تميهد :
أردنا بإضافة هذا القسم إعطاء صورة موجزة عن الاقتصاد بصورة عامة ، والاقتصاد الإسلامي بصورة خاصة ، حتى يكون طالب العلم على علم بأهم مبادئ الاقتصاد ، ولوجود علاقة قوية بينه وبين فقه المعاملات المالية ، ولأن هذه المباحث الاقتصادية التي تناولناها تعتبر ضرورية في نظري لطالب العلم وخصوصاً لمن أراد فهم المعاملات المالية الإسلامية ، لذلك تناولنا في هذا القسم أزمات الاقتصاد الوضعي بصورة موجزة ، ثم التعريف بأهم المصطلحات الواردة في الاقتصاد مثل الاقتصاد ، وعلم الاقتصاد ، والنظرية الاقتصادية ، والاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي ، والنظام الاقتصادي أو المذهب الاقتصادي ، وأنواع الأنظمة الاقتصادية ، ومنهجية البحث والاستنباط لبيان الاقتصاد الإسلامي ، ثم تطرقنا إلى الاجابة عن سؤال مهم وهو : هل هناك شيء اسمه الاقتصاد الإسلامي ؟
وكان الجواب بالايجاب ، حيث حللنا المهمات الاقتصادية من القوانين والنظريات التي تحكم العلاقات الاقتصادية ، ومن قضايا الانتاج والاستهلاك والتبادل والتوزيع ، وإعادة التوزيع ، ومن علاج المشكلة الاقتصادية ، فوجدنا أن الإسلام تناول هذه المهمات من خلال رؤيته الخاصة .
ثم تطرقنا إلى النظام الاقتصادي الإسلامي ، وبيان دور الملكية ، ودور الدولة ، وإلى النظريات الاقتصادية ، والرؤية الفلسفية للاقتصاد الإسلامي ، والمشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام وحلها ، ثم ختمناها بمراحل النشاط الاقتصادي التي حصرها الاقتصاديون ، لكني أضفت إليها مرحلة أساسية وهي التملك .
فمعرفة هذه الأمور في غاية من الأهمية لطالب العلم وخصوصاً لمن يريد فهم المعاملات المالية الإسلامية .
أزمات الاقتصاد الوضعي ( الرأسمالي ، والاشتراكي ) :
أعتقد أنه يكفي للاستدلال على الأزمات الخانقة للاقتصاد الاشتراكي المتمثل بالاقتصاد الشيوعي ما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق ، حيث أدت إلى انهياره تماماً على الرغم من قوته العسكرية والنووية والتكنولوجية ، وظهرت للعالم أجمع الآثار السيئة التي تركها الاقتصاد الشيوعي على شعوب الاتحاد السوفيتي من حيث الفقر والتخلف ، بل إن الشعوب الأوربية التي حكمها هذا الاقتصاد الشيوعي لا يمكن تفسير فقرها وتخلفها إلاّ من خلال النظام الشيوعي السياسي والاقتصادي ، وإلاّ فإن جاراتها المباشرة من الأوربيين الغربيين يختلفون اختلافاً جذرياً من حيث التقدم والرفاهية والغنى عن هؤلاء الذين حكمهم النظام الشيوعي بل إن الألمان شعب واحد ، وخصائصهم واحدة ، فيكف إذن يفسر تخلف الجزء الألماني الشرقي ، واختلافه اختلافاً جوهرياً من حيث التقدم والرفاهية عن الجزء الغربي الذي حكمه الاقتصاد الرأسمالي .
وأما الاقتصاد الرأسمالي فقد واجهته أزمات كثيرة منذ بداية نشأته ، حيث كانت أولى هذه الأزمات تكمن في أزمة حقوق العمال والتنافس الحرّ مما أدى إلى ظهور صراعات شديدة استطاع الفكر الرأسمالي أن يعالج بعض آثارها من خلال السماح بنقابات العمال التي تدافع عن حقوق العمال …. .
وهناك أزمات أخرى تكمن في أن الفكر الرأسمالي الحرّ يزيد الأغنياء غنى على حساب الفقراء حيث يزدادون فقراً ، ولكن الدول حاولت علاج هذه المشكلة من خلال الضمان الاجتماعي والصحي ونحوه من الضمانات التي تضمن لهم بعض الحقوق .
