التحكيم عند اللغويين :

التحكيم : لغة مصدر حكّم يحكّم ـ بتشديد الكاف ـ أي جعله حكماً . والحُكْم ـ بضم الحاء وسكون الكاف ـ هو القضاء ، وجاء بمعنى العلم والفقه والقضاء بالعدل ، ومنه قوله تعالى: ( وآتيناه الحكم صبياً )[1] ، ومنه الحكمة بمعنى وضع الشيء في محله .

 والحَكَم ـ بفتح الحاء والكاف ـ من أسماء الله تعالى ، قال تعالى : ( أفغير الله أبتغي حَكَماً )[2] ، ويطلق على من يختار للفصل بين المتنازعين وبهذا ورد أيضاً في القرآن الكريم ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها )[3] . والمحكم هو الحكم ، واحد المحكمة هم الخوارج الذين قالوا : لا حكم إلاّ لله [4].

 وقد تكرر لفظ ( حكم ) ومشتقاته في القرآن الكريم أكثر من مائتي مرة منها القضاء بين الناس وفصل منازعاتهم العامة والخاصة بالقسط كقوله تعالى : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )[5] ، وبمعنى البيان والحكم لخلافاتهم حول الإله والكون والمبدأ والمصير ، والقضايا الإنسانية كقوله تعالى : ( إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله )[6] .

 وورد بلفظ (يحكموك) في قوله تعالى:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما)[7]،حيث نزلت هذه الآية في الزبير ورجل من الأنصار قد شهد بدراً ، تخاصما إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما فقال رسول الله ـ صلىالله عليه وسلم ـ للزبير:(اسق ، ثم أرسل إلى جارك) فغضب الأنصاري فقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :(اسق ، ثم احبس حتى يبلغ الجدر )[8]،حيث يدل على ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلح بينهما بشيء فيه سعة للطرفين ، فلما لم يرض بالصلح حكم عليه بالحكم البيّن الذي فيه الحق الكامل للزبير[9].وبلفظ(يحكمونك) في قوله تعالى : ( وكيف يحكمونك وعنهم التوراة فيها حكم الله )[10].     

 وبلفظ ( حكماً ) ثلاث مرات وهي قوله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما )[11] ، والمراد بالحكم هنا من يرتضيه الزوج أو الزوجة للفصل بينهما بعدل ، أو من يختاره ولي الأمر أو من ينوب عنه من القضاة من أهل الزوجين للفصل في شقاق بينهما [12]. ومنها قوله تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً)[13] ، أي حكماً يرجع إليه في الحكم والقضاء ولا يختلف الأمر عن السنة حيث وردت هذه الكلمة ومشتقاتها كثيراً بهذه المعاني المذكورة [14].

 

التحكيم في اصطلاح الفقهاء :

 عرَّفته مجلة الأحكام العدلية في مادتها 1790 فقالت : ( التحكيم عبارة عن اتخاذ الخصمين حاكماً برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما ) ، ويقال لمن ارتضى به الطرفان الحَكَم ـ بفتح الحاء والكاف ـ ، والمُحَكّم ـ بضم الميم وفتح الحاء ، والكاف المشددة ـ وبما أن حكم الحكمين ملزم ( لأنه إذا لم يكن ملزماً لم تتحقق الفائدة المنشودة ) فلا بدّ من إضافة الإلزام إلى التعريف ، فيكون التعريف الجامع المانع في نظري هو : أن التحكيم اتفاق طرفي الخصومة على تولية من يفصل بينهما بحكم ملزم )[15] .

