·         التعريف بالإجارة لغة واصطلاحاً.


·         الإجارة في الكتاب والسنة.


·         المبادئ والأحكام المستنبطة للإجارة من الكتاب والسنة.


·         مشروعيتها.


  


التعريف بالإجارة في اللغة والاصطلاح


 


الإجارة لغة: اسم للأجرة، وهي الأجر، ونقل المبرد أنه يقال: آجر إيجاراً، وإجارة، فعلى ضوء ذلك فهي مصدر، وأصلها من أجّر الشيء، أي أكراه، وفلاناً على كذا، أي أعطاه أجر، وفي التنزيل العزيز (…على أن تأجرني ثماني حجج..)([1])، أي تكون أجيراً لي، ويستعمل لفظ الإجارة بمعنى الأجرة على العمل، ويستعمل في العَقد الذي يَردُ على المنافع بعوض([2])، والأفصح فيها بكسر الهمزة، وجاز فيها الضم والكسر عند بعض، وقد قال بعض العلماء: إنه قد غلب وضع الفِعالة (بالكسر) للصنائع نحو الصناعة والخياطة، والفعالة (بالفتح) لأخلاق النفوس الجبلّية نحو السَّماحة والشّجاعة، و(بالضم) للمحتقرات كالكناسة والنخالة([3]).


 


والإيجار مصدر: آجره يؤاجره مؤاجرة وإيجاراً أي اكتراه منه، وأصله من أجر الشيء، أي أكراه، وأجر فلاناً على كذا، أي أعطاه أجراً، ومضارعه (يأجرُ) مضموم العين، ومنه قوله تعالى: {على أن تأجرني ثماني حجج}[القصص:27]، أي تكون أجيراً لي، ويقال: أجر الله عبده أي أثابه، واستأجره، أي اتخذه أجيراً، وائتجر أي طلب الثواب بصدقة ونحوها([4]).


 


قال الإمام الرافعي: “الإجارة … وإن اشتهرت في العقد فهي في اللغة اسم للأجرة، وهي كراء الأجير”([5]).


 


الإكراء:


 


    والإكراء بمعنى الإجارة، ويستعمله الفقهاء بمعناها، وهو لغة من: أكريت الدار أي آجرها فهي مكراة، ويقال: اكتريت الدار وغيرها أي استأجرت، وكذا استكريت وتكاريت وأصله من كرى النهر- بفتح الراء- كرياً أي حفر فيه حفرة جديدة، وكَرِيَ الرجل- بكسر الراء- أي نام فهو كَرِ، وكَرِيّ([6]).


 


    الإجارة في اصطلاح الفقهاء:


 


    عرفها الحنفية: بأنها عقد على المنافع بِعوض([7])، وعرفها بعضهم بأنها: تمليك يقع بعوض([8])، وجاء في الذخيرة: “هي بيع المنافع”([9])، وقال الحطاب: “وقال في اللباب: حقيقتها تمليك منفعة معلومة زمناً معلوماً بعوض معلوم…، وقول القاضي: معاوضة على منافع الأعيان؛ لا يخفى بطلان طرده…”([10]).


 


    وقد فرق المالكية بين الإجارة والكراء فخصصوا تمليك منفعة الآدمي باسم الإجارة، ومنافع المتملكات باسم الكراء، ولكن بعضهم قد يستعمل الإجارة بمعنى الكراء وبالعكس عن طريق المجازاة([11]).


 


    قال الدردير: “وهي والكراء شيء واحد في المعنى: هو تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض، غير أنهم سموا العقد على منافع الآدمي وما ينقل غير السفن والحيوان إجارة، والعقد على منافع ما لا ينقل كالأرض والدور، وما ينقل من سفينة وحيوان كالرواحل كراء”([12]).


 


    وعرفها الشافعية بأنها تمليك المنفعة بعوض([13]).    


    وعرفها الحنابلة بأنها بيع المنافع([14]), وجاء في منتهى الإرادات: “الإجارة شرعاً عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معلومة من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم …”([15]).


 


    ويفهم من كلام ابن حزم الظاهري أن الإجارة عقد وارد على منفعة كل شيء له منفعة ولا يستهلك عينه([16]).


