·         الإجارة في الفقه الإسلامي.


·         طبيعتها وأنواعها، وأركانها، وشروطها، وأحكامها.


·         وسائلها واشتراط الشروط فيها.


·         آثارها.


·         كيفية فسخها.


 


طبيعة عقد الإجارة وصفته


 


    عقد الإجارة من عقود المعاوضات المسماة، وهو عقد لازم عند جمهور الفقهاء حيث لا يكون لأحد الطرفين فسخها دون رضا الآخر إلا لحق خيار الشرط، أو العيب، أو نحوهما. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة([1]).


 


    ونقل عن شريح: أنها غير لازمة، وتفسخ بلا عذر لأنها إباحة المنفعة فأشبهت الإعارة. ورُدَّ بأنه القياس مع الفارق، لأن الإعارة بدون عوض، فهي تطوع وإحسان، في حين أن الإجارة معاوضة من الطرفين.


 


    ذهب الحنفية إلى أنها عقد لازم، ولكن تفسخ بعذر طارئ، قال الكاساني: “وأما صفة الإجارة فالإجارة عقد لازم إذا وقعت صحيحة عَرِيّة عن خيار الشرط، والعيب، والرؤية، عند عامة العلماء، فلا تفسخ من غير عذر”([2]). وقال أيضاً: “وأما شرط اللزوم فنوعان: نوع هو شرط انعقاد العقد لازم، ونوع هو شرط بقائه على اللزوم.


 


    أما الأول: فأنواع: منها أن يكون العقد صحيحاً، لأن العقد الفاسد غير لازم بل هو مستحق النقض والفسخ رفعاً للفساد حقاً للشرع، فضلاً عن الجواز.


 


    ومنها: أن لايكون بالمستأجر عيب في وقت العقد، أو وقت القبض يخل بالانتفاع، فإن كان لم يلزم العقد، حتى قالوا في العبد المستأجر للخدمة إذا ظهر أنه سارق له أن يفسخ الإجارة، لأن السلامة مشروطة فتكون كالمشروط نصاً كما في بيع العين.


 


    ومنها: أن يكون المستأجر مرئياً للمستأجر، حتى لو استأجر داراً لم يرها ثم رآها فلم يرضَ بها أنه يردها، لأن الإجارة بيع المنفعة فيثبت فيها خيار الرؤية كما في بيع العين.


 


    وأما الثاني فنوعان:


 


    أحدهما: سلامة المستأجر عن حدوث عيب به يخل بالانتفاع به (مثل استئجار دابة ثم تعرج، أو بيت فينهدم بعضه، أو شخص فيمرض) فالمستأجر بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ، بخلاف البيع إذا حدث بالمبيع عيب بعد القبض فليس للمشتري أن يرده.. فإن لم يفسخ.. فعليه كمال الأجرة، لأنه رضي بالمعقود عليه مع العيب فيلزمه جميع البدل.. وإن زال العيب قبل أن يفسخ..، بطل خيار المستأجر، لأن الموجب للخيار قد زال والعقد قائم فيزول الخيار.


 


    هذا إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع بالمستأجر، فإن كان لا يضر به بقي العقد لازماً ولا خيار للمستأجر كالعبد (الشخص) المستأجَر إذا ذهبت إحدى عينيه، وذلك لا يضر بالخدمة، أو سقط شعره، أو سقط من الدار المستأجرة حائط لا ينتفع به في سكناها، لأن العقد ورد على المنفعة لا على العين…


 


    والثاني عدم حدوث عذر بأحد العاقدين، أو بالمستأجر، فإن حدث بأحدهما، أو بالمستأجر عذر لا يبقى العقد لازماً، وله أن يفسخ، وهذا عند أصحابنا، وعند الشافعي: هذا ليس بشرط بقاء العقد لازماً، ولقب المسألة أن الإجارة تُفسخ بالأعذار عندنا خلافاً له… لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر، لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد.. فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضرر، وله ولاية ذلك.