 والاتفاق يتم إما عن طريق العقد الموقع بينهما الذي ينصّ على شرط التحكيم ، أو يتم بأية وسيلة أخرى ، وخرج بلفظ الاتفاق القضاء حيث انه منصوب بأمر الدولة . ويشمل ( طرفا الخصومة ) الشخصين الطبيعيين ، أو الاعتباريين ، والمراد بالخصومة ما جرى فيه النـزاع بين الطرفين سواء كان المتنازع فيه مالاً أو غيره ، ولا بدّ من الخصومة والنـزاع ، لأنه بدونه لا يسمى تحكيماً.    وقوله ( من يفصل بينهما ) شامل لفرد واحد أو لأكثر ، كما أنه شامل لهيئة ، أو مركز ، أو أية شخصية اعتبارية مثل مراكز التحكيم ، وخرج ( بحكم ملزم ) الفتيا التي يصدرها المفتي عندما يلجأ إليه المتخاصمان ) .

 

والتحكيم في اصطلاح القانونيين :

هو الاتفاق على إحالة ما ينشأ بين الأفراد من النـزاع بخصوص تنفيذ عقد معين ، أو على إحالة أي نـزاع نشأ بينهم بالفعل على واحد ، أو أكثر من الأفراد يسمون المحكمين ليفصلوا في النـزاع المذكور بدلاً من أن يفصل فيه القضاء المختص .

ويسمي أكثرهم الاتفاق مقدماً قبل قيام النـزاع على عرض المنازعات التي قد تنشأ في المستقبل خاصة بتنفيذ عقد معين على محكمين : شرط التحكيم ، وسماه نظام التحكيم السعودي والقانون المصري الجديد : وثيقة التحكيم ، في حين سماه القانون الكويتي ، ومجمع اللغة المصري : اتفاق التحكيم ، وسماه القانون اللبناني ( الفقرة الحكمية ) .

 وأما الاتفاق على التحكيم في نـزاع معين بعد نشوئه فيسمونه مشارطة التحكيم ، وسماه القانون اللبناني ( العقد التحكيمي )[16].

 وقد عرفت المادة 37 من اتفاقية لاهاي الأولى عام 1907م التحكيم الدولي بأنه تسوية المنازعات فيما بين الدول بواسطة القضاة الذين تختارهم وعلى أساس احترام القانون الدولي .

 وإذا نظرنا إلى هذه التعريفات القانونية والدولية لوجدناها متقاربة لا تختلف في جوهرها عن تعريف الفقه الإسلامي ، ولا يضيره أنه لم يقسم التحكيم إلى ما قبل النـزاع وبعده وذلك لأن تعريفه له يشملهما ، وأن صدره لا يضيق بالتقسيمات الفنية بل يرحب بها .

 

 المصطلحات المتشابهة بالتحكيم :

 هناك عدة مصطلحات ( مثل القضاء ، والصلح والإفتاء ، والتوفيق ) لها شبه بالتحكيم من حيث البحث عن بيان حكم الله تعالى للمنازعات ومن حيث بعض الأحكام الأخرى ، وهي القضاء ، والصلح والإفتاء .

 

فالقضاء له شبه بالتحكيم من الأوجه التالية :

1.كلاهما يبحثان عن بيان حكم الله تعالى للقضية المتنازع فيها .

2.كلاهما يفصلان في الخصومات .

3.كلاهما يلزم بأحكامهما المتنازعان ، فحكم المحكم كحكم القاضي في الإلزام .

4.كلاهما لا يتصدى لمنازعات الناس دون رفع الأمر إليهما .

 

ولكن مع ذلك توجد فروق جوهرية من أهمهما :

1.أن ولاية القاضي أو الحاكم مستمدة من السلطة الشرعية ، في حين أن ولاية المحكم مستمدة من طرفي النـزاع ، وقد تكون مستمدة من القاضي في بعض الحالات .

 ولا شك أن استناد التحكيم إلى رضاء من يلجأون إليه يضع في أيديهم رسم نطاق محدد لا يحق للمحكم أن يتجاوزه ، في حين أن القاضي ليس للمتنازعين سلطان عليه في رسم نطاق التقاضي إلاّ ما يخص بنود الاتفاقية .كما أن المتنازعين يملكان عزل المحكم في حين أن المتخاصمين ليس لهم أي علاقة بفصل القاضي ، بل القضاء في الإسلام وفي النظم المعاصرة مستقل عن السلطة التنفيذية.

