بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :

 فإن الإسلام أولى عناية منقطعة النظير بالفصل بين المنازعات على أساس العدل ، وجعل العدل أهم أسس تقوم عليها شريعته الغرّاء ، بل العدل هو أساس الكون وعليه قامت السموات والأرض وبه تتقدم الدول والأمم ، وبعدمه تنـزل المصائب والفتن وتدمر الحضارات وتتهاوى الأمم وتنـتهي الحكومات ، ولذلك جاءت الآيات والأحاديث النبوية تـترى لتأكيد هذا الأمر ، حتى حصر القرآن الكريم وظائف الرسل والكتب في تحقيق العدل بمعناه الشامل فقال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط )[1] .

 ولم يكتف الإسلام في حلّ المنازعات بإصلاح الفرد وتقوية عقائده وأخلاقه وتقويم سلوكياته ، ولا بالمواعظ الدينية المؤثرة ، بل فرض لحلها القضاء وأنشأ له المحاكم والدواوين بدءاً من الرسول الكريم ـ صلىالله عليه وسلم ـ حيث كان حاكماً وقاضياً إلى الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ ومن تبعهم بإحسان .

 وبما أن الإسلام باعتباره ديناً وأخلاقاً ـ إضافة إلى كونه نظاماً ودولة ـ لا يجعل حل المنازعات عن طريق القضاء الحل الأول ، بل يجعل حلها عن طريق التراضي ، والصلح هو الحل الأمثل ، فقال تعالى : ( والصلح خير )[2] ، أي خير مطلق ، وأفضل من جميع الطرق ، وكان الرسول ـ صلىالله عليه وسلم ـ يشير إلى المتخاصمين أولاً بالصلح فإذا لم يرتضيا حكم عليهما بالحكم البيّن[3]. وقد ضمن الخليفة الراشد عمر ـ رضي الله عنه ـ أهمية الصلح في رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري ، وقد روى مسعر بن أزهر عن محارب قال : قال عمر : ( ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا ، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن )[4] .

وإضافة إلى هذه الوسائل الأخلاقية ، والقضائية ، والاتفاقية فإن الإسلام شرع أمراً آخر يسهل عملية التقاضي ويختصرها وهي وسيلة التحكيم من خلال اللجوء إلى المحكم والحكم ، وهي وسيلة أولى لها الفقه الإسلامي عناية قصوى ، فنظمها تنظيماً جيداً ووضع لها ضوابط وقواعد ، كما كان لها دورها في حل النـزاعات بين المسلمين .

 وقد غدا للتحكيم اليوم أهمية قصوى وبالأخص في نطاق التجارة الدولية حيث أصبح أهم وسيلة تلجأ إليها الشركات والمؤسسات المالية لحسم خلافاتها التي تتعلق بتفسير العقد ، أو تنفيذه ، وذلك بسبب التكاليف الباهظة للمحاكم وخاصة في الدول الغربية ، وبطء قراراتها وإجراءاتها ، إضافة إلى جهل أحد الطرفين بتفاصيل النظام القضائي لتلك الدولة التي تتـتْبعها الشركة ، أو عدم الثقة به ، ناهيك عن أن التحكيم يستند أساساً إلى إدارة الطرفين اللذين يختاران الأشخاص الذين يتولون مهمة التحكيم ممن يتصفون بالحياد والاستقلال ومعرفة نوعية التعامل التجاري الذي حدث النـزاع بسببه والقواعد الواجبة التطبيق ، مما يؤدي إلى ثقة الطرفين بأن نـزاعهما ستتم تسويته بشكل عادي وقانوني وبشكل طوعي وليس قسراً ، وهذا يجعل العلاقة بينهما مستمرة دون ضغينة أو قطيعة .

 ولأجل هذه الأهمية وجدت مراكز للتحكيم الدولي في مختلف المجالات وبالأخص في مجال التحكيم التجاري ، وأصبحت لها مكانة مرموقة دولياً ، مما حدا بالمنظمات الدولية بوضع قواعد خاصة بالإجراءات التي تتبع في سير عملية التحكيم[5].

 ولهذه الأهمية الدولية للتحكيم أنشأت الأمم المتحدة لجنة خاصة تسمى لجنة القانون التجاري الدولي، وقامت بوضع قواعد خاصة بالتحكيم تسمى بقواعد لجنة القانون التجاري الدولي،كما قامت بوضع قانون سمي بالقانون النموذجي للتحكيم حتى تهتدي به الدول الأعضاء لتطوير قوانيها الخاصة بالتحكيم.

 وقد تطورت فكرة التحكيم في الغرب مع النهضة الصناعية والتجارية فأنشأت في لندن عام 1892م غرفة لندت للتحكيم ، ثم تحولت إلى محكمة لندن للتحكيم عام 1903م ، ثم تغير اسمها إلى محكمة التحكيم الدولي في لندن (L C I A  ) منذ عام 1981م ، ولا تخلو الدول الغربية الأخرى عن مثلها ، ففي باريس توجد محكمة التحكيم للغرفة التجارية الدولية ، وفي نيويورك جمعية التحكيم الأمريكية    ( A A A ) منذ عام 1984م ، وفي فينّا المركز التحكيمي للغرفة التجارية الاقتصادية ، إضافة إلى مراكز كثيرة في بلدان العالم تختص بالتحكيم الدولي التجاري وغيره .