 


    ثم بين الكاساني تفاصيل الأعذار التي يفسخ بها العقد فقال: إن العذر قد يكون من جانب المستأجِر، وقد يكون في جانب المؤاجر، وقد يكون في جانب المستأجَر:


 


    أما الذي في جانب المستأجِر: “فنحو أن يفلس فيقوم من السوق، أو يريد سفراً، أو ينتقل من الحرفة إلى الزراعة، أو من الزراعة إلى التجارة، أو ينتقل من حرفة إلى حرفة، لأن المفلس لا ينتفع بالحانوت فكان في إبقاء العقد من غير استبقاء المنفعة إضرار به ضرراً لم يلتزمه العقد فلا يجبر على عمله”.


 


    وأما الذي هو في جانب المؤاجر فنحو أن يلحقه دين فادح لا يجد قضاءه إلا من ثمن العين المؤجرة. وأما الذي هو في جانب المستأجَر فمنه بلوغ الصبي الذي أجره أبوه أو جده، أو وصيهما، ومنها أن لا يأخذ الصبي من ثدي الظئر.


 


    ولكن الحنفية لم يجعلوا الرخص أو التوسع من الأعذار، لأنه زيادة منفعة فلا يؤثر في العقد، فلا يجوز له أن يفسخ العقد لأجل أن أجرة الحانوت الذي أجره أغلى من غيره أو أضيق([3])، غير أنهم قالوا: إذا كانت الأجرة لأموال اليتيم، أو الوقف أقل من أجرة المثل تكون الإجارة فاسدة، وتلزم أجرة المثل([4]).


 


    ويظهر أن الحنفية مع الجمهور في لزوم عقد الإجارة غير أن الأعذار الطارئة عندهم بمثابة العيوب التي تعطي حق الفسخ وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل عند الحديث على فسخ الإجارة.


 


    والأدلة من الكتاب والسنة تدل على وجوب الوفاء بالعقود، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ولأن عقد الإجارة من عقود المعاوضات كالبيع فيجب أن يكون ملزماً، بل إن الإجارة – كما قالوا – هي بيع المنافع.


 


 


    علاقة الإجارة بالعقود الأخرى:


 


    1- مع البيع:


 


    فهي تشبه البيع من حيث إن فيها نقلاً لملكية المنفعة إلى الآخر، لكنها تختلف عنه كثيراً لأن نقل الملكية في الإجارة خاص بالمنفعة فقط، وأنه نقل مؤقت بزمن محدد في حين أن البيع نقل لملكية المنفعة والرقبة معاً، أو لإحداهما على سبيل التأبيد، ومن جانب آخر فإن البيع لا يجوز إلا أن يكون منجزاً في حين أن الإجارة تقبل الإضافة حتى التعليق – كما سيأتي –.


 


    ومن جانب ثالث فإن البيع استيفاء المبيع دفعة واحدة، في حين أن الإجارة تقتضي استيفاء المنفعة خلال الزمن المحدد.


 


    وأيضاً إنه ليس هناك تلازم بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز وبين ما تجوز إجارته وما لا تجوز، فالإنسان لا يباع، ولكنه يؤجر، والطعام لا يؤجر، ولكنه يباع([5]).


    قال ابن حزم: “الإجارة ليست بيعاً.. ولو كانت بيعاً لما جازت إجارة الحر.. ولا يختلفون في أن الإجارة إنما هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤاجر التي لم تخلق بعد، ولا يحل بيع ما لم يخلق([6]).


 


2- مع الإعارة:


 


    تتفق الإجارة مع الإعارة في أن كلاً منهما تمليك منفعة ولكنها تختلف معها في أن الإجارة تمليك بعوض، وهي بدون عوض، وفرق البعض بينهما فرقاً آخر، وهو أن الإعارة ليست تمليكاً، وإنما هي إباحة، ويترتب على ذلك آثار كثيرة.


 


3- مع الجعالة:


 


    تتفق الإجارة معها في أن الجعالة عقد قائم على المنفعة أيضاً، ولكنها تختلف عنها في أنها عقد على منفعة مظنون حصولها وأن الجاعل لا ينتفع بجزء من عمل العامل، وإنما بتمام العمل، إضافة إلى أن الجعالة عقد غير لازم قبل إتمام العمل([8]).


 


4- مع الاستصناع:


 


    تتفق الإجارة مع الاستصناع في  أنه أيضاً وارد على منفعة ولكنه يختلف معها في أنه عقد قائم على العمل والعين الموصوفة في الذمة([9]) إضافة إلى أن دائرة الإجارة أوسع بكثير منه حيث الإجارة تكون للأعيان والأشخاص.