2.أن ولاية القاضي أو الحاكم ولاية عامة حيث لا يخرج عن سلطة القضاء أحد ، ولا يستثنى من اختصاصه موضوع كما أنها هي الأصل والمبدأ العام في فصل المنازعات ، أما ولاية المحكم فهي ولاية فرعية خاصة بموضوع التحكيم المتفق عليه بين الطرفين[17].

3.أن عقد التحكيم عقد رضائي ، في حين أن القضاء ليس كذلك بالنسبة للمتخاصمين ، بل هو سلطة ونظام .

4.أن حكم المحكّم إذا لم يطبقه المتخاصمان ، وتنازعا فيه يلجأن إلى القضاء للإلزام إذن فمصيره إلى القضاء في هذه الحالة ، في حين أن حكم القاضي ملزم وواجب التنفيذ حيث تنفذه الأجهزة التنفيذية مباشرة .

5.إن حكم المحكم إذا رفع إلى القاضي يجوز له أن ينقضه إذا وجد فيه خللاً في مراحل التحكيم وقواعده ، في حين أن حكم القضاء في نفس مرتبته لا ينقض .

6.إن حكم المحكم إذا رفع إلى القاضي وكان محل التحكيم أمراً اجتهادياً يجوز له أن ينقضه عند بعض الفقهاء ، أما إذا كان حكماً قضائياً فإن حكم القاضي لا ينقض بحكم قاض آخر ، فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله .

7.إن حكم المحكم بثبوت الوقف لا يجعله لازماً عند الحنفية ، في حين أن حكم القاضي يجعله لازماً ، لأنه يرفع الخلاف .

8.إن حكم المحكم على وصي الصغير بما  هو ضرر على الصغير لا يصح ، لأن تحكيم الوصي بمنـزلة الصلح وهو لا يلزم الصبي فيما هو ضرر عليه ، أما حكم القاضي بذلك فصحيح إذا توافرت شروطه [18].

9.إن حكم المحكم برد الشهادة للتهمة لا يلزم غيره كما لا يلزم القاضي إذا عرض عليه الأمر وشهدت البينة بعدالة الشاهد ، أما إذا ردّ الشهادة القاضي للتهمة فإنه لا يحق لقاضٍ آخر أن يقبلها [19].

 وأما الصلح وإن كان يتفق مع التحكيم في فصل المنازعات لكنه يختلف معه في أن الصلح يتم بين الطرفين المتنازعين عن طريق تنازلهما ، أو تنازل أحدهما ودياً أي بالتراضي دون تحاكمهما إلى طرف ثالث ، فالقرار يصدر منهما معاً ، أو من أحدهما حتى لو تدخل مصلح فهو لتقريب وجهات النظر دون إصدار القرار ، أما التحكيم فهو يصدر من الطرف الثالث ( غير طرفي النـزاع ) فالصلح عقد يرفع النـزاع ويقطع الخصومة بتراضي الطرفين ، أما التحكيم فإنه يقطع الخصومة عن طريق إصدار حكم ملزم من المحكم .

 وأما الإفتاء فهو يشترك مع التحكيم في أن كلاً منهما يبحث عن بيان حكم الله في النازلة أو المنازعة وأنه لا يتطلب ولاية الإمام ، بل برضاء المستفتي ، أو المتنازعين ، لكنه يختلف عنه في أن حكم المفتي ليس ملزماً ، في حين أن حكم المحكم ملزم ، كما أن الإفتاء أعمّ حيث يمكن أن يكون في المنازعات أو في العبادات ، أو غيرهما ، أما التحكيم فهو خاص بالمنازعات التي التجأ أصحابها إلى المحكم [20]. وقد لخص ابن فرحون هذا الفرق بعبارة موجزة فقال في الفرق بينهما : ( المفتي مخبر ، والحاكم ملزم )[21] .