 وقد اهتمت البلاد الإسلامية والعربية بالتحكيم فأفردت له باباً خاصاً في قوانين المرافعات المدنية والتجارية ، أو من أصول المحاكمات المدنية ، بل خصته بعض الدول كالمملكة العربية السعودية بنظام مستقل من خلال المرسوم الملكي رقم (26)في 12/7/1403هـ ، كما أن معظمها انضمت إلى اتفاقية نيويورك عام 1958م وصادقت عليها .

 ومن جانب آخر أنشئت مراكز دائمة دولية وإقليمية للتحكيم منها المركز الإقليمي للتحكيم بالقاهرة ، والمركز الإقليمي للتحكيم في كوالالمبور بماليزيا [6]، ومنها مركز التحكيم الإسلامي بجامعة الأزهر الذي بدأ يزاول نشاطه منذ عام 1995م ، والذي تنصّ المادة (23) من لائحته على أن ( تطبق هيئة التحكيم على النـزاعات المعروضة أمامها مبادئ الشريعة الإسلامية وتختار ما تراه مناسباً من الآراء وفقاً لاجتهادها إلاّ إذا ألزمها الطرفان بتطبيق مذهب فقهي معين دون غيره )[7].

 وقد أولت الدول والمؤسسات المالية عناية كبيرة بهذا المجال حيث عقدت اتفاقيات جماعية وثنائية ، وتعقد سنوياً عدة مؤتمرات دولية وندوات علمية لأجل توضيح معالمها ومتابعة آخر القوانين واللوائح الدولية والإقليمية والتطورات القضائية والفقهية .

 وبحثنا هذا لا يخوض في غمار التحكيم ذلك البحر المتلاطم الأمواج ، وإنما يتجه نحو التركيز على المبادئ العامة للتحكيم في الفقه الإسلامي وكيفية التحكيم في البنوك الإسلامي والمؤسسات المالية الإسلامية مستعيناً بالله تعالى أولاً ، ومستفيداً من كلّ ما أمكن الاستفادة منه من الكتب الفقهية والقانونية والاقتصادية ، ومن التطبيقات في هذا المضمار .

 وأعتقد أن علينا جميعاً ـ باحثين وأصحاب مال ومؤسسات إسلامية ـ واجباً كبيراً لتوضيح معالم شريعتنا الغراء في مجال التحكيم ، والقيام بدراسات مستفيضة وندوات علمية ، بل ومؤتمرات دولية للوصول إلى إقناع المجتمع الدولي بعظمة الشريعة في هذا المجال أيضاً ، وأن فقهنا الإسلامي الخاص بالتحكيم مرن متطور يستجيب لكل قواعد العدالة ، حتى لا يتكرر مثلما حدث في بعض التحكيمات الدولية من استبعاد قانون إحدى دول الخليج بزعم أنه قانون متخلف لا يمكن استخدامه لتفسير ، أو حكم العلاقات التجارية الحديثة ، أو ما قيل في سبب رفض نظام آخر مأخوذ من الشريعة من ادعاء جاهل بأنه ( لا يحتوي أي حل للمشكلة المطروحة )[8].

 

 

                                                                           

                                                                   كتبه الفقير إلى ربه

علي محي الدين القره داغي

                                                                                          غرة رجب 1422هـ

 

 

 

والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لخدمة شريعته الغراء ، إنه وليّ التوفيق .

 

 


 

 

  1.  سورة الحديد / الآية ( 25 )

  2.  سورة النساء / الآية ( 128 )

  3.  وقد عقد البخاري في كتاب الصلح أربعة عشر باباً اشتمل على واحد وثلاثين حديثاً وافقه مسلم على تخريج غير المكرر سوى حديث واحد، وكان منها باب : ” هل يشير الإمام بالصلح ؟ ” قال الحافظ في الفتح ( 5/307 ) 🙁 الجمهور استحبوا للحاكم أن يشير بالصلح ) ، ومنها باب : ” إذا أشار الإمام بالصلح فأبى ، حكم عليه بالحكم البيّن ” انظر صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ ( 5/297 ـ 311 ) 

  4.  انظر رسالة عمر وهذه المرويات في أعلام الموقعين  ط . شقرون بمصر ( 1/86 ـ 108 )

  5.  د . فوزي محمد سامي : ” التحكيم التجاري الدولي ” ط . دار الثقافة بعمان ( ص: 11 , 12 )

  6.  أنشئ هذان المركزان بقرار من اللجنة الاستشارية القانونية الأسيوية الأفريقية (AALCC) التي عقدت دورتها العادية في يناير 1978 بالدوحة ، ووافق عليه رئيس جمهورية مصر بالقرار رقم (104) لسنة 1984 ، يراجع : بحث المستشار محمد بدر يوسف المنياوى ،المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، العدد التاسع ، الجزء الرابع ، (ص15) 

  7.  بحث المستشار محمد بدر يوسف المنياوى ( ص19 )

  8.  أبو زيد رضوان : ” الأسس العامة في التحكيم التجاري الدولي ” ط . دار الفكر العربي بالقاهرة (ص146ـ147 ) ، وبحث المستشار المنياوي السابق (ص16 ـ 17 )