 


    والخلاصة:


 


    إن عقد الإجارة عقد مستقل له خصائصه وآثاره وأحكامه الخاصة، وإن هذا التشابه لا يرقى إلى درجة أن تنصهر الإجارة في بوتقة أي عقد آخر.


 


    أنواع عقد الإجارة:


 


    للإجارة تقسيمات باعتبارات مختلفة حيث تتفرع على كل تقسيم عدة أنواع نكتفي هنا:


    بالتقسيم الأول– باعتبار المحل (المعقود عليه). حيث تقسم إلى:  


1-                   إجارة على الأعيان (أي غير الإنسان).


2-                   إجارة الأشخاص.


3-                   والإجارة على الشخص نوعان:


1 – إجارة خاصة (أي الأجير الخاص) وهو ما كان يحصر عمله لخدمة المؤجر، بحيث لا يجوز له أن يعمل سوى عمله، وهذا قد يحدد له زمن في كل يوم كما هو الحال بالنسبة للموظفين، والعمال المستأجرين للعمل في منشأة خاصة أو لشخص، وقد لا يحدد له زمن يومي مثل الخدم الذي يقع عليهم العقد لخدمة مخدوميهم لسنة أو أكثر أو أقل، لكن دون تحديد زمن يومي، فيكون كل أوقاتهم بحسب العرف لهم.


2 – إجارة مشتركة (الأجير المشترك) وهو الذي لا يكون عمله خاصاً بأحد، بل يتقبل الأعمال في ذمته من غير واحد. قال الكاساني: “وهو الذي يعمل لعامة الناس”([10]).


 


 اعلى الصفحة


    التقسيم الثاني– باعتبار كون العقد صحيحاً أم لا:


 


    فالإجارة بهذا الاعتبار تقسم عند الجمهور إلى قسمين وهما:


1- إجارة صحيحة وهي التي توافرت فيها الأركان والشروط، وانعدمت فيها الموانع والمفسدات، بحيث يترتب عليها أثرها الشرعي من حق الانتفاع ونحو ذلك.


2- إجارة باطلة وفاسدة وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط معاً، أو أحدهما، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات.


 


    وعند الحنفية تقسم إلى ثلاثة أقسام:


 


1- إجارة صحيحة– مثل تعريف الجمهور.


2- إجارة باطلة: وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط، أوالأركان فقط، فالمعيار في الباطل عند الحنفية هو ما كان الخلل في الركن، وهذا النوع لا يترتب عليه أي أثر شرعي من آثار العقد.


3- إجارة فاسدة وهي التي لم تتوافر فيها الشروط، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات من الشروط، فالمعيار للفاسد عند الحنفية هو ما كان الخلل في الشرط، وهذا قد تترتب عليه بعض الآثار في بعض الأحوال([11]).


 


    وهذا التقسيم له آثاره وأحكامه، نتحدث عنها عند الحديث عن أحكام الإجارة بإذن الله.


 


    التقسيم الثالث– باعتبار كون المحل معيناً، أو موصوفاً في الذمة:


 


    والإجارة بهذا الاعتبار سواء كانت إجارة الأعيان أم  الأشخاص نوعان:


 


1- إجارة واقعة على منفعة عين معينة، أو شخص معين، مثل أجرتك هذه الدار المعينة بكذا، أو يقول الشخص: أجرتك نفسي بكذا، أو يقول مدير شركة الخدمات مثلاًَ أجرتك هذا الشخص المشاهد لعمل كذا بكذا.


 


2- إجارة واقعة على منفعة عين موصوفة في الذمة مثل أن يقول الرجل: أجرتك سيارة مواصفاتها كذا وكذا بكذا، على منفعة شخص غير معين أو موصوف في الذمة، بأن يقول مدير شركة الخدمات مثلاً: أجرتك لعمل كذا شخصاً مواصفاته ومؤهلاته وخبراته كذا بكذا.