    وهذه التعاريف متقاربة من حيث النتيجة، إلا أن التعريف الأخير مفصّل أكثر من غيره، ومبين فيه عناصر الإجارة الأساسية.


 


    ولا يختلف معناها في القانون عما ذكرناه، فقد عرفت المادة (558) من القانون المدني المصري الإيجار بأنه: “عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم”.


 


    بل استعمل القانون المدني العراقي التعريف الفقهي فنصت مادته (722) على أن: “الإيجار تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم لمدة معلومة، وبه يلتزم المؤجر أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالمأجور”.


 


    ويطابق تعريف في القانون المدني السوري المادة (526) وفي القانون المدني الليـبي في مادته (557) ما ذكره القانون المصري السابق .


  


  الإجارة في القرآن الكريم:


 


    ورد لفظ الأجر ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي مائة وثماني مرات، منها الآيات الواردة في سورة القصص بخصوص قصة سيدنا موسى في مدين وأخذ أجرة سقيه، ثم جعله أجرته مهراً لزوجته حيث يقول الله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ{24} فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{25} قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ{26} قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ{27} قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل} [القصص: 24- 28].


 


    فهذه الآيات تضمنت صورة عقد متكاملة للإيجار كما تصمنت ضوابط وآداباً للإجارة ونحوها، فالعقد قد تم بين العاقدين وهما: سيدنا موسى عليه السلام والشيخ الكبير على أساس أن المعقود عليه هو العمل في الرعي ونحوه لمدة ثماني سنوات أو عشر سنوات في مقابل إنكاح ابنته ومهرها، والصيغة تتمثل في إيجاب الشيخ الكبير، وقبول موسى عليه السلام.


 


    ويستفاد منها أن الإيجاب (أو القبول) يمكن أن يتحقق بفعل المضارع ما دامت القرائن تدل على الإنشاء دون الوعد، كما أن القبول قد يتم بأي صيغة تدل عليه مثل: “ذلك بيني وبينك” دون الالتزام بلفظ مخصوص، وهذا هو ما يسمى بمبدأ الرضائية في العقود.


 


    كما يستفاد منها أن مدة عقد الإجارة يمكن أن تكون محددة بوقت واحد، ويمكن أن تكون على  الخيار بين وقتين، حيث تم العقد في الإيجاب على أساس ثماني سنوات، أو عشر، وكان قبول موسى عليه السلام أيضاً غير محدد حيث قال: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}.


 


    ويقاس على ذلك ما إذا كان الخيار بين أكثر من وقتين ما دام ذلك لا يؤدي إلى النزاع([18]).


    ودلت هذه الآيات الكريمة على جواز الجمع بين عقدين في صفقة واحدة، وهما النكاح والأجرة والربط بينهما قال أبوبكر ابن العربي: “في هذا اجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: يكره ابتداء، فإن وقع مضى.


    الثاني: قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز.


 


    والثالث: قال ابن الماجشون: إن بقي من القيمة ربع دينار جاز، و إلا فلا. قال أبوبكر: “والصحيح جوازه وعليه تدل الآية”([19]).


 


    وتضمنت الآيات إرشادات في غاية من الأهمية لاختيار الأجير، والوكيل،والموظف، والمدير ونحوهم، حيث قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، فهاتان الصفتان: القوة والأمانة إذا تحققتا فيمن يوكل عليه العمل فإن النجاح يكون متحققاً بإذن الله تعالى.


 


    فالقوة تعني القوة البدنية والفكرية والعقدية وتدخل فيها الخبرة والمعرفة والفطنة والكياسة، والمهارة، وأما الأمانة فتعني الإخلاص والغيرة والإحساس بالمسؤلية، ووجود رقابة داخلية تمنع الشخص من الخيانة والاعتداء ومن التفريط والتقصير، والمقصود أن يتوافر في الشخص الإخلاص والاختصاص وهما جامع الخير كله.


 


    واستعمل القرآن الكريم الأجور بدل المهور في أكثر من آية، فقال تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25]، كما استعملها في أجور المرضعات فقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، كما استعمل القرآن الكريم الأجر والأجور بمعنى الثواب في الآخرة في آيات كثيرة، وبمعنى الأجر الدنيوي في مقابل العمل كما في قوله تعالى في قصة موسى والخصر: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77].


