علاقة المسلمين ( الأقلية ) بالدولة غير الإسلامية التي يعيشون في ظلها :

تمهيد

   فقد كتب في ذلك عدد كبير من الكتب والبحثو القيمة ، وممن كتب في ذلك بالتأصيل والتفصيل العلامة الشيخ يوسف القرضاوي ، والشيخ فيصل مولوي ، والدكتور طه جابر العلواني ، والدكتور جمال الدين عطية ، وآخرون ، ولذلك نذكر هنا مجموعة من المبادئ العامة والقواعد الكلية التي تعلق بموضوعنا هذا ، ويمكننا جمعها في مبدأ واحد ، وهو :      ( إقرار الحقوق المتقابلة بين الأقلية الإسلامية ، والدولة الأكثرية ) .

   فقد سبق أن أصّلنا هذا المبدأ في جميع العلاقات بين المسلم والآخر ، وهو مبدأ ثابت أقره الرسول صلى الله عليه وسلم ، ححتى بين المسلم وبين الله تعالى ولكن بمنّه وفضله سبحانه ـ كما سبق ـ .

 وهذا المبدأ العام الجامع الشامل تتفرع منه مجموعة من الحقوق والواجبات على الطرفين :  

أولاً ـ أهم الحقوق الواجبة على المسلم الذي يعيش في بلاد غير إسلامية ، يمكن تلخيصها فيما يأتي :

أ)   وجوب الوفاء بالعقود والعهود التي وقعها أو أقرها إلاّ ما كان يتعارض مع نص قطعيّ الدلالة والثبوت ، أو مايسمى بالثوابت .

فالأدلة على وجوب الالتزام بالعقود والعهود للمسلمين ولغيرهم أكثر أن تذكر في عذع العجالة ، منها قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )[1] وقوله تعالى : (وأوفوا بالعهد إن العهد كان عنه مسؤولاً )[2] وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ  كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)[3] بل إن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهد الذي تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين القبائل التي قد يصدر منهم ظلم على بعض المسلمين فقال تعالى : (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )[4] حيث يدل على أن حق الوفاء بالعهد فوق حقوق بعض المؤمنين الذي لم يهاجروا[5] قال ابن كثير : ( … وان استنصروكم في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم ، فإنه واجب عليكم ، لأنهم إخوانكم في الدين إلاّ أن يستنصروكم على قوم من الكفار ” بينكم وبينهم ميثاق ” .. فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم ، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه[6] .  

ومنها قوله تعالى في حق المشركين : (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )[7] قال ابن كثير : ( أي مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين ” فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ” وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة … ، إلى أن نقضت قريش العهد ، ومالؤوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً …. )[8] .

وأما الأحاديث الصحيحة في هذا المجال فأكثر من أن تحصى في هذا البحث ، منها الحديث المتفق عليه : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان )[9] وفي رواية مسلم : ( وإن صام وصلّى ورعم أنه مسلم )[10] ومنها الحديث المتفق عليه أيضاً بلفظ : ( أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر )[11] .

‌ب) عدم القيام بالغش والكذب والخداع للدولة ، أو لغيرها ، وذلك رحمة الغش والخيانة والخداع ، والتدليس والغدر مطلقاً ….

فقد عقد معظم علماء الحديث أبواباً خاصة بتحريم الغدر ، والغش والخيانة ، والخداع ، الكذب ، ذكروا فيه أحاديث كثيرة ، منها الحديث المتفق عليه بلفظ : ( لكل غادر لواء يوم القيامة ، يقال : هذه غدرة فلان )[12] ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى :   ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم ذغدر …… .)[13] . 

وفي مجال الغش فالإسلام فيه حاسم يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من حمل علينا السلاح فليس منا ، ومن غشنا فليس منا )[14] فالحديث صريح في أن الغاش ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

بل إن القرآن الكريم لم يأذن لرسوله أن يخدع أو يغش في نطاق العقود والعهود حتى لو تعامل الأعداء بالغش والخداع فقال تعالى : (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)[15] . 