 وهناك مصطلح آخر في القانون يسمى التوفيق ( Consiliation  ) ، حيث يقصد به التقريب بين وجهات نظر الطرفين ا فالموفق هو الوسيط الذي يحاول أن يقرب بين وجهات نظرهما للوصول إلى اتفاق لتسوية النـزاع ، لكن قراره ليس ملزماً كما هو الحال في التحكيم ، وكما لا يلتزم الموفق بتطبيق قانون معين [22].

 

أدلة مشروعية التحكيم :

يدل على مشروعية التحكيم الكتاب ، والسنة ، والإجماع :

 أما الكتاب فقوله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما )[23] ، فالآية صريحة في مشروعية التحكيم ، بل استحبابه للإصلاح بين الزوجين في حالة الخوف من شقاق بينهما ، قال القاضي أبوبكر ابن العربي : ( ” وهي من الآيات الأصول في الشريعة ” ثم ذكر أقوال العلماء في المخاطب به فقال سعيد بن جبير :  المخاطب : السلطان ، وقال مالك : قد يكون السلطان وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين ، ثم قال القاضي : ” فأما من قال : إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله ، وأما من قال : إنه السلطان فهو الحق ، وأما قول مالك : إنه قد يكون الوليين فصحيح ، ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان مرة ويفعله الوصي أخرى،وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما ، فما أنفذاه نفذ ، كما لو أنفذه الوصيان )[24].       

 وعلى هذا القول بأنه السلطان فقط جماهير الفقهاء [25]، قال القاضي : ( وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي، قال : جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فَئام ( أي جماعة ) من الناس ، فأمرهم فبعثوا حكماً من أهله ، وحكماً من أهلها ، ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت المرأة رضيت بما في كتاب الله لي وعليَّ ، وقال الزوج أما الفرقة فلا ، فقال : لا تنقلب حتى تقرّ بمثل الذي أقرّت )[26]. ثم ذكر القاضي أن قوله تعالى : ( حكماً من أهله وحكماً من أهلها ) ، نصٌّ من الله سبحانه في أنهما قاضيان لا وكيلان …. )[27].

كما أرجع القرآن الكريم الأمر في موضوع جزاء الصيد إلى حكمين فقال تعالى : ( .. ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل )[28].

   وأما السنة فقد صحّ أن رسول الله ـ صلىالله عليه وسلم ـ قد رضي بتحكيم سـعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ في أمر اليهود من بني قريظة حينما رضوا بالنـزول على حكمه )[29].

 وأما الإجماع فقد ثبت منذ عهد الصحابة الكرام من خلال عدة قضايا تـنازع فيها بعضهم فالتجأوا إلى التحكيم فقبلوه ، منها أنه كان بين عمر وأبيّ بن كعب منازعة في نخل فحكّما بينهما زيد بن ثابت ـ رضي الله عنهم جميعا ًـ[30] ، واختلف عمر مع رجل فتحاكما إلى شريح [31].          ومنها أن عثمان وطلحة تحاكما إلى جبير بن مطعم [32] ـ رضي الله عنهم ـ علماً بأن هؤلاء المحكمين لم يكونوا قضاة في ذلك اليوم. ومنها ما ثبت أن المهاجرين والأنصار اختلفوا في وجوب الغسل من الختانين دون نـزول الماء فحكموا علياً فقضى بالغسل[33]، ومنها تحكيم أهل الشورى عبدالرحمن بن عوف[34]، وتحكيم علي أبا موسى الأشعري ، وتحكيم ومعاوية عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ[35].والآثار المروية تدل على تكرار ذلك أكثر من مرة أمام جمع كبير من كبار الصحابة ولم يسمع بمخالفة أحدهم لذلك ، ولا إنكارهم ذلك فكان ذلك إجماعاً [36].