 


    الإجارة في السنة المطهرة:


 اعلى الصفحة


 


    تكفلت السنة النبوية المشرفة بتفصيل الإجارة وكثير من أحكامها وآدابها، فقد خصص البخاري أحكامها بكتاب خاص سماه: كتاب الإجارة، وذكر فيه اثنين وعشرين باباً، واشتمل على ثلاثين حديثاً، المعلق منها خمسة، والبقية موصولة، ووافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة أحاديث، وفيه من الآثار ثمانية عشر أثراً([20]).


 


    وكذلك فعل أبوداود في جامع سننه وقد ذكر باب استئجار الرجل الصالح، ثم باب رعي الغنم على قراريط وذكر فيه حديثاً بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم”، فقال أصحابه وأنت؟ فقال: “نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة”([21]).


 


    ثم ذكر باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام، فأورد بسنده عن عائشة رضي الله عنها: “استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبوبكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً”- الخريت الماهر بالهداية -.


 


    ثم ترجم باب: إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام – أو بعد شهر أو بعد سنة – جاز، و أورد الحديث السابق للدلالة على ذلك، ثم ترجم باب الأجير في الغزو، وباب: إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ولم يبين العمل واستدل في ذلك بقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} حيث مال البخاري إلى جواز ذلك، قال الحافظ ابن حجر: “ووجه الدلالة منه أنه لم يقع في سياق القصة المذكورة بيان العمل، وإنما فيه أن موسى أجر نفسه من والد المرأتين” ثم قال: “قال المهلب: ليس في الآية دليل على جهالة العمل في الإجارة، لأن ذلك كان معلوماً بينهم، وإنما حذف ذكره للعلم به، وتعقبه ابن المنير بأن البخاري لم يرد جوازاً أن يكون العمل مجهولاً، وإنما أراد أن التنصيص على العمل باللفظ ليس مشروطاً، وأن المتبَع المقاصد، لا الألفاظ([22]).


 


    ومنها باب من استأجر أجيراً فترك أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد، أو من عمل في مال غيره فاستفضل، فروى فيه قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار([23]).


    ومنها باب أجرة السمسرة: ولم يرَ ابن سيرين وعطاء، وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأساً، وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول بع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا، فما كان من ربح فلك، أو بيني وبينك فلا بأس به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلمون على شروطهم”([24]).


    ومنها باب: هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب؟ فأورد فيه حديث خباب قال: “كنت رجلاً قيناً، فعملت للعاص بن وائل…” ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطّلع على ذلك وأقره، قال المهلب: “كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين:


    أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله.


    والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على  المسلمين”.


 


    وقال ابن المنير: “استقرّت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منزله، وبطريق التبعية له”([25]).


 


    ومنها باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله” قال الحافظ ابن حجر: حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصله المؤلف رحمه الله في الطب واستدلّ به للجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم، وأجازوه في الرقي كالدواء”([26]).


 


    ومنها باب كسب البغي والإماء. وكره إبراهيم النخعي أجر النائحة والمغنية، ثم أورد فيه حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن”.


 


    ومنها باب عسب الفحل حيث أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى عن عسب الفحل – أجرة نزوه – .


 


    وختم البخاري بباب: إذا استأجر أرضاً فمات أحدهما، وقال ابن سيرين: ليس لأهله أن يخرجوه إلى تمام الأجل، وقال الحكم والحسن وإياس بن معاوية: تمضي الإجارة إلى أجلها.


 


    وقال ابن عمر: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر، ولم يذكر أن أبابكر وعمر جددا الإجارة بعدما قبض النبي صلى الله عليه وسلم ثم أورد أحاديث في الباب([27]).


 


    قال الحافظ ابن حجر: “الجمهور على عدم الفسخ – أي فسخ الإجارة بموت أحد العاقدين – وذهب الكوفيون، والليث بن سعد إلى الفسخ…”([28]).


