-
ثلاثة مبادئ عظيمة موجزة في العلاقات الدولية في الإسلام
-
السيرة والتأريخ
-
الوثيقة أول دستور على مرّ التأريخ يعطي حق المواطنة للآخر
-
التطبيقات العملية للعلاقات الدولية في حالة السلم
-
حقوق غير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية
السيرة والتأريخ : ( نبذة من سيرة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم) مع الآخر في المدينة ..
نزل الإسلام لتنظيم علاقة الإنسان بربه ، وبأخيه الإنسان مسلماً أو غير مسلم ، وبالكون الذي حوله ، ووضع لذلك منهجاً متكاملاً ، ومبادئ عامة ، وقواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان ، لما لها من قابلية للتطوير والمعاصرة مع الحفاظ على الأصالة والثوابت .
وفي الفترة المكية لم تكن هناك دولة ، وإنما كانت العلاقة فردية ، يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً إلى الدخول في دين الله والاهتداء بصراطه المستقيم ، وإلى التوحيد ، وبناء الإنسان على العقيدة الصحيحة ، والتربية السليمة الشاملة لجوانب الإنسان الروحية والنفسية البدنية والاجتماعية …
وقد تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الكثير والكثير من الأذى النفسي والبدني في سبيل تبليغ الدعوة الحقة ، وكان شعارهم (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة)[1] والدعاء لهؤلاء المشركين الذين يؤذونهم:(اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وتأسست دولة الإسلام الأولى سعى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقوية المجتمع المدني والجبهة الداخلية من جانبين أساسين :
أ ـ الجانب الخاص بالمسلمين حيث قام بتوحيد أواصر الاخوة الحقيقية فيما بينهم من خلال التآخي بين المهاجرين بعضهم وبعضهم ، ثم بين المهاجرين والأنصار حيث أشرك الأنصار حقاً إخوانهم المهاجرين في أموالهم ، وفي نخيلهم وثمارهم [2].
ب ـ الجانب العام الشامل لكل من يعيش على أرض المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم من خلال الوثيقة التي كانت الدستور لتنظيم العلاقة بين أهل المدينة على أساس المساواة في المواطنة في الحقوق والواجبات والدفاع عن المدينة ونحوها [3].
ثم كانت العلاقة بين الدولة الإسلامية الفتية وقريش ، والقبائل المحيطة بها علاقة هجوم وحرب من قبلهم عليها ، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الدفاع عن الإسلام ودولته مع حرصه الشديد على نشر الدعوة أولاً والتصالح معهم ، ولكنهم كانوا لا يلتزمون بعهودهم ومواثيقهم .
وأما موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الدول المحيطة بالجزيرة هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا رؤساءها من خلال رسائل إليهم إلى الدخول في الإسلام ، وحينئذٍ يبقون على حكمهم مع إجراء الإصلاحات والعدالة التي يقتضيها الإسلام .
الدعوة العالمية ، والاخوة الإنسانية حتى في حال الشدة والمحنة ، أو النصر والقوة …
لم يغب عن بال الرسول صلى الله عليه وسلم ان دعوته عالمية إنسانية ، وأن رسالته رحمة للعالمين ، وأن البشر جميعاً تجمعهم الاخوة الإنسانية ، والمساواة في الأصل الواحد والكرامة ، وأكد على هذه المبادئ والمعاني في حال الشدة والمحنة ، وفي حال النصر والظفر والقوة ، فقد قال في خطبة الوداع : ( …. والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب )[4] ثم قال : ( يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربيّ على أعجمي ، ولا لعجمي على عربيّ ، ولأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى )[5] .
قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في قمة انتصاراته وفتوحاته التي يتوقع من الإنسان العادي أن تدفعه نشوة النصر إلى التباهي والتفاخر ، والخروج عن التوازن ، فإذا به صلى الله عليه وسلم يضمن هذه المبادئ السامية في خطبة الوداع ووصيته الأخيرة ليتبين أن هذه الرسالة من عند الله تعالى نزلت رحمة للعالمين أجمعين ، وأنها تريد الخير والمصالح والمنافع لهم جميعاً حتى يعيشوا في أمن وأمان ورفاهية وسلام ، ويكون لهم حسن ثواب الدنيا ، وحسن ثواب الآخرة ، وحتى الذي لا يريد الآخرة فالإسلام أعطاه أن يعيش في دنياه في أمن وأمان ما دام لا يظلم ولا يعتدي ، ولا يفسد في الأرض .
الواقع العملي فيما فعله غير المسلمين مع المسلمين على مرّ التأريخ ” بإيجاز شديد ” :
إن علاقة المسلمين بغيرهم ليست جديدة ، بل نشأت منذ نشاة الإسلام في مكة المكرمة ، حينما بعث الله رسوله الخاتم محمداً إلى الناس أجمعين ، ولكنه كان وحيداً ثم آمن به أفراد معدودون من كل الفئات ، فأوذوا في سبيل الله فصبروا حتى تمكنوا من الجزيرة ، ثم من معظم الأرض بفضل الله .
وكانت العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام من جانب وبين المشركين في مكة المكرمة علاقة اضطهاد وظلم وايذاء بالغ ، ثم حرب ضروس ، ومحاولة للقضاء التام والتصفية من قبل المشركين على الإسلام وأهله ، وطمس معالمه ، فقد قتلوا بالتعذيب عدداً من الصحابة الكرام ، وحاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه حتى خرج مهاجراً إلى المدينة المنورة ، ولم يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أيضاً ، فجهزوا الجيوش للقضاء عليه تماماً ، في بدر الكبرى ، ثم في الأحزاب وغيرهما .
إذن كانت العلاقة بين المشركين وبين الإسلام في مكة وغيرها من الجزيرة كانت علاقة حرب استئصالية ـ بكل ما تعني هذه الكلمة ـ وكان بينهما حرب لا يعترف فيها المشركون بأية مبادئ أو أخلاقيات وقت الحرب ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في موقع الدفاع عن النفس ، وعن الحرية الدينية ، وعن منع الفتنة في الدين .
ومع كل ذلك التزم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل المدينة المنورة دار سلم وتعايش بين أهلها جميعاً ، فأعطى الحرية الدينية الكاملة ، فقام بوضع أول دستور في العالم يقر حقوق المواطنة لليهود من خلال الوثيقة ـ التي سنتناولها فيما بعد ـ ولكنهم نقضوا العهد ، وحاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكتفوا بذلك بل خانوا فاتصلوا بالأعداء المشركين بل شجعوهم على الحرب ، وساهموا معهم بالتأييد والتحريض ، ثم بالفعل في محاولة القضاء المبرم على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في غزوة الأحزاب ، وارتكبوا بذلك الجريمة الكبرى التي تستحق أقصى العقوبات .
ومع هذه الأجواء المتوترة المشحونة بالظلم والقهر وإرادة الإبادة تنزل الآيات القرآنية الآمرة بالعدل والقسط وعدم الاعتداء إلاّ بمثله ، بل الدفع بالتي هي أحسن ، وبيان أن الكافرين ليسوا سواء .
ثم لما تكونت دولة الخلافة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حافظت على مبدأ الحرية الدينية ، وكرامة الإنسان وحقوقه .
فلم يسجل التأريخ طوال فترة الحكم الإسلامي حالات الاكراه وإدخال الغير في الإسلام قهراً ، وأكبر دليل على ذلك أن دولة الخلاقة الراشدة ، ثم الأموية ، والعباسية ، والعثمانية حكمت معظم العالم عدة قرون ، ومع ذلك بقيت فيها جميع الأديان ، فلا يزال النصارى في العالم العربي ( مصر والشام والعراق ) ينعمون بحريتهم الدينية وكذلك اليهود إلى أن اختاروا الذهاب إلى فلسطين المحتلة ، فلو كانت الدولة الإسلامية تستعمل العنف والاكراه للدخول في الإسلام لما بقوا فيها أو أسلموا ، أو تركوا البلاد ، كما حدث مثل ذلك عكسياً في الأندلس ، حيث حكمها المسلمون ثمانية قرون ، ومع ذلك بقي فيها المسيحيون بكثرة ، ولما حكمها الصليبيون لم يتركوا مسلماً واحداً ، أو يهودياً واحداً إلاّ أمام أحد الخيارات الثلاثة : القتل والتحريق ، أو التنصير ، أو الخروج فوراً ، ولذلك صفيت لهم الأندلس خلال فترة وجيزة ، ولم يبق فيها المسلمون حتى كأقلية ، بل ولا أفراد .