 وعلى جواز التحكيم مطلقاً ( مع وجود القاضي أو عدمه ) جماهير الفقهاء من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية في قول ، والحنابلة ، والزيدية ، وبعض الإمامية ، وهو مروي عن الشعبي ، وابن سيرين ، وعبدالله بن عتبه [37].

 وخالفهم في ذلك ابن حزم الظاهري ، والشافعية في قول حيث قيدوا جواز التحكيم بعدم وجود قاض في البلد ، في حين منع مطلقاً الشافعية في قول آخر لهم والإمامية [38]. وأمام أدلة الجمهور التي ذكرنا بعضها يصبح هذان القولان ضعيفين لا ينهضان للوقوف أمامها ، ولا يسع البحث للخوض في الردّ عليها [39].

 

سعة دائرة التحكيم :

 لقد رأينا في البحث السابق أن التحكيم في القرآن الكريم شمل الجوانب الأسرية ، وجزاء الصيد ، وأن السنة النبوية المشرفة قد طبقته في مجال الأسرة والمال ، والحرب ، وأما تطبيقات الصحابة الكرام فقد شملت مختلف القضايا السياسية والمالية ، والقضايا الكبرى كاختيار الإمام كما في قصة تحكيم أهل الشورى لعبدالرحمن بن عوف ، وعزله كما في تحكيم سيدنا علي ومعاوية الحكمين أبا موسى ، وعمرو بن العاص ـ رضي الله عنهم ـ ، والقضايا الصغرى الفرعية في مجالات النـزاع على الأموال والحقوق .

 ومن هنا فدائرة التحكيم في الفقه الإسلامي واسعة جداً بحيث يمكن اللجوء إليها في المسائل المالية والاقتصادية والاجتماعية والدستورية والسياسة الشرعية ونحوها إلاّ في الحدود واللعان ونحوهما مما هو من حقوق الله تعالى ( الحق العام ) كما سيأتي ، ومن هنا فالتحكيم في الفقه الإسلامي يسع كل الأنواع والتسميات المعاصرة مثل التحكيم التجاري العادي ، الدولي ، والتحكيم في المنازعات البحرية ، والتحكيم في القانون الدولي وفي مجال تطبيق قانون العمل بالنسبة للعمال وربّ العمل .

 

أركان التحكـيم :

 يتفق القانون مع الفقه الإسلامي في أن اتفاق التحكيم عقد رضائي ، وليس شكلياً يتوقف على شكل معين ، لكنه يختلف معه في إثبات الاتفاق على التحكيم يتوقف على كونه مكتوباً نظراً لأهميته ،وخطورته [40]، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع شروطه وبنوده في حين أن الفقه الإسلامي لا يشترط الكتابة فيه ، بل يجوز إثباته بها ، وبالاتفاق الشفهي أيضاً ، وبالشهادة ، لكن الفقه الإسلامي يندب إلى إثبات الحقوق بكل الوسائل المتاحة ، ومن هنا فلو اشترطت الدولة ، أو الطرفان أن لا يتم التحكيم إلاّ مكتوباً فلا أخال أن في ذلك مخالفة للشريعة الغراء التي أمرت بالكتابة في عصر كانت الكتابة فيه نادرة ، فقال تعالى : ( فاكتبوه …. وليكتب بينكم كاتب بالعدل )[41].

 

 وأركان العقد معروفة وهي العاقدان ، والصيغة المعبرة عن العقد ، ومحل التحكيم هو الأمر المتـنازع عليه ، ولا أدخل في تفاصيل الشروط العامة لأركان العقد [42]، ولكنني اذكر أهم الشروط الخاصة بالتحكيم وهي :

1.أن يكون المحكم أهلاً لولاية القضاء ، لأن المحكم كالقاضي[43].

2.أن لا يكون محل التحكم في الحدود واللعان عند جماهير الفقهاء ( الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة في رواية على تفصيل داخل المذاهب ، ولا القصاص والديات عند جماعة من الفقهاء منهم الحنفية ، وذلك لخطورة هذه الأمور وأنها منوطة بالسلطة القضائية [44]وقد وضع ابن عرفة معياراً لذلك وهو أنه يجوز التحكيم فيما يصح لأحدهما ترك حقه فيه [45] وهو معيار صحيح دقيق لأن الحقوق العامة كما في الحدود واللعان لا يمتلكها الإنسان نفسه ، في حين أن ظاهر كلام أحمد أن التحكيم جائز في جميع القضايا ، قال القاضي أبو يعلى : ( وينفذ حكم من حكمّاه في جميع الأحكام إلاّ أربعة أشياء : النكاح ، واللعان ، والقذف والقصاص ، لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ، ونائبه يقوم مقامه ، وقال أبو الخطاب : ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها ، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين )[46].

3. تراضي طرفي الخصومة على التحكيم ، أما إذا عين القاضي المحكم فلا يشترط رضاهما ، لأنه نائب عن القاضي والمقصود أن يتم اتفاقهما على قبول مهمة التحكيم إما في العقد نفسه قبل نشوب النـزاع ، أو بعده [47].

 وهذا التراضي يمثل ركن التحكيم وجوهره ، لأنه عقد لا ينعقد إلاّ بالإيجاب والقبول ولذلك يشترط فيهما الشروط التي ذكرها الفقهاء من كونهما متصلين واقعين على محل واحد ، ثم إن هذا التواصي قد يعبر عنه العاقدان المحكمان ( بكسر الكاف المشددة ) صراحة كم لو قالا : اتفقنا على التحكيم ، أو حكمناك فيما بيننا ، وقد يظهر دلالة كما لو اختصما إلى رجل ليحكم بينهما [48].

 وللمحكمين الحق في تقييد رضاهما أو إطلاقهما ووضع الشروط ما دام ذلك لا يخالف نصاً من الكتاب والسنة ، كما أن لهما تعليقه ، أو إضافته إلى المستقبل عند بعض الفقهاء منهم أبو يوسف[49]. 

 

طبيعة عقد التحكيم :

 قد يتم عقد التحكيم قبل النـزاع من خلال شرط في العقد يضعه الطرفان وينصّ فيه عادة : أنه إذا حدث نـزاع في تفسير العقد ، أو في تنفيذه ، أو فيما يتعلق به من آثاره فإنه يصار إلى التحكيم .

 وهذا ـ كما سبق ـ يسمى بشرط التحكيم في معظم القوانين الغربية ، أو وثيقة التحكيم في نظام التحكيم السعودي ، والقانون المصري الجديد ، أو اتفاق التحكيم في القانون الكويتي ، وهذا الاسم هو الذي اختاره مجمع اللغة المصري .

 وقد يتم التحكيم بعد حدوث النـزاع ، وحينئذٍ يبرم الطرفان المتنازعان اتفاقاً باللجوء إلى التحكيم ، ويسمى مشارطة التحكيم ـ كما سبق ـ ، ففي الحالتين تمّ عقد التحكيم بتراضي الطرفين ، وهو من العقود الرضائية في الشريعة والقانون ـ كما سبق ـ وهو عقد اختياري محله المعقود عليه المنازعة والخصومة وهدفه الفصل فيها للوصول إلى حلّ عادل .

 هذا هو الأصل العام ، ولكنه يقول أهل القانون أنه قد استحدث في المجتمعات الاشتراكية نوع من التحكيم يسمى التحكيم الإجباري وهو الذي يقرر المشرع أنه لا يجوز إطلاقاً الالتجاء إلى القضاء ، أو ينصّ على وجوب طرحه عند النـزاع على هيئة التحكيم ، وهذا يعتبر استثناءً من الأصل [50].

