليه من مفاسد كبيرة، فعليكم بالبناء والتنمية والتقدم والحضارة والإبداعات والعناية بإنشاء المؤسسات والشركات الاقتصادية والإعلامية، والجامعات ومراكز البحث وبانشاء الجمعيات الحقوقية، والعناية بإنشاء الوقف وكونوا قدوة في الأخلاق والعمل والإنتاج وبذلك تتفوقون وتفوزون في الدنيا والآخرة.
وفي الختام أؤكد على أن البشرية اليوم في خواء روحي ومشاكل مادية واجتماعية، وأزمات نفسية واقتصادية، وتفرق وتمزق وقتال وإراقة للدماء فهي أحوج ما تكون إلى الاستجابة لنداء السماء، بالتخلي عن حظوظ النفس، وعن الهيمنة والاستعمار والإستعلاء، لنعيش جميعاً سعداء متعاونين على البر والتقوى فالأرض خلقت لنا جميعاً ونحن جميعاً شركاء وهي تسعنا، فلماذا لا نعيش عليها سعداء وشركاء قائلين (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم المحب
أ.د. علي القره داغي
الأمين العام
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين