المحور الثاني : الأسس الفكرية والعقدية لقبول الآخر ، والتعايش معه بسلام :    

  • الاتفاق والمشاركة الطبيعية بين ( الأنا المسلم ) و ( الآخر غير المسلم ) مهما كان ، ومقاصد الشريعة من ذلك

  • الفروقات والاختلافات الطبيعية بين ( الأنا المسلم ) و ( الآخر ) ومقاصدها  

  • اعتراف الإسلام بكرامة الإنسان وحقوقه

  • الاعتراف بوحدة الأديان السماوية ومنزلها الواحد

  • الأصل في الاسلام السلام لا الحرب

  • تقديم الصلح مع بعض الغبن على الحرب

  • العدل للجميع

  • الاعتراف بالاختلاف في الأديان والعقائد

  • الحوار هو الأصل في حل المشاكل

  • سنة التدافع

  • موقف الاسلام من صراع الحضارات

  • هل الصراع معدوم ؟

المحور الثاني : الأسس الفكرية والعقدية للتعايش مع الآخر :  

  فقد بين الإسلام مجموعة من الأسس الفكرية والنظرية والعقلية ، والدينية للمشاركة والاتفاق بين ( الأنا المسلم ) و ( الآخر غير المسلم ) وأصّلها تأصيلاً رائداً ورائعاً ، تعتبر في غاية من الأهمية لقبول الآخر ، كما بين مجموعة من الفروق والاختلافات الطبيعية والدينية ، نذكرها هنا بإيجاز :  

أولاً ـ الاتفاق والمشاركة الطبيعية بين ( الأنا المسلم ) و ( الآخر غير المسلم ) مهما كان فيما يأتي :  

1 ـ خلقنا الله تعالى جميعاً من أصل واحد ، وهو التراب ، فقال تعالى : (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)[1] والآيات في هذا كثيرة ، ثم من طين لازب ثم من حمأ مسنون ، ثم من صلصال كالفخار ، فقال تعالى : (إنا خلقناكم من طين لازب)[2] وقال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)[3] وقال تعالى : (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)[4] . 

  وهذه المراحل لتكوين الإنسان من التراب إلى الطين ، والطين اللازب ، والحمأ المسنون ، ثم الصلصال كالفخار ، ثم نفخ الروح فيه لا يختلف فيها إنسان عن آخر. 

2ـ أنا ( المسلم ، والآخر غير المسلم ) خلقنا الله جميعاً من الماء سواء من حيث الأصل (وهو الماء) ، أو من حيث الخلق المباشر (وهو المني) و (النطفة الأمشاج) حيث يقول الله تعالى : (والله خلق كل دابة من ماء)[5] ويقول تعالى : (وهو الذي جعل من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)[6] ، ويقول تعالى : (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق)[7] ، ويقول تعالى : (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)[8] .  

3ـ أنا (المسلم ، والآخر غير المسلم) نفخ الله تعالى فينا جميعاً من روحه ، فأعطانا جميعاً هذه الكرامة ، وميزنا بالعقل والإرادة والامتياز والصفات الفاضلة ، وأعطانا من الصفات ما نستطيع بها تعمير الكون فقال تعالى : (..وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون)[9]. 

 وهنا تأتي الكرامة لكل من فيه هذه الروح ، فلا يجوز الاعتداء عليه ، بل يجب احترامه وحماية حقوقه إلاّ في حالة الاعتداء ، فحينئذ يكون الجزاء من بالمثل والعدل دون تجاوز .

4ـ أنا (المسلم ، والآخر غير المسلم) خلقنا الله جميعاً من آدم وحواء أي أن أبانا واحد ، وأُمنا واحدة ، وهذا ما دلت عليه الآيات الكثيرة ، والأحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : (والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب)[10] .   

5ـ إن عقيدة المسلمين قائمة على أن البشرية جميعاً ربهم واحد وخالقهم واحد ، ويشترك في هذه العقيدة جميع الأديان السماوية والمؤمنين بالله تعالى ، وهذا ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم .

6ـ إن كل إنسان كامل عاقل (مكلف) يشترك مع الآخر في الهيكل والجسم بشكل عام ، وفي المكونات الأساسية الخلقية ـ بفتح الخاء ـ وفي الأجهزة الفكرية والعقلية والنفسية بصورة عامة ، وفي أصل العواطف والأهواء ، والأحاسيس والمشاعر ، فليس هناك إنسان من حجر ، والآخر من حديد ، والآخر من ذهب ، وإنما الكل من أصل واحد مشترك في الثوابت الإنسانية خلقاً .