ولكن الأزمات الكبيرة المستمرة تكمن في البطالة والتضخم ، والكساد منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا ، وقد بلغت ذروتها في امريكا عام 1929 حيث انهارت أسعار الأسهم في بورصة ( ول ستريت ) في نيويورك ، كما هبطت كل المؤشرات الاقتصادية التجارية والصناعية والزراعية والانتاجية للهبوط وبلغت مؤشرات البطالة إلى سبعة ملايين عامل في عام 1930م في أمريكا وحدها ، وفشلت الخطط التنموية ، ووضعت خطة تنموية خمسية عملاقة ( 1939 ـ 1944 ) فاستطاعت أن تحقق معدلات نمو عالية ، حيث اعتمدت على ما يأتي :
ائتمان وفير ورخيص جداً ـ أي بفائدة قليلة جداً ـ من خلال دعم الحكومة ، وبنك الاحتياطي الفدرالي للقطاعات الانتاجية ( الصناعة ، التشييد ، والتعدين ، توليد القوى ، النقل ، الزراعة ، …. ) .
عناية قصوى بالعلماء والمهندسين وتشجيع هجرة العقول من أوروبا وغيرها إلى أمريكا ، ويكفي للاستدلال على ذلك مشروع ( مانهاتن ) حيث جُمِع فيه اثنان وعشرون ألف عالم ومهندس توصلوا إلى كشف أسرار الذرة معاً .
استخدام الطاقة ( الكهرباء ونحوها ) وتوليدها على نطاق واسع جداً ، وحسن استخدامها في التصنيع .
خطة محكمة لاستثمار ضخم في الصناعات الرأسمالية والمواد الأولية .
ونجحت أمريكا مع أنها دخلت في الحرب العالمية الثانية ، لكنها خرجت منها وهي أقوى الدول الأوروبية التي خرجت منهكة ولذلك فرضت علمتها ( الدولار $ ) عملة دولية .
وأما أوروبا فقد أصابتها الأزمات السابقة إضافة إلى دخولها في حربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن ، حيث ادى إلى انهاك قوتها ، وانهيار بريطانيا العظمى التي لم تغب عن ملكها الشمس ، حيث انحسرت انحساراً شديداً ، وتحررت معظم الدول مما أدى إلى خروج بريطانيا من كونها القوة العظمى في العالم[1] .
وهناك أزمات مستديمة تخص الطاقة ، وأسعار الصرف والدورات الاقتصادية ، والموجات الانكماشية ، والفائدة ، وأزمة الديون الخارجية ، وتنعكس آثارها بشكل كبير على الدول النامية من حيث التبعية ، والتنمية الاقتصادية ، بل إن هذه الدول تتحمل أزمة الركود التضخمي مرتين ، مرة من خلال تأثير التضخم العالمي ، ومرة من خلال التضخم الداخلي[2] ، ناهيك الآن من مشكلة التجارة العالمية والعولمة التجارية التي تعطي فرصة كبيرة للشركات والبنوك العملاقة أن تبلع الشركات والبنوك الصغيرة ، أو على الأقل تكون غير قادرة على المنافسة .
سرّ عدم انهيار الاقتصاد الرأسمالي :
رأينا كيف أن الاقتصاد الشيوعي انهار ، وأما الاقتصاد الصيني الحالي الناجح ففي حقيقته ليس اقتصاداً شيوعياً ، بل هو اقتصاد حرّ واقتصاد سوق أي اقتصاد رأسمالي مع ادخال تعديلات عليه .
ولكن الاقتصاد الرأسمالي بقي متماسكاً ، وإن كان يتجه نحو الانحدار منذ الحرب العالمية الأولى بالنسبة لأوروبا وفي أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية ، وهنا يثور التساؤل حول بقائه واستمراره ؟
للجواب عن ذلك نقول : إن سرّ بقائه إلى الآن هو عدة أسباب ، من أهمها :
أن الفكر الديمقراطي السائد في امريكا واوروبا يساعد على مناقشة الأخطاء ، وبالتالي علاجها بقدر الامكان ، في حين أن الفكر الدكتاتوري في الاتحاد السوفيتي كان وراء انهيار الاقتصاد الشيوعي فيه .
ومن هنا نستطيع القول أن هناك فروقاً كبيرة بين الفكر الرأسمالي اليوم ، والفكر الرأسمالي منذ نشأته ، فالديمقراطية تحقنه بجرعات نشطة دائماً .
أن الرأسمالية ـ كما يقول الفيلسوف جارودي ـ عاش على خيرات ثلاث قارات احتلها ، أو استغلها فنهب ثرواتها لقاء ثمن بخس ـ إن كان هناك ثمن ـ ولا زالت تستغل هذه الثروات لصالحها[3] .