 ولم أرَ من تطرق إلى هذه المسألة في الفقه الإسلامي من المعاصرين ، في حين أن التحكيم الإجباري نوع أساسي في الفقه الإسلامي وليس استثناءً ، فقد ذكر جماعة من الفقهاء منهم الشافعية على المعتمد ، وبعض المالكية ، وهو مروي عن علي وابن العباس ومعاوية والشعبي[51] إلى أن التحكيم واجب عند حدوث الشقاق بين الزوجين حيث قال الله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما )[52] فالآية صريحة في دلالتها على الوجوب وقد تبنى هذا الرأي القاضي ابن العربي فقال : ( إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين )[53] وقد ذكر القاضي أن المراد بالمخاطب هو ولي الأمر ونائبه المتمثل في القاضي[54] ، حيث لا يجوز له البت في الأمر إلاّ بعد هذا الإجراء ، وهو إرسال حكم من أهله ، وحكم من أهلها ، أو أن المراد أولياء الزوجين إذا كانا محجورين ، وأن الحكمين هما بمثابة القاضيين وليسا وكيلين ، قال القاضي ابن العربي : ( هذا نصّ من الله تعالى من أنهما قاضيان لا وكيلان ، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه كلّ واحد منهما فلا ينبغي لشاذ ـ فكيف لعالم ـ أن يركب معنى أحدهما على الآخر فذلك تلبيس وافساد للأحكام ، وإنما يسيران بإذن الله تعالى ويخلصان النية لوجه الله وينظران فيما عند الزوجين بالتثبيت ، فإن رأيا للجمع وجهاً جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما،…) وإن وجداهما قد اختلفا ولم يمكن الجمع بينهما ، أو أن الجمع لا ينفع لوجود تجارب أخرى فرّقا بينهما وهذا مروي عن عليّ وابن عباس ومعاوية والشعبي ، وهو مذهب مالك دافع عنه القاضي ابن العربي دفاعاً مستميتاً ، وقد ذكر عدة أدلة على ذلك[55].

 وقال إذا فرّقا فتكون الفرقة طلقة بائنة ، وأن هذه الفرقة لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )[56] وقد ردّ على من قال : بأن الظلم من أحد الزوجين لا ينافي النكاح ، بأن هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال ، فأما عقود الأبدان فلا تتمّ إلاّ بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر ، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه ، وكانت المصلحة في الفرقة ، ثم أوضح بأن حكم الحكمين كما أنه ملزم في الجمع ، أو الفرقة ، ملزم كذلك فيما يخص بقية الحقوق المالية من المنازلة أو أخذ شيء من أحدهما [57] ثم بيّن بأن القاضي لا يقضي بعلمه ، ولكن الشرع خصّ هاتين الواقعتين ( الشقاق وجزاء الصيد ) بحكمين لينفذ حكمهما بعلمهما وترتفع بالتعدد التهمة عنهما[58].

ومع وجود هذا التحكيم الإجباري في حالة الشقاق فإنه لا مانع شرعاً من التحكيم الاختياري من الزوجين أو من أهلهما ، أو من أوليائهما سواء اختارا حكمين ، أو حكماً واحداً ، أو أكثر من اثنين لأن التحكيم جائز وينفذ حكم المحكم إذا توافرت شروط التحكيم[59] .

 الواقعة الثانية للتحكيم الإجباري في جزاء الصيد حيث قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم … )[60]. فالآية صريحة في إرجاع الحكم بالجزاء إلى حكمين عدلين فقط وليس إلى غيرهما ، فهذا تحكيم إجباري طبقه الخلفاء الراشدون ، والصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان [61] كما أن الراجح أن هذا التحكيم مستمر في كل حادثة قتل لصيد الحرم دون الاكتفاء بما صدر عن العصور السابقة من الأحكام ، وهذا هو قول طاووس ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن حيّ ، والثوري ، وأبي حنيفة ، ومالك والزيدية في أحد قوليهم[62] .

 وقد طبق الخلفاء الراشدون هذا التحكيم والتـزموا به ، فعن ميمون بن مهران أن أعرابياً أتى أ