 


جاء في الروضة: “والإجارة قسمان: واردة على العين كمن استأجر دابة بعينها ليركبها، أو يحمل عليها، أو شخصاً بعينه لخياطة ثوب، وواردة على الذمة كمن استأجر دابة موصوفة للركوب، أوالحمل، أو قال: ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب، أو بناء الحائط فقبل، وفي قوله: استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا وجهان، أصحهما: أن الحاصل به إجارة عين للإضافة إلى المخاطب.. والثاني إجارة الذمة، وعلى هذا إنما تكون إجارة عين إذا زاد فقال: “استأجرتك عينك، أو نفسك لكذا، أو لتعمل بنفسك كذا”([12]).


 


    والفرق بين الإجارة المعينة، والإجارة في الذمة واضح من عدة اعتبارات، منها:


1- إن الشيء المستأجر موجود في الإجارة المعينة وقت العقد، وإلا أصبح العقد باطلاً.


    في حين لا تشترط ذلك في الإجارة في الذمة، لأن الالتزام فيها يتعلق بالذمة.


 


2- أن محل الإجارة وهو المنفعة المعقود عليها دين متعلق بذمة المؤجر، وليس متعلقاً بشيءٍ محدد.


 


3- وأن الإجارة المعينة محل اتفاق في حين أن الإجارة في الذمة. قال بها جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة([13]) أما الحنفية فيشترطون في الإجارة تعيين محل العقد، ولايجيزون الإجارة في الذمة، جاء في البدائع- أو فتح القدير.([14])


    وقد نصت المادة 449 من مجلة الأحكام العدلية على أنه: يلزم تعيين المأجور، بناء على ذلك يصح إيجار أحد الحانوتين من دون تعيين أو تمييز.


 


4- أن الأجرة لا يجب تسليمها في محل العقد في الإجارة المعينة بالاتفاق، ولكنها تجب لدى بعض الفقهاء منهم: …


    وهذه المسألة تابعة لأصل آخر وهو أن الإجارة الموصوفة في الذمة هل تعتبر بمثابة السلم في وجوب تسليم الأجرة أم أنها تظل إجارة وتطبق عليها الأحكام العامة لها؟


 


    ذهب المالكية والشافعية إلى أن الإجارة في الذمة سلم في المنافع، وبالتالي فتطبق عليها أحكام السلم من وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد عند الشافعية، وجوازتأخيرها إلى ثلاثة أيام،


 


    إن كان يشترط عند المالكية يراجع([15])….


    وذهب الحنابلة إلى تفصيل فيها فقالوا: ……………………………………….


والذي نرى رجحانه هو قول الحنابلة.


 


    التقسيم الرابع– باعتبار اشتراط الزمن أو عدمه:


 


    فالإجارة بهذا الاعتبار على ضربين:


1- أن يعقدها على مدة.


2- أن يعقدها على عمل معلوم كبناء حائط، وخياطة قميص.


 


    وقد وضع ابن قدامة لذلك ضابطاً وهو أنه: “إذا كان المستأجر مما له عمل كالحيوان جاز فيه الوجهان، لأن له عملاً تتقدر منافعه به، وإن لم يكن له عمل كالدار والأرض لم يجز إلا على مدة, ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، وبهذا قال أبوحنيفة والشافعي، لأن الجمع بينهما يزيدها غرراً، لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدة وقد لا يفرغ من العمل في المدة فإن أتمه عمل في غير المدة، وإن لم يعمله لم يأتِ بما وقع عليه العقد، وهذا غرر أمكن التحرز عنه ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه”([16]).


 


    وذهب أبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية إلى جواز الجمع بين المدة والعمل، قال ابن قدامة: “وروي عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع على أن يدخله في ثلاث فدخله في ست، فقال: قد أضرّ به، فقيل: يرجع عليه بالقيمة؟ قال: لا، يصالحه. وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعاً، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، لأن الإجارة معقود على العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها، لأنه وفى ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شيء آخر، كما لو قضى الدين قبل أجله، وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة، لأن الأجير لم يفِ له بشرطه، وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ، لأن الإخلال بالشرط منه فلا يكون ذلك وسيلة له إلى الفسخ كما لو تعذر أداء المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ، ويملكه المسلم، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير، كالمسلم إذا صبر عند تعذر أداء المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه، وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل، وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله، لأن العقد قد انفسخ فسقط المسمى ورجع أجر المثل”([17]).


LinkedInPin