إن الرأسمالية اليوم ليس في مقابلها نظام قوي مطبق يقف أمامها فيطرح اسلوبه في الحلول ، وآلياته في العلاج ، وبرامجه للتنمية ، وأدواته للنهضة الاقتصادية .
ولذلك فالأمل كبير في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يكون قادراً لأن يعطي هذه الحلول لكل هذه المشاكل ، وذلك لأن وراء معظم هذه الأزمات الاقتصادية أزمة الأخلاق والقيم وبالتالي فإن للعقيدة الصحيحة والأخلاق والقيم دوراً عظيماً في الاصلاح ، حتى في التنمية وإعادة التوزيع بالعدل والانصاف بعيداً عن الاستغلال والاعتساف .
التعريفات بأهم المصطلحات الواردة في الاقتصاد :
إن التعريفات الدقيقة للمصطلحات العلمية لأي علم هي المدخل المناسب للدخول فيه من أوسع أبوابه ، وبالتالي يمكن للباحث أن يستفيد من مضامينه وكنوزه شيئاً فشيئاً ، لذلك نعرف بأهم المصطلحات الواردة في مجالات المال والاقتصاد .
1ـ الاقتصاد :
الاقتصاد : مصدر اقتصد ، وأصله من القصد ، وله عدة معان مثل الوسط ، واستقامة الطريق ، فيقال : قصد الطريق قصداً : استقام ، وقصد في الأمر : توسط ، فلم يُفرِط ، ولم يفرّط ، وقصد في الحكم : عدل ولم يمل ناحية ، وقصد في النفقة : لم يسرف ولم يقتر ، وقصد في مشيه : اعتدل ، وكذلك الحال في لفظ اقتصد ، حيث يقال : اقتصد في أمره : توسط ، واقتصد في النفقة : لم يسرف ولم يقتر ، ويطلق القصد على التوجه إلى الشي عمداً أي مع النية ، فيجمع على القصود ، ومنه المقصد والمقاصد[4] .
وفي القرآن الكريم ورد ( قصد ) ومشتقاته عدة مرات منها قوله تعالى : ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ )[5] أي اعتدل دون إسراع ، ولا بطء ، ومنها قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ …. ) أي المتوسط في الطاعات[6] ، وقوله تعالى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) أي عادلة [7] ، وقوله تعالى : ( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ )[8] ومنها قوله تعالى : (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً…..) أي سهلاً مقتصداً [9] ، ومنها قوله تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ) أي استقامة الطريق ، والاعتدال[10] .
وقال الأصفهاني : ( والاقتصاد على ضربين أحدهما : محمود على الاطلاق ، وذلك فيما له طرفان : إفراط وتفريط كالجود فإنه بين الإسراف والبخل …. ، والثاني : يكنّى به عما يتردد بين المحمود والمذموم …. وعلى ذلك قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)[11] .
ولا يختلف معنى القصد والاقتصاد في السنة عما ذكرناه ، فقد ترجم البخاري : باب القصد والمداومة على العمل ، قال الحافظ ابن حجر : ( القصد : هو سلوك الطريق المعتدلة .. وفسّروا السداد بالقصد ، وبه تظهر المناسبة )[12] وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أحمد بالقصد[13] ( أي التوسط والاعتدال ) فقال : ( عليكم القصد )[14] وروى مسلم ، وأحمد ، وأصحاب السنن بسندهم عن جابر بن سمرة قال : ( كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصداً ، وخطبته قصداً ) أي وسطاً بين الطول الظاهر والتخفيف الماحق .
وقصدي من هذا العرض أن الاقتصاد لم يرد بمعنى الأنشطة الاقتصادية في عرف اللغة ، ولا في الكتاب والسنة ، ولكن معناه يسع للمعنى الاصطلاحي المعاصر الذي يقصد به النشاط أو التعامل المادي التجاري والصناعي ، والزراعي ، والعقاري ، وما يتصل به من خدمات مالية[15] .
2ـ علم الاقتصاد :
تعددت تعريفات علم الاقتصاد لدى الاقتصاديين وبين الغربيين ، فعرفه آدم سميث (ت1790هـ) بأنه العلم الذي يدرس الكيفية التي تمكن الأمة من أن تغتنى[16] وعرفه الفريد مارشال (ت1924م) بأنه علم يبحث في كيفية حصول الإنسان على دخله ، وكيفية استعمال هذا الدخل[17] وعرفه بيجو بأنه الدراسة التي تعنى بزيادة الرفاهية[18] وقال آخرون : أنه دراسة لسلوك الإنسان من جهة تعلقه باستعمال الموارد النادرة في إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها واستهلاكها[19] .