    وأورد أبوداود في كتاب الإجارة في سننه عدة أبواب منها باب كسب المعلم، فأورد حديث عبادة بن الصامت الدال على حرمة الأجرة على تعليم القرآن، حيث قال: “علمت أناساً من أهل الصفة القرآن والكتاب، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها (عنها) في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته،فقلت: يا رسول الله: رجل أهدى إليّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال وأرمي عنها (عليها) في سبيل الله؟ قال: “إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها”([29]).


 


    قال الخطابي: “اختلف قوم من العلماء في معنى هذا الحديث وتأويله، فذهب بعضهم إلى ظاهره، فرأوا أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن غير مباح، وإليه ذهب الزهري، وأبوحنيفة، وإسحاق بن راهويه، وقالت طائفة: لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي، وأباح ذلك الآخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً: “زوجتكما على ما معك من القرآن” وتأولوا حديث عبادة على أنه كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه, ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع فحذّره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من ردّ ضالة لرجل أو استخرج له متاعاً قد غرق في بحر تبرعاً وحسبة فليس له أن يأخذ عليه عوضاً، ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس، فأخذ المال منهم مكروه، ودفعه إليهم مستحب”([30]).


 


    وقد رجح الحافظ البيهقي حديث ابن عباس وهو: “إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله” وحديث سهل بن سعد على حديث عبادة لأنهما أصح إسناداً، أما حديث عبادة ففيه الأسود بن ثعلبة، قال البيهقي: “فإنا لا نحفظ عنه إلا هذا الحديث، وهو حديث مختلَف فيه على عبادة…”.


 


    ومنها باب في كسب الحجام، فأورد فيه حديث رافع بن خديج أن  النبي صلى الله عليه وسلم قال: “احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو عَلِمه خبيثاً لم يعطه”([32]).


 


    وهذا الحديث الأخير دليل واضح على إباحة كسبه، ويحمل الخبيث في الحديث على الرذيل. كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 267].


 


    وأورد البيهقي في كتاب الإجارة عدة أبواب منها جواز الإجارة، فذكر فيه عدداً كبيراً من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، ومنها باب لاتجوز الإجارة حتى تكون الأجرة معلومة، فذكر فيه الاستدلال بحديث النهي عن بيع الغرر، من حيث إن الإجارات صنف من البيوع، ثم أورد حديثاً بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يساوم الرجل على سوم أخيه… ومن استأجر أجيراً فليعلمه أجره”([33]).


 


    ومنها باب إثم من منع الأجير أجره، فأورد فيه بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله عزوجل: ثلاثة أنا خاصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً استوفى منه ولم يوفه” قال البيهقي: ورواه البخاري في الصحيح عن يوسف بن محمد، ثم أورد حديث أبي هريرة بلفظ: “أعط الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه”([34]).


 


    ومنها باب: ما يستحب من تأخير الأحمال ليكون أسهل على الجمال وغيرها، فأورد فيه قول عمر رضي الله عنه: ينادي: “أخِّروا الأحمال، فإن الأيدي معلقة، والأرجل موثقة” ثم رواه مرفوعاً بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا حملتم فأخروا، فإن اليد معلقة والرجل موثقة”([35]).


    ومنها باب كسب الرجل وعمله بيده، فأورد فيه حديث معدي كرب الذي رواه البخاري أيضاً، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما أكل أحد من بني آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يديه، إن نبي الله داود كان يأكل من كسب يديه”، ثم أورد بسنده قول عائشة رضي الله عنها: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً عمال أنفسهم”، وفي رواية: “كانوا يعالجون أرضيهم بأيديهم”([36]).


 


    المبادئ والقيم التي تستفاد من هذه الآيات والآحاديث:


 


    أولاً: مشروعية الإجارة، بل إثبات فضلها حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما أكل أحد من بني آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يديه، وإن نبي الله داود كان يأكل من كسب يديه” كما ورد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤجرون أنفسهم، وأنه ما من نبي إلا رعى الغنم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط.


 


    وهذا المبدأ يؤكد أن العبادة (أو الأجر والثواب) لا تنحصر دائرتها في باب الشعائر والمناسك، بل هي تشمل كل عمل نافع يراد به تعمير الكون على ضوء منهج الله، ولذلك تعتبر الإجارات في مجموعها من فروض الكفايات التي لا ينبغي تركها.


 


LinkedInPin