القاعدة العامة هنا هي: أن كل ما صحَّ أن يكون ثمناً في البيع صحَّ أن يكون أجرة في الإجارات([1]) سواء كان نقداً (دراهم، ودنانير)، أو عيناً، أو منفعة، ولذلك اشترط الجمهور في الأجرة ما اشترط في الثمن([2]).
قال الرافعي والنووي: “يجوز أن تكون الأجرة منفعة سواء اتفق الجنس كما إذا أجر داراً بمنفعة دار، أو اختلف بأن أجرها بمنفعة شخص، ولا ربا في المنافع أصلاً حتى لو أجر داراً بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب جاز، ولا يشترط القبض في المجلس”([3])، ومنع الحنفية أن تكون الأجرة منافع([4]).
وقد أجاز المالكية أن تكون الأجرة من نفس الشيء الذي يعمل فيه الأجير مثل أن يستأجره لطحن إردب بدرهم وقفيز من دقيقه، ولعصر الزيتون بنصف الناتج، لأنهما لا يختلفان بعد العصر، ولجواز بيع نصفها كذلك، فإن كان يختلف امتنع، قال القرافي: “وتمتنع الإجارة على سَلَم الشاة بشيء من لحمها لأنه مجهول قبل السلخ..” وعن أبي الحسن: إذا دبغ جلوداً بنصفها قبل الدباغ على أن يدفعها كلها، فإن فاتت بالدباغ فعلى الدباغ نصف قيمتها يوم قبضها، وله أجرة المثل في النصف الآخر لحصول العمل، وإن دبغها بنصفها بعد الدباغ فدبغت فهي كلها لربها، لفساد العقد بسبب الجهالة المدبوغ، وللدباغ أجرة مثله…
ويجوز على قول أشهب الإجارة على الذبح، أو السلخ برطل لحم، لأنه يجوز بيع ذلك اعتماداً على الجنس([5]).
تعليق الأجرة على أحد الأمرين، أو النسبة:
وأجاز بعض الحنفية بعض صورها مثل أن يدفع إلى الحائك غزلاً ينسجه بالنصف حيث أجازه مشايخ بلخ([6])، وتوسع الحنابلة في ذلك إذا كان بجزء شائع([7]) ومنعه الشافعية وجمهور الحنفية([8]).
ومنع المالكية أن تكون الأجرة مترددة بين أمرين بأن يقول إن خطته اليوم فبدرهم، أو غداً فبنصف درهم، أو خياطة رومية فبدرهم، أو عربية فنصف درهم، لأنه كبيعتين في بيعة، فإن خاط فله أجرة مثله لفساد العقد، وقيد بعضهم بأن لا تزيد على المسمى، وعن مالك في أجراء يخيطون مشاهرة فيدفع لأحدهم الثوب على إن خاطه اليوم فله بقيمة يومه، وإلا فعليه تمامه في يوم آخر، ولا يحسب له في الشهر: يجوز في اليسير الذي لو اجتهد فيه لأتمه، ويمتنع في الكثير، ولو استأجره على تبليغ كتابه إلى بلده ثم قال بعد الإجارة: إن بلغته في يوم كذا فلك زيادة كذا، فكرهه، واستحسنه في الخياطة بعد العقد، قال ابن مسعدة: هما سواء، وقد أجازهما سحنون وكرههما غيره.
وأما الحنفية فلديهم خلاف وتفصيل في هذه المسألة، حيث ذهب أبوحنيفة- رحمه الله – إلى أن الشرط الأول (اليوم) صحيح، والثاني (غداً) فاسد حتى لو خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غداً فله أجر مثله، وقال أبويوسف: الشرطان جائزان، وقال زفر: الشرطان باطلان([9]).
إذن في المسألة أربعة مذاهب:
المذهب الأول: العقد فاسد، والشرط باطل وهو رأي المالكية – على التفصيل السابق – والشافعية، وزفر([10]).
والمذهب الثاني: العقد صحيح، والشرطان صحيحان، وهو رأي الصاحبين وأحمد في رواية([11]).
المذهب الثالث: الشرط الأول صحيح، والثاني فاسد، وله أجر مثله، وهو رأي أبي حنيفة في ظاهر الرواية([12]).
المذهب الرابع: مثل الرأي الثالث، ولكن في اليوم الثاني له أجر مثله لا يزداد على نصف درهم، وهو إحدى روايتي ابن سماعة في نوادره، عن أبي يوسف، وابي حنيفة([13]).
وحجة القائلين بفساد العقد تكمن في أن ذلك يدخل في اجتماع شرطين في العقد، أو صفقتين في صفقة واحدة، وهذا منهي عنه.