والخلاصة أن علم الاقتصاد يدور حول دراسة الحياة الاقتصادية من جميع نواحيها[20] أو بعبارة أخرى فهو يبحث عن أساليب إنتاجية وتوزيعية تمكن المجتمع من استخدام الموارد الاقتصادية المتاحة له بكفاءة لإنتاج مختلف السلع التي يرغب فيها[21] .
فعلى ضوء ذلك فإن علم الاقتصاد يختلف عن المذاهب والنظم الاقتصادية ، إذ أن النظام الاقتصادي هو الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية ، وحل مشاكلها العملية ، فالنظام الاقتصادي يرتبط بأيدلوجية المجتمع للعدالة الاجتماعية فيما يخص الملكية ، ووسائل التملك ، والحرية ونحوها[22] .
إن مهمة علم الاقتصاد هي ما يأتي :
استنباط القوانين والنظريات الاقتصادية التي يعتقد أنها تحكم العلاقات التي تربط مختلف الظواهر الاقتصادية[23] .
فعلم الاقتصاد عام ولكنه يتخصص ويتلون بلون العقيدة (الأيدولوجية) أو الفلسفة التي ينبثق منها علم الاقتصاد ، والمبادئ العامة التي تتحكم فيه ، فإن كانت رأسمالية فيقال : علم الاقتصاد الرأسمالي ، وإن كانت اشتراكية فيقال : علم الاقتصاد الاشتراكي ، وإن كانت إسلامية فيقال علم الاقتصاد الإسلامي .
تحقيق أنسب قدر مستطاع من الإنتاج عن طريق الاستغلال الأمثل للموارد .
توزيع هذا الإنتاج للوصول إلى تحقيق قدر ممكن من الرفاهية[24] .
3ـ النظرية الاقتصادية :
النظرية الاقتصادية تمثل الأداة أو الوسيلة التي يتسعين بها المحلل الاقتصادي في إجراء تحليله للظواهر التي يدرسها ، والإجابة على السؤال : لماذا ؟
فهي تعتمد على تكوين صورة مبسطة عن الهيكل الواقعي ، لذلك تتكون من مجموعة من المفاهيم والمصطلحات الخاصة التي تعين على استخراج النتائج من :
افتراضات بديهية ، وهي أخذ الأشياء كما هي عليه في الواقع مأخذ التسليم بصورة مبسطة .
وافتراضات معللة معمقة قائمة على التحليل والتأصيل[25] .
النظرية الاقتصادية قابلة للخطأ ، وعدم صلاحها لواقع معين :
فالنظرية الاقتصادية وإن كانت علمية لكنها يتحدد إطارها بملاحظة الواقع وتفسيره ، وبالتالي فهي تقبل الخطأ والصواب ، يقول بعض الاقتصاديين : ( إن من يقول : إن النظرية سليمة حقاً ، ولكن الواقع شيء آخر .. فهو إما مخطئ من فهمه للأمور أو مخطئ في حكمه على سلامة النظرية ) وكذلك يعتبر من الخطأ القول بعمومية النظرية الاقتصادية لكل الدول والمجتمعات المختلفة[26] .
وهذا لا يعني أننا لا نستفيد منها ، أو لا ندرسها ، ولكن لا بدّ من رعاية البيئة وقيمها وفلسفتها في مدى صلاحية تلك النظرية لها .
4ـ المشكلة الاقتصادية :
المشكلة الاقتصادية الكبرى في نظر الاقتصاديين هي عدم القدرة على إشباع جميع الاحتياجات البشرية بسبب ندرة الموارد الاقتصادية ، وبعبارة أخرى فإن الاحتياجات البشرية لا تتناهى ، والموارد محددة ، وبالتالي تقع الإشكالية المذكورة التي تزداد مع تطور المجتمعات ، فاحتياجات عصرنا أكثر بكثير من احتياجات القرن العاشر مثلاً .
وعلم الاقتصاد يبحث عن حلّ هذه المشكلة من خلال تحديد هذه الاحتياجات ، وتنظيم الإنتاج ، وتوزيع الإنتاج وتحقيق النمو الاقتصادي[27] .