على ضوء العرض السابق وجدنا أن دائرة القطعيات ليست واسعة ، وإنما هي محصورة فيما ذكرناه ، ويبقى فيما عدا ذلك مجالاً للاجتهادات التي من عادتها الاختلاف ، لأنها من نتاج العقل البشري المستهدي بهدي الله تعالى والمسترشد بالمبادئ العامة والقواعد الكلية للإسلام ومقاصد الشريعة الغراء حتى أصبح تغير الفتاوى ، والأحكام الاجتهادية عنواناً بارزاً في تشريعنا الإسلامي ، يقول ابن خلدون : ( إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله قد خلت في عباده )[1] .


 والشريعة لم تغفل سنة التغير والتطور وتبدل الأحول ، ولذلك شرع الاجتهاد بل أوجبه وهو قائم على هذه السنة ، يقول ابن القيم ( فصل في تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد / بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد : هذا فصل عظيم النفع جداً ، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة ، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، و حكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجوْر ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدْل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالة وأصدقها ، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون ، وهداه الذي به اهتدى المهتدون ، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل ، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل ، فهي قرة العيون ، وحياة القلوب ، ولذة الأرواح ؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة ، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها ، وحاصل بها ، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوى العالم ،وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا ، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها ، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم ، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة )[2] .    


  


نطاق المتغيرات :


 فنطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع جداً وهو يشمل كل الاجتهادات الفقهية السابقة،إضافة إلى منطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح حسب الاجتهادات الفقهية . يقول إمام الحرمين : (إن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها)[3] .


 وذلك لأن الاجتهادات الفقهية السابقة لفقهائنا الكرام ـ ما دامت ليست محل إجماع ـ تقبل إعادة النظر،بل ينبغي إعادة النظر فيها وغربلتها بكل تقدير واحترام من خلال الاجتهاد الانتقائي،والترجيح فيما بينها للوصول إلى ما هو الراجح،ثم تنزيله على قضايا العصر بكل دقة ووضوح .


 بل يمكن إعادة النظر في فهم هذه النصوص الظنية مرة أخرى على ضوء قواعد اللغة العربية وأصول الفقه ، والسياق واللحاق وحينئذٍ يمكن الوصول إلى معان جديدة وأحكام جديدة لم ينتبه إليها السابقون ، أو لم يخترها الجمهور ، بل ذكرها قلة قليلة من السابقين .


 وأما منطقة العفو فيكون الاجتهاد فيها اجتهاداً انشائياً لا بد من توافر شروط الاجتهاد وضوابط من يتصدى له .


 ونطاق المتغيرات يشمل ما عدا الأصول والثوابت القطعية ، وفي غير أصول العقائد والعبادات ، وأكثر ما يظهر في عالم المعاملات الاقتصادية والمالية والقضايا السياسية والطبية ، والعلاقات الدولية ونحوها ، يقول الإمام الشاطبي:(مجال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما ، والنفي في الآخر فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات)[4] .


ويقول الغزالي : (المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي)[5] .


 


ضوابط الاجتهاد في المتغيرات :


من أهم هذه الضوابط والشروط ما يأتي :



أ ـ أن يكون لديه علم بالقرآن الكريم عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، وأساليبه ، ودلالاته بصورة عامة ، وكذلك العلم بالسنة النبوية وضوابط الحديث الصحيح والحسن ، والضعيف ، والموضوع ، وكذلك العلم بالناسخ والمنسوخ . وان يكون قادراً على استخراج العلل والأسباب والحكم ، والشبه من النصوص ، والتعامل مع عموم النص ومن إجماله ، ومن أحواله ودلاله ودلالاته وإماراته[6] .


ب ـ أن يكون لديه العلم بقواعد اللغة العربية علماً عميقاً ، والعلم بأصول الفقه ، ومبادئه ، وقواعده الكلية،وبالأعراف السائدة ،والمستجدات وما حدث في عصرنا ولو بصورة مجملة .


ج ـ أن يكون لديه العلم بالمجمع عليه والمختلف فيه من حيث الجملة ،وذلك من خلال دراسته لآراء الفقهاء وأصول المقارنة وكيفية الترجيح والتخريج والتنظير .


د ـ أن يكون قادراً على فهم مقاصد الشريعة على كمالها،يقول الشاطبي:(بأن يبلغ مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة،وفي كل باب من أبوابها،فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله)[7] .  


 


 اعلى الصفحة


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 


([1] ) المقدمة (ص24 )


([2]) أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم ط. النهضة الجديدة بالقاهرة 1388هـ  (3/3)


[3])) البحر المحيط ، ط.الكويت (4/472)


[4])) الموافقات (2/519)


[5])) المستصفى (2/354)


[6])) البحر المحيط ، ط.الكويت (6/231 ـ 232)


[7])) الموافقات (2/477 –478) ط.دار المعرفة