ولكن التحقيق أن المراد بهما هو اجتماع السلف مع البيع أو الإجارة([14]).
وأما حجة القائلين بالجواز هو أن هذا الشرط، أو الشرطين ليس فيه، أو فيهما مخالفة لنص من الكتاب والسنة، ولا لمقتضى العقد، ولا يؤدي ذلك إلى غرر، وجهالة تؤدي إلى نزاع، لذلك؛ فالراجح هو المذهب الثاني، لما ذكرنا، ولأن الأصل في الشروط الصحة إلا إذا دل دليل على فسادها، ولا دليل هنا على ذلك، بل يحقق غرضاً مشروعاً، وقد ذكر الكاساني أن العاقد سمى في اليوم الأول عملاً معلوماً، وبدلاً معلوماً، وكذلك في اليوم الثاني، فلا معنى إذن لفساد الشرط فضلاً عن فساد العقد([15])، ولأنه سمى لكل عمل عوضاً معلوماً كما لو قال: كل دلو بثمر، إضافة إلى أن التعجيل والتأخير مقصودان فينزل منزلة اختلاف النوعين([16]).
و أجاز مالك أن تكون الأجرة الكسوة بأن يستأجره على أن يكسوه أجلاً معلوماً، وبالمقايضة بأن يدفع خمسين جلداً على أن تدبغ خمسين أخرى مثلاً، ولم يجيزوا الكراء بمثل ما يتكارى الناس للجهالة، ولا إكراء الدابة بنصف الكراء. وإذا عمل فله أجرة مثله، وأجازه يحيى بن سعيد، وكذلك أجاز أن يقول: احتطب على الدابة، ولي نصف الحطب، أو لي نقلة، ولك نقلة (والأخيرة أجازها الجميع لأن مقدار النقلة معلوم عادة، ومقدار الحطب يختلف)، وجوز ابن القاسم: اعمل عليها اليوم لي، وغداً لك، وأجاز أشهب: احمل طعاماً إلى موضع كذا ولك نصفه، وأجازوا كذلك أن تختلف الأجرة من شهر أو يوم إلى آخر بأن تكون أجرته في الشهر الأول خمسة، وفي الثاني ستة أو بالعكس([17]).
عدم تسمية الأجرة، ثم التراضي:
أجاز مالك في رواية لابن يونس عنه عدم ذكر الأجرة في العقد، ثم إرضاء الأجير([18]) وهذا مبني على العرف، وعلى أن الأساس هو التراضي.
والخلاصة: أن الشرط الأساسي في الأجرة هو أن تكون معلومة علماً يدرأ جهالة مؤدية إلى النزاع من خلال التعيين، أو الوصف ببيان الجنس، والنوع والقدر، وذلك للأحاديث الواردة في نفي الغرر والجهالة([19]).
[1]- الذخيرة حيث ذكر هذه الكلية وأسندها إلى الأئمة دون خلاف: 5/376؛ والروضة: 5/176؛ والمغني لابن قدامة: 5/441؛ والبدائع: 6/2606.
[2]- التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل، ط. درالكتب العلمية ببيروت: 7/494؛ والفتاوى الهندية: 4/412؛ وبدائع الصنائع: 6/2606؛ ونهاية المحتاج: 5/322؛ والمغني لابن قدامة: 5/440- 441.
[3]- الروضة: 5/176.
[4]- بدائع الصنائع: 6/2608.
[5]- الذخيرة للقرافي 5/376- 377.
[6]- الفتاوى الهندية: 4/445.
[7]- المغني لابن قدامة: 5/442.
[8]- الروضة: 5/176؛ والفتاوى الهندية: 4/445.
[9]- بدائع الصنائع: 5/2584.
[10]- الذخيرة: 5/377؛ والروضة: 5/175؛ والبدائع: 5/2585.
[11]- بدائع الصنائع: 5/2585.
[12]- البدائع: 5/2584؛ والكافي لابن قدامة: 2/392؛ والمغني لابن قدامة.
[13]- المصدر السابق نفسه.
[14]- يراجع للتفصيل في معاني الأحاديث الواردة في هذا المجال بحثنا المنشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة بعنوان: أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة فقهها وتخريجها.
[15]- البدائع: 5/2585.
[16]- العناية شرح الهداية: 7/131.
[17]- الذخيرة: 5/385.
[18]- الذخيرة: 5/387؛ ومواهب الجليل: 7/494.
[19]- يراجع السنن الكبرى للبيهقي: 6/120- 121.