وأما الكذب فقد ذكرنا بعض الأحاديث الصحيحة الدالة على أن خصلة من خصال النفاق ، بل إنه من الكبائر المحرمات ، حتى جعله الرسول صلى الله عليه وسلم هادياً ودليلاً يأخذ بصاحبه إلى النار ، حيث يقول : ( إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )[16] .

وهذا الحق مع كونه حقاً على المسلم تجاه الآخر فهو حق لله تعالى أيضاً ، وأن التعدي عليه يعتبر تعدياً على حقوق الله تعالى ، إضافة إلى أن عدم الالتزام بأخلاقيات الإسلام يؤثر كثيراً في سمعة الإسلام والمسلمين أمام غير المسلمين ويعطي صورة سيئة تبعدهم عن  التقرب من الإسلام والدخول فيه ، فقد أثببت التجارب أن الأخلاق الفاضلة هي التي تدفعهم إلى الدخول في الإسلام ، فقد قال تعالى حكاية لدعاء إبراهيم : (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا )[17] وأن تسبب المسلمين في عدم إسلام هؤلاء بسبب عدم التزامهم بالأخلاق الراقية نوع من الفتنة .

‌ج) الالتزام بالقوانين واللوائح السائدة في البلد ما دامت لا تتعارض مع ثوابت الإسلام ، ومنها القوانين الخاصة بالضرائب ، حيث إن معظم حصيلتها تصرف فيما فيه النفع للجميع . 

‌د) الحفاظ على الأمن والسلامة داخل المجتمع . 

‌ه) دعوتهم بالتي هي أحسن إلى الحق والعدل والإسلام ، وبطريقة هادئة هادفة دون إثارة . 

‌و)  تكوين صورة حقيقة إيجابية عن الإسلام والمسلمين ، وتعزيز روح التضامن والتعايش ، والتعاون ، والتكامل ، والتآخي .

ثانياً ـ حق الأقلية المسلمة على الدولة التي تعيش في ظلها :

ومن أهم هذه الحقوق التي بجب أن تلتزم بها الدولة غير الإسلامية تجاه الأقلية الإسلامية لديها ، هي :

1-  تحقيق العدل والمساواة ومنح الحريات في إطار القانون ، ومنع الأفكار العنصرية ، من أن يكون لها دور في الإضرار بمصالح المسلمين ، ومراعاة شعور المسلمين ، وعدم إثارتهم ، ومنع الإساءة إلى ثوابت جميع الأديان تحت أي مسمى ، والقيام بتشريع القوانين التي تحمي حقوق المسلمين وحريتهم الدينية .

2-  ويعتبر من أهم الحقوق أيضاً السماح بإنشاء محاكم شرعية تكون لها صلاحية النظر في قضايا الأسرة والأحوال الشخصية ، والقضايا الدينية الخاصة بهم ، كما هو الحال فعلاً في البلاد الإسلامية التي أنشأت محاكم خاصة بغير المسلمين في المجالات السابقة .

وفي هذا المجال نشيد بالخطوة الجيدة التي أقدمت عليها الحكومة البركانية بإقرارها إنشاء محاكم شرعية لها صلاحية النظر في القضايا المدنية الإسلامية ..

وقالت صحيفة “صنداي تايمز” اللندنية : ان موافقة الحكومة اتسمت بالهدوء ومنحت القضاة الشرعيين حق اصدار قرارات في قضايا تتراوح بين الطلاق والنزاعات المالية الى تلك المتعلقة بالعنف المنزلي. ولم يكن بالامكان تنفيذ قرارات هذه المحاكم في بريطانيا من قبل، وظل ذلك يعتمد على الاتفاق الطوعي بين المسلمين.

وقد تبين الان ان المحاكم الشرعية التي تملك تلك الصلاحيات اقيمت في كل من لندن وبيرمنغهام وبرادفورد ومانشستر ومقارها الرئيسية في نونيتون و وارويكشير. ومن المقرر اقامة محكمتين اخريين في غلاسكو وادنبره )[18] .

3-   الحفاظ على هوية الأثلية وخصائصها حفاظاً على التنوع المطلوب ، فلا ينبغي للدولة أن تسعى جاهدة لتذويب الأقلية الإسلامية ودمجها دمجاً كاملاً في المجتمع الأوروبي ، أو الغربي ، أو المجتمع غير الإسلامي ، لأن هذا يعني عدم الاعتراف بالتعدد والتنوع ، وهذو نوع من الممارسة الخطيرة لتغيير الدين والهوية والانتماء .

وهنا نقول إن التأريخ يشهد بافتخار وبصدق وصراحة تسامح الدولة الإسلامية منذ عصر الرسالة إلى اليوم حيث لم تسع جاهدة إلى تذويب الأقليات الدينية ، بدليل أنها بقيت معززة مكركمة إلى اليوم في كل البلاد التي كانوا فيها ، بل إن اليهود حينما هجروا من أوروبا لم يجدوا ملاذاً غير الدولة الإسلامية والبلاد                 الإسلامية ـ كما سبق ـ .

فنحن مع الاندماج الايجابي الذي يحفظ للمسلم دينه وعقيدته مع انتمائه إلى وطنه الجديد بالحب والعمل الجاد ، والافادة في إطار الجمع بينه وبين الولاء لله تعالى وللمؤمنين جمعاً محكماً دون تعارض ولا تصادم .

ثالثاً ـ الحقوق المشتركة بين الدولة والأقلية :

  إن من أهم الحقوق المشتركة بين الأقلية والدولة غير إسلامية التي تساعد على العيش المشترك والأمن والسلام الاجتماعي ، وتطوير المجتمع ، والمساحة الفعالة من الطرفين للنماء والازدهار والاستقرار ما يأتي :

1)  التعارف عن قرب والاعتراف بالآخر ، كما قال الله تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )[19] فالله تعالى خاطب الناس جميعاً مؤمنيهم وكافريهم بانهم من أصل واحد وهذا يستدعي اعتراف كل واحد بالآخر ، وأن لا يتكبر عليه ، وأن يعتبره أخاه في الإنسانية ( كلكم من آدم وآدم من تراب )  إذأً لماذا التفاخر والتكابر والتناحر والتحارب ؟  

ثم بين الله تعالى بانه قد خلق من هذا الأصل الواحد فروعاً منبثقة منه ، وهو الأقوام والشعوب والقبائل ، وأراد الله تعالى أن يميز كل قوم ، وشعب وقبيلة ، بمجموعة من الصفات والخصائص التكاملية ، وهذا يقتضي التعارف على هذه الصفات والخصائص والمكونات ، والمشاعر والعواطف ، والأديان ، والمذاهب ، وعندما يتخقق تعارف كل واحد على آخر ، وتعارف كل شعب على شعب آخر ، وتعارف كل أهل دين على الدين الآخر يتحقق التقارب والتعارف الحقيقي الذي يترتب عليه التعايش السلمي ، وانشغال كل واحد بوجهته ، وتتحقق الاستفادة من جميع الخصاص والصفات والمكونات لكل شعب وقبيلة ، ودين فتكتمل الحضارة والتقدم .

فعلى ضوء ذلك على الدولة الإسلامية أن تسعى جاهدة لمعرفة المسلمين على حقيقتهم من حيث دينهم وقومهم وبيئتهم ، وأن تستفيد من الخصائص والمكونات وهكذا الأمر بالنسبة للأقلية المسلمة ، حيث إن عليها تتعرف على البيئة الأوروبية أو الغربية والشعوب الأوروبية وخصائصها ومكوناتها وحضارتها ، ومناهجها … ، وأن تستفيد منها تماماً ، وتتعامل كذلك على ضوء عذع المعرفة ، وبذلك يتحقق التفاعل الايجابي.

إن على المسلمين الذين يعيشون في الغرب أن يصححوا النظر إلى المجتمع الأوروبي أو الغربي بصورة عامة من حيث : أن المجتمع الأوروبي وإن كان علمانياً لكن سلطان العامل الدينين فيه حقيقة لا بتغي إنطارها ، ولذلك فإن النشاط الثقافي الإسلامي مسموح به في حدود عدم إحداث تغيير في بنية المجتمع ، وإلى مستويات لا تسمح ببزوغ منظومة سياسية إسلامية التوجه أو كيان إسلامي مستقل[20] ، ولذلك فالحذر مطلوب جداً من الإثارة ، وإنما المطلوب العمل الجدا الهادئ الهادف القائم على استراتيجية تنظر إلى المجتمع الغربي باعتباره ليس واحداً وبالتالي الاتسافدة من تنوع سياساته إلى حدّ ما ، ومن تغير قيمه ومعاييره بشكل شريع ، وانه مجتمع التقدم العلمي والثقافة العلمية ، ومجتمع المعرفة والمعلومات ، وإلى التيارات والمؤسسات الدينية التي لا يزال لها نفوذها وقوتها[21] ، وإلى أن المجتمع الغربي قد ترسخ في أذهان أجياله منذ الحروب الصليبية الخوف من الإسلام وتشويه صورته ، وان الأحداث الإرهابية الأخيرة في أمريكا ، وفي أوروبا ، وبعض الممارسات المرعبة في العراق باسم المقاومة قد جسدت هذه الصورة المشوهة ـ مع الأسف الشديد ـ .

2)  التعاون على البر والتقوى ، وعلى كل ما فيه خير الإنسانية جمعاء فقد قال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[22] فالله تعالى أوجب أن يكون محل التعاون هو البر والاحسان وعمل الخير والنفع ، والتقوى ، وأطلق الحرية بعد ذلك مع من يتعاون ، حيث يجوز للمسلم أن يتعاون مع الجميع ما دام محل التعاون البر والتقوى ولذلك لم يحدد الله تعالى من يتعاون معه ، لأن هذا ليس مهماً فالمهم هو ما ذكرناه ، ولذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية هذا التعاون حتى مع المشركين الجاهلين ، حينما قال : ( لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)[23] حيث إن زعماء قريش رأوا أن هناك أناساً يظلمون ، ومحتاجين يموتون بسبب الحاجة ، وملهوفين ، لا يساعدهم أحد ، فتحركت فيهم الفطرة السليمة فاجتمعوا في حلف الفضول ” قبل البعثة وتعاهدوا على أن ينصروا الضعيف ، ويغيثوا الملهوف ، ويساعدوا المحتاج ، ويقروا الضيف ، ونحو ذلك من مكارم الأخلاق[24] .

 

أنموذجان في القرآن والسيرة  للأقلية الإسلامية ، لا يزالان ” القدوة ” :

  وحينما نقرأ القرآن الكريم نجد أنه قد ذكر أنموذجاً رائداً ورائعاً لشخص مسلم دفعته الظروف لأن يعيش في مجتمع غير مسلم ، وهو سيدنا يوسف عليه السلام ، كما ذكرت كتب السيرة أن عدداً غير قليل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ( رجالاً ونساءً ) قد هاجروا إلى الحبشة ، وعاشوا فيها فترة مناسبة ، لذلك علينا أن نذكر هذين الأنموذجين بشيء من التعليق والتحليل .

الأنموذج الأول : أنموذج نبي الله يوسف عليه السلام ، في مصر :

  لقد تكفل القرآن الكريم ببيان تفاصيل قصة يوسف عليه السلام ، ونحن هنا يهمنا أن نذكر منها ما يتعلق بالموضوع على ضوء ما يأتي :

1-  فقد عاش يوسف عليه السلام في مصر محافظاً على دينه وعقيدته وأخلاقه ، ولم ينزلق ـ بفضل الله تعالى ـ نحو الشهوات على الرغم من الضغوط الشديدة من امرأة العزيز ، ونسوة أخريات ، حتى بلغ الأمر إلى ما ذكره القرىن الكريم : ( …. وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[25] .

وقد ضحى في سبيل الحفاظ على أخلاقه بكثير من المميزات ، بل سجن على ذلك عدة سنوات .

وهنا على الأقلية المسلمة أن تأخذ القدوة من يوسف عليه السلام في أن يكون همها الأكبر الحفاظ على دينها ، وعقيدتها ، وأخلاقها ، وأخلاق الأجيال اللاحقة من خلال الأخذ بكل الأسباب المادية والمعنوية ، والآليات التربوية والعملية الممكنة لتحقيق هذا الهدف ، وهنا يظهر دور الثبات والحفاظ على الهوية والأفراد ، وإلاّ فلا قيمة لأي هدف دنيوي مهما كان كبيراً وعظيماً إذا ترتب عليه ضياع الدين والأخلاق ، وهذا ما صرح به سيدنا يوسف فقال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي )[26] وذكر السجن مطلقاً حتى يفهم منه أن السجن حتى ولو طال كل العمر أحب وأفضل من الوقوع في معصية تؤدي إلى غضب الله تعالى ، فما بالك بوقوع الكفر ، والانصهار ، والذوبان للشخص نفسه ، أو للجيل اللاحق .

2-  الوفاء لكل من أحسن إليه حتى ولو كان كافراً حيث إن عزيز مصر حينما اشترى يوسف عليه السلام قال : (لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا )[27] .

فلم ينس يوسف هذا الجميل منه ، لذلك كان أحد الدوافع في عدم الاستجابة لطلب زوجته ـ بعد خوفه من الله ـ حيث قال : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)[28] حيث أرجع الضمير  بعض المفسرين إلى عزيز مصر بقرينة الحال ، حتى لو رجع الضمير إلى الله تعالى تعالى فإن تكملة الآية تدل على ذلك فقال : (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )[29] .

3-  عدم الظلم لأهل البلد حتى لو وقع من بعضهم أو حكامهم ظلم للمهاجر أو الأقلية ، حيث قال يوسف بعد محاولة زوجة العزيز معه إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )[30] .

وفي ذلك رد قوي على بعض المسلمين المهاجرين الذي يبررون الاعتداء على أموال الدول الأوروبية أو الأمريكية بأنها كانت دولاً استعمارية أخذت أموال المسلمين ، وبالتالي فما يأخذونه جزاء ما فعلته ، لذلك فالرد أن هذا ظلم لأدلة كثيرة منها ما ذكرناه ، ومنها قوله تعالى : (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )[31]  ومنها أن هؤلاء المهاجرين لا يمثلون المسلمين المظلومين بالاستعمار .

4-  التوطين ، وحب الوطن الذي عاش فيه  ، فالملاحظ أن سيدنا يوسف عليه السلام لما ضيق عليه الخناق من هؤلاء النسوة لم يقل : الهجرة ، أو الخروج أحب إليّ مما يدعونني إليه ، بل قال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ )[32] وهذا دليل على أنه استوطن مصر  ، وأحبها وآثر السجن فيها من الخروج منها ، وأكثر من ذلك طالب أن يجعله الملك على خزائن الأرض ليخدم شعب مصر ، بل أتى بوالديه واخوانه جميعاً إلى مصر ليستوطنوا فيها مع أنها لم تكن تدين بدين إبراهيم .

5-  القيام بواجب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلم يترك سيدنا يوسف عليه السلام واجب الدعوة إلى الله على الرغم من ظروف صعبة أحاطت به ، من حيث كونه قد اشترى ـ ظلماً ـ وبالتالي ضعفه الاجتماعي في البداية ، كما لم يترك دعوته حتى في السجن ، بل استثمر وجوده في السجن فنجح نجاحاً كبيراً ، إذا دخل معه السجن فتيان رأيا رؤيا ، فقبل أن يفسر لهما رؤياهما ذكرهما بالآيات التي أكرمه الله تعالى من معرفة أشياء لا تأتي إلاّ من قبل الله تعالى ، ثم بين لهما دين إبراهيم القائم على توحيد الله تعالى ، وعدم الاشراك به وعلى الحنيفية السمحة ، كما بين لهم اخطورة الشرك ، وان هؤلاء الشركاء المعبودين ـ من دون الله تعالى لا قيمة لهم ، ولا سلطان ، وان الأمر والحكم كله لله تعالى ، ثم فسّر لهما رؤياهما [33].

وهكذا الأمر بالنسبة للأقلية المسلمة فيجب عليها أن تدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، لن الدعوة إلى الله تعالى واجبة على الجميع ، كل حسب علمه وقدرته ، ولو كان بتبل