وحتى في العصر الحديث فلننظر ماذا فعل الشيوعيون في الاتحاد السوفيتي السابق ، وفي يوغسلافيا بالمسلمين ، وماذا فعل الصربيون بالمسلمين في البوسنة ، والهرسك ، قتلوا منهم مئات الآلاف ، واعتدوا على أعراض نشائهم بالعشرات …. .
ونحن هنا نذكر بإيجاز اضطهاد أهل الأديان بعضهم لبعض قبل الإسلام ، وحقيقة الجزية التي أثيرت حولها الشبهات ، ومصطلح الذمة التي هي تدل على أسمى المعاني ، ولكن الإعلام المغرض صنع حولها حساسيات ، واشكاليات ، ثم العروج نحو ذكر بعض العهود التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب من اليهود والنصارى .
اضطهاد وحروب إبادة بين الأديان بعضهم لبعض قبل الإسلام ( بإيجاز ) :
“يكشف تاريخ النساطرة عن نهضة رائعة في الحياة الدينية وعن نواحي نشاطهم منذ أن صاروا رعية للمسلمين. وكان أكاسرة الفرس يدللون هذه الطائفة تارة ويضطهدونها تارة أخرى؛ إذ كان السواد الأعظم من أفرادها يقيمون في ولايات هؤلاء الأكاسرة، بل مروا بحياة أشد من هذه خطورة، وخضعوا لمعاملة خشنة قاسية حين جعلتهم الحرب بين فارس وبيزنطة عرضة لشك الفرس فيهم بأنهم كانوا يمالئون أعداءهم من المسيحيين. ولكن الأمن الذي نعموا به في بلادهم في عهد الخلفاء قد مكنهم من أن يسيروا قدماً في سبيل أعمالهم التبشيرية في الخارج، فأرسلوا البعوث الدينية إلى الصين والهند، وارتقى كل منهم إلى مرتبة المطرانية في القرن الثامن الميلادي. وفي العصر نفسه تقريباً رسخت أقدامهم في مصر، ثم أشاعوا فيما بعد العقيدة المسيحية في آسيا، حتى إذا جاء القرن الحادي عشر كانوا قد جذبوا عدداً كبيراً ممن اعتنقوا المسيحية من بين التتار. وإذا كانت الطوائف المسيحية الأخرى قد أخفقت في إظهار مثل هذا النشاط القوي فليس هذا الإخفاق خطأ المسلمين إذ كانت الحكومة المركزية العليا تتسامح مع جميعهم على السواء، وكانت فضلاً عن ذلك تصدهم عن أن يضطهد بعضهم بعضاً. وفي القرن الخامس الميلادي كان (برصوما) وهو أسقف نسطوري قد أغرى ملك الفرس بأن يدبر اضطهاداً عنيفاً للكنيسة الأرثوذكسية، وذلك بإظهار نسطور بمظهر الصديق للفرس، وإظهار مبادئه بأنها أكثر ميلاً إلى مبادئهم.
ويقال أن عدداً يبلغ (7800) من رجال الكنيسة الأرثوذكسية مع عدد ضخم من العلمانيين قد ذبحوا في هذا الاضطهاد، وقام خسرو الثاني باضطهاد آخر للأرثوذكس بعد أن غزا هرقل بلاد فارس وذلك بتحريض أحد اليعاقبة الذي أقنع الملك بأن الأرثوذكس سوف يظهرون بمظهر العطف والميل إلى البيزنطيين. ولكن مبادئ المسلمين على خلاف غيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس. مثال ذلك أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيراً إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلل الأرثوذكس على ملكيتهم لها.”
“ومما يدل على أن تحول المسيحيين إلى الإسلام -في مصر- لم يكن راجعاً إلى الاضطهاد، وما وقفنا عليه من الشواهد التاريخية الأصلية وهو أنه في الوقت الذي شغر فيه كرسي البطريركية تمتع المسيحيون بالحرية التامة في إقامة شعائرهم، وسمح لهم بإعادة بناء كنائسهم، بل ببناء كنائس جديدة، وتخلصوا من القيود التي حتمت عليهم أن يركبوا الحمير والبغال، وحوكموا في محاكمهم الخاصة، على حين أعفي الرهبان من دفع الجزية ومنحوا امتيازات معينة )[6] .
ونضيف إليه أن المؤرخين يقولون : إن الرومان هم الذين أكرهوا أهل مصر ( الأقباط ) على النصرانية ، حيث يقول غوستاف لويون : ( لقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية ، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط ، والبؤس والشقاء الذي لم ينتشلها منه سوى الفخ العربي ، وكان أهل مصر يقتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات … ، ويحقدون على الروم ، وينتظرون ساعة تحريرها من براثن القياصرة الظالمين )[7] .
ولنذكر جزءاً مما ذكره الشيخ الحكيم العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله ، في كتابه القيم ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ) .
محارق المسلمين ( هولوكست الأول ) في الأندلس :
وأما ما فعله الصليبيون بالمسلمين عندما احتلوا الأندلس فيندى له جبين الإنسانية ، فيكفي ما ذكره الأستاذ محمد عبدالله عنان في كتابه القيم : نهاية الأندلس وتأريخ العرب المنصرين ، حيث وثق جرائمهم التي تجاوزت ما يسمى حرب الابادة بالوثائق العلمية[8] وما ذكره الأستاذ في كتاب الأمة ، حيث نقتطف من هذين الكتابين بعض الوقائع البشعة والجرائم الارهابية والوحشية التي ارتكبت بحق المسلمين الذين عاشوا في الأندلس حوالي ثمانية قرون ونشروا العلم والحضارة والأنوار في أوروبا ، وسمحوا للنصارى بالبقاء في الأندلس مع تمتعهم بكامل حريتهم ، فلننظر ماذا فعلوا بالمسلمين عندما انتصروا عليهم .
فعندما انتصر فريديناند مع زوجته المتعصبة ايسابير على غرناطة (897هـ/1492م) كان القسيسون يطلبون منه بإلحاح أن يعمل على سحق طائفة محمد في اسبانيا ، وأن يخيرهم بين التنصير ، أو التهجير إلى المغرب ، وأنهم برروا له بأن ذلك ليس فيه نقض لعهوده المقطوعة منه لهم ، بل حفاظ لحياتهم ، إذ لا يمكن أن يعيشوا مع النصارى[9] .
ولكن فرديناند الذي قطع الوعد للمسلمين بمنحهم حريتهم الدينية كان ينظر لتحقيق هذا الهدف القضاء المبرم على الثورات الإسلامية الداخلية ولذلك أعلن سياسته الخاصة بالتنصير عنفاً وإكراهاً مع بداية عام 1500م بدعم كبير من الكنيسة وكرادلتها ، فأغلقت المساجد ، ثم حولت الى كنائس ، وجمعت عشرات الآلاف من الكتب الإسلامية وأضرمت فيها النيران في ميدان باب الرملة ـ أعظم ساحات غرناطة ـ وكذلك فعلوا في أنحاء مملكة غرناطة ، حتى عمها التنصير بالقوة والتحريق ، ومع ذك حدثت ثورات من المسلمين لكنها لم تكن متكافئة ، فقام الجنود الصليبيون بقتلهم بوحشية وسبي نسائهم ، وتنصير أطفالهم[10] .
وفي 20/06/1501م أعلن هو وزوجته عن أن الله تعالى اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة ، ولذلك يحظر وجود المسلمين فيها ، ثم لما تنصر المستضعفون بعد قتل معظم الأقوياء وكان عددهم كثيراً خاف عليهم من القيام بثورة في غرناطة ، لذلك أصدر أمراً بمنعهم من الدخول في غرناطة ، ومنعهم من السكنى ، أو ايواء فيها ، ومن فعل ذلك عوقب بالموت والمصادرة[11] .