 ومهما حاول العنصريون لاثبات شعب مختار بعرقه ودمه لم تسعفهم العلوم والحضارة والتأريخ ، حيث فشلوا في الاتيان بدليل صحيح واحد .

آثار هذه المشتركات وفوائدها ( مقاصد الشريعة منها ) :  

  لبيان هذه المشتركات في القرآن الكريم وتأصيله لها ، وتأكيده عليها  في أكثر من أية آثار كبيرة في نفسية المسلم الذي يقرأ هذه الآيات ويتعبد بتلاوتها وتطبيقها ، حيث إنها تقربها من الآخر نفسياً ( سايكولوجياً ) حيث إنه ـ كما يقول علم النفس ـ كلما ازدادت الصفات المشتركة بين إنسان وآخر ازداد التقارب والتجانس والتعارف . 

  ومن هنا فإن ذكر هذه الآيات لم يأت عبثاً دون مقصد شرعي ، بل إن من مقاصدها قبول الآخر باعتباره إنساناً ، وباعتبار أن فيه جزءاً من روح الله تعالى التي  نفخت فيه ، إذن فهو آخوك في الإنسانية ، إضافة إلى الاخوة في القرابة والنسب ، ولذلك سمى الله تعالى النبي المرسل إلى قومه الكافر بأخيهم فقال تعالى : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ)[11] وقال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[12] وقال تعالى : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[13] فالاخوة في الاسلام لا تنحصر في الاخوة الدينية ، وإن كانت الأخيرة هي الأساس عند تعارضها مع غيرها .

ثانياً ـ الفروقات والاختلافات الطبيعية :

  ومع كوننا جميعاً بشراً ومن آدم وحواء ، ولكن توجد فروق جوهرية في عدة أشياء منها: 

1ـ أنا (بذاتي) مختلف عن غيري الآخر في ذاتيتي ، وفي صفاتي الشخصية ، وهذا ما أثبته العلم الحديث من خلال البصمة الوراثية التي أثبتت أن كل إنسان له ملفه الجيني الخاص الذي لا يشترك مع شخص آخر ، ولذلك عرفت الندوة الوراثية والهندسة الوراثية البصمة الوراثية بأنها : (البنية الجينية ـ نسبة إلى الجينات أي الموروثات ـ التي تدل على هوية كل فرد)[14] وأقر المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة هذا التعريف ، وأضاف بأن البحوث والدراسات تفيد بأنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي ، والتحقيق من الشخصية ومعرفة الصفات الوراثية المميزة للشخص . 

  فالبصمة الوراثية أثبتت بشكل قاطع أن كل إنسان له شخصيته الجينية الخاصة به التي لا يشترك معه أحد على مستوى مليارات البشر .

2- ومع أن هذا الإنسان له مشتركاته الخاصة مع أسرته وقبيلته وشعبه[15] ، لكنه يختلف كذلك في الجوانب الآتية :   

أ‌) الجانب الخلقي ـ بفتح الخاء ـ  حيث نحن مختلفون في البنية والأشكال والصور والألوان والألسنة ، والقدرات المادية . 

ب‌) الجانب المعنوي ، حيث يختلف في القدرات العقلية والفكرية ، وفي مقدار الأحاسيس والمشاعر والعواطف ونحو ذلك . 


مقاصد الشريعة من ذكر ذلك :

  يظهر لي أن من مقاصد الشريعة في ذكر هذه الاختلافات والفروقات الطبيعية ، التمهيد النفسي والديني لقبول الاختلاف ، واعتباره أمراً عادياً ، إضافة إلى الاستفادة من هذه الفروقات للتكامل والتنوع ، وتوزيع الأدوار .

ثالثاً ـ الاختلافات الفكرية والدينية والعقدية :

 إن من سنن الله تعالى أن الناس (الأنا والآخر) مختلفون في الأديان والأفكار والأيدلوجيات والتصورات ، فهناك العشرات بل المئات بل الآلاف من الأفكار والأديان والتصورات والمذاهب الفكرية والتوجهات المختلفة في مختلف جوانب الحياة . 

  وهذا الاختلاف هو من إرادة الله تعالى ومن سننه الماضية حيث جعلهم مختلفين فيما سبق ، حيث يقول الله تعالى : (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين …… )[16] .    

   وفي نطاق الاختلاف في الأديان والمذاهب والآراء يقول الله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)[17] وبين الله تعالى أن سننه تقضي وجود هذا الاختلاف حيث يقول  الله تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)[18] ثم كرر ذلك في سورة النحل فقال : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ولتُسئلّن عمّا كنتم تعملون)[19] وفي سورة الشورى : (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير)[20] ويقول تعالى :  (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[21] حيث تدل هذه الآيات بوضوح على أن هذا هو شأن الإنسان ، كما يفهم منه قبول هذا الاختلاف مع السعي لتقليله . 

 ولكن هذه الاختلافات تقل أو تكثر ، تضعف أو تشتد ، تصغر أو تكبر حسب نسب مختلفة وفئات متنوعة بين (الأنا) والآخر :

أ ـ فأنا مع الشخص الذي لا يؤمن بأي دين ، تكون المسافة بيني وبينه أكبر بكثير من غيره ، ولكن تجمعنا الصفات المشتركة السابقة ، وأننا نبحث عن الحقيقة إذا كان يبحث عن الحقيقة . 

ب ـ وأنا مع الشخص الذي هو يؤمن بالله تعالى مطلقاً تكون الفوارق بيني وبينه أقل من فئة (أ) وأكبر من فئة (جـ) . 

ج ـ وأنا مع من هو من أهل الكتاب ، تكون المسافة أقل من فئة (ب) وأكبر من فئة (د) ثم إن داخل أهل الكتاب تكون المسافة والفوارق بيني وبين النصارى أقل من المسافة والفوارق بيني وبين اليهود .   

د ـ وأنا (المسلم) مع غير المسلمين المحاربين تكون العلاقة بهم تحكمها ظروف الحرب ولكن مع المبادئ والأخلاق الإسلامية التي تحكم الحرب في الإسلام .

 وأما مع غير المسلمين (الذميين والمعاهدين) فالعلاقة تقوم على الحقوق الكاملة لهم على ضوء المبادئ الإسلامية العظيمة في هذا المجال .

وكذلك فإن علاقتي ( أنا المسلم ) في ظل دولة غير إسلامية بيني وبينها ميثاق ، وقامت بالواجب نحوي ، تختلف عن غير ذلك ، حيث إن علاقتي بها أكثر من العلاقات السابقة . 

 وأنا المسلم مع غير المسلمين المسالمين تكون العلاقة معهم هي علاقة الدعوة والإحسان والبر ، والحفاظ على العقود والمواثيق . 

هـ ـ وأنا مع المسلمين على مختلف مذاهبهم وطوائفهم واحد منهم ، ولكن لست نسخة طبق الأصل لأي واحد منهم ، وان هناك مساحة ولو كانت صغيرة حسب عناصر الاتفاق والاختلاف داخل المذاهب الإسلامية والطوائف الإسلامية .

مقاصد الشريعة في بيان هذه الاختلافات :   

يظهر لي أن من مقاصد الشريعة لبيان هذه الفروقات الدينية والعقدية بين المسلم والآخر هو ما يأتي :

1-   معرفة هذه الحقائق لقبولها والتعامل معها بشكل صحيح . 

2-  أن يطبق على كل حالة من الحالات السابقة ميزانها الخاص ، فالميزان الخاص بعلاقة المسلم بالكافر الملحد تختلف عن ميزان التعامل مع أهل الكتاب ، كما أن ميزان الحرب هو غير ميزان السلم ، وأن ميزان الأقلية هو غير ميزان الأكثرية .

3-  أن الاختلاف سنة من سنن الله تعالى ، ومفهوم في ظل طبيعة الإنسان ، حيث منحه الله تعالى العقل ، والارادة الحرة والاختيار ، وبالتالي يكون من الطبيعي اختلاف إنسان مع آخر في فكره وعقيدته وتصوراته .

رابعاً – الاعتراف بكرامة الإنسان وحقوقه :  

اعترف الإسلام بكرامة الإنسان باعتباره إنساناً مع قطع النظر عن فكره وعقيدته ، فقال تعالى : (ولقد كرمنا آدم)[22] . 

 كما جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض وزوده بالإرادة والاختيار فقال تعالى : (إني جاعل في الأرض خليفة)[23] وحينما تدخلت الملائكة لبيان الحكمة من ذلك أثبت لهم بان الإنسان اعلم منهم في مجال الاستخلاف والتعمير . 

 وقد أكرم الله تعالى الإنسان بالحرية في مجال العقيدة فقال تعالى : (لا إكراه في الدين)[24] وحرره من رق العبودية لغير الله ، وسعى بكل ما في وسعه لإعتاق العبد ومنع المثلة والتعذيب وحتى الترويع وأعطى حرمة عظيمة لحرمات الإنسان وخصوصياته وحقوقه ، وممتلكاته ، وساوى بين جميع البشر إلاّ من خلال العمل الصالح فقال تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )[25] . 

 وجعل المسؤولية شخصية فقال تعالى : (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى)[26] وقال تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى)[27] . 

LinkedInPin