وقد وصف صاحب : أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر[12] ، أحوالهم بكلمات مؤثرة مثيرة للشجون فقال : ( ثم بعد ذلك دعاهم ـ أي ملك قشتالة ـ إلى التنصير ، وأكرههم عليه وذلك في سنة أربع وتسعمائة ، فدخلوا في دينهم كرهاً ، وصارت الأندلس كلها نصرانية ، ولم يبق فيها من يقول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ، إلاّ من يقولها في قلبه وفي خفية من الناس وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الآذان ، وفي مساجدها الصور والصلبان ، بعد ذكر الله وتلاوة القرأن ، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين ، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين ، قلوبهم تشتعل ناراً ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً وينطرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ، ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات ، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات ، فلا يقدرون على منعهم ، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب ، فيالها من فجيعة ما أمرّها ، ومصيبة ما أعظمها ) .
ثم بعد ذلك بدأت محاكم التفتيش للقضاء المبرم عليهم ، واستئصال شأفة الإسلام في الأندلس كلها كالآتي :
1- وصول اتهام ببقاء أحد مسلماً من أي شخص إلى القس الذي يحقق في الموضوع فيكتب تقريره القائم على الاعتراف أو الشهود ، أو قناعته الشخصية بثبوت التهمة .وقد يتم ذلك من خلال التحريات السرية التي تفرض من قبل القسيسيين الحاقدين على الإسلام .
2- بعد وصول التقرير يصدر ديوان التحقيق ( الكنسي المقدس ) الأمر بالقبض على المتهم ، فيزج في سجن الديوان السري الذي يوصف بأنه كان غاية في التعذيب والشناعة ، ويوضع في الاغلال ، وتصادر جميع أملاكه .
3- وفي هذا السجن يوعد السجين بالرأفة إذا اعترف ، وينذر بالشدة والنكال إذا أنكر ، لأن الديوان المقدس معصوم . وهي طريقة غادرة محيرة ، فإذا اعترف قضى عليه بالعقوبة المناسبة إلاّ إذا اعترف بأنه مسلم فحينئذ يحكم عليه بالموت على الرغم من الوعد بالتخفيف ، وإذا لم يعترف يحال إلى التعذيب المهين إلى أن يعترف ، أو يموت به ، وقد وصف لمورتني ـ أحد المؤرخين الغربيين ـ ذلك بقوله : ( بأن هذا التعذيب لا يمكن وصفه ، حيث تلوث كثير من القضايا فارتجفت لها اشمئزازاً وروعاً ، وكانت معظم أنواع التعذيب المرعفوة في العصور الوسطى تستعمل في محاكم التحقيق ، وربط ساقيه وذراعيه إليها مع خفض رأسه إلى أسفل ، ثم توضع في فمه من زلعة جرعات كبيرة ، وهو يكاد يختنق … إضافة إلى استعمال الأسياخ المحمية للقدم والبطن ….[13] .
4- بعد انتهاء التعذيب ـ إن عاش ـ يحمل ممزقاً دامياً إلى قاعة الجلسة ليجيب عن التهم التي وجهت إليه ، ثم يقرر مصيره الأحبار والقسس دون تبليغه بالحكم الذي في الغالب هو الاعدام حرقاً في حالة ثبوت الكفر ( أي الإسلام ) ويتم الإعدام حرقاً مع مجموعات كبيرة في ميدان كبير ، وحفلة كبيرة يشهدها الملك فرديناند الكاثوليكي الذي كان من عشاق هذه الاحتفالات الرهيبة .
5- كان قضاء محاكم التفتيش بطيئاً ، وكان أعضاؤها يتمتعون بحصانة خارقة ، ولذلك كانوا يمارسون اغتصاب البنات والزوجات دون أن تمسهم يد أو ينالهم عقاب[14] .
ما حقيقة الجزية ؟
الجزية لغة : هي الجزاء ، والجزاء هو المقابل[15] .
والمقصود بها في عرف الفقهاء : المال الذي يؤخذ من أهل الذمة ..
فقد عرفها الشافعية بأنها : ( المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا ، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم ، أو لكفنا عن قتالهم )[16] .
وبمثله أو قريب منه قال جمهور الفقهاء[17] وهذا المعنى قريب من معناه اللغوي .