بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين …..وبعد
فإذا نظرنا إلى تأريخنا الحديث نجد أنه لا تمر فترة من الزمن إلاّ وقد وجهت إلى الإسلام مجموعة من التهم والافتراءات ، وصوّب نحوه كثير من الشبهات ، فمن شبهات نحو السنة المشرفة إلى شبهات نحو التشريع الإسلامي والأحكام التي تخص المرأة ، والأسرة ، والحدود والعقوبات ، ولكن الشبهات في الأونة الأخيرة تركزت حول علاقة المسلم بالآخر ، حيث يراد تشويه صورة الإسلام في سماحته وعدله ويسره وتعامله الأخلاقي الرائع مع غير المسلمين ، حتى إنه يراد من هذه الحملة الشرسة ـ التي وراءها الصهاينة واليمين المسيحي المتصهين المتطرف وبعض المستشرقين ـ النيل من إسلام الرحمة ، وإسلام الخير ، وإسلام كرامة الإنسان ليصور الإسلام على انه دين متوحش ليس فيه الرحمة ولا يعرف التعايش مع الغير ، وإنما هو عبارة عن سيف صارم مسلط على أعناق الناس .
وقد ساعدهم على ذلك تصرفات بعض المتشددين من المسلمين أو المخترقين لبعض الجماعات الإسلامية الذين قدموا من خلال سلوكياتهم صوراً غير حضارية غير مقبولة لدى الإسلام نفسه ، بل تجاوزت حدود الكرامة الإنسانية ، وبلغت الذروة في الوحشية .
ومن جانب آخر فإن هذه العلاقات التي اهتزت في معظمها خلال القرون الأخيرة وشابها كثير من التنظير والتأصيل والتأطير نرى في أكثرها الإفراط أو التفريط ، أو التبسيط والتعقيد ، أو المبالغة والتهميش ، وبعبارة دقيقة أثرت فيها العواطف والأهواء ، وتغيرت حسب الأحوال والأجواء ، والقوة والضعف ، والعقيدة والطبع ، واختلطت فيها الثوابت مع المتغيرات ، والأصول مع الفروع ، والنصوص مع التقاليد والأعراف وطبائع الشعوب .
لذلك أرى من الضروري التركيز على هذه العلاقات من خلال بيان قواعدها العامة دون الخوض في التفصيلات إلاّ بقدر ما هو ضروري وتحتاج إليه الفروع والجزئيات ، حيث إن عدم تنظيم هذه العلاقات وإعطاء حقها يؤدي إلى الفوضى في التفكير والعمل ، والخلل في فقه الميزان والموازنات .
ولذلك تصدى مجمع الفقه الإسلامي الدولي لبحث هذا الموضوع لدراسته وتأصيله وتقديمه إلى العالم أجمع ، ليبين للناس جميعاً الصورة الناصعة الجميلة للإسلام من خلال الكتاب الكريم وسيرة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، وما سطرته أقلام الفقهاء المجتهدين على مرّ العصور في حالة الحرب وحالة السلم على السواء .
وكذلك تأتي عناية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بهذا الموضوع بطبع هذا الكتاب ونشره في هذا الإطار المهم ، وأهمية هذا الموضوع دراسة وتأصيلاً وتطبيقاً وتأثيراً في العلاقات .
ونحن إذ نكتب عن هذا الموضوع نتحدث بالتأصيل والتفصيل عن ستة محاور رئيسية وهي:
-
المحور الأول : الطريق الصحيح للتعامل مع الآخر ، حيث يمر عبر ذات متحدة قوية ، وهذا يقتضي تفعيل المبادئ والقواعد الحاكمة في العلاقات الإسلامية .
-
المحور الثاني : الأسس العقدية والفكرية في الإسلام التي تهيئ الجو المناسب للتعايش السلمي ، والتحاور ، وهي بمثابة المقدمات الممهدات التأصيلية لقبول الآخر
-
المحور الثالث : علاقة المسلمين بغير المسلمين في حالة السلم .
-
المحور الرابع : علاقتهم بغير المسلمين في حالة الحرب .
-
المحور الخامس : علاقة المسلمين ( الأقلية ) بالدولة غير الإسلامية التي يعيشون في ظلها .
-
المحور السادس : نحن والغرب ، صراع أم حوار ؟ تصادم أو تعايش ؟
وسيكون منهجنا قائماً على التركيز على المبادئ العامة التي تحكم هذه المحاور دون الخوض في التفاصيل والجزئيات إلاّ بالقدر الذي يبين هذه المبادئ ويوضحها ويؤصلها ، معتمدين على الكتاب الكريم والسنة النبوية الثابتة ، وعلى الاجماع ، وما يناسب عصرنا من اجتهادات سابقة نيرة .. ، مستخدمين في هذا البحث : فقه الميزان الذي توصلت إليه من خلال دراسات معمقة بدأت قب لحوالي خمسة عشر عاماً .
وفي الختام أتضرع إلى الله تعالى أن يكسو عملي هذا ثوب الاخلاص ويجعله سبباً لخلاصي ، ويجمله بحلة القبول ، فهو سبحانه خير مسؤول وأكرم مأمول ، وانه مولاي وحسبي فنعم المولى ونعم الوكيل .
التعريف بالعنوان : ( نحن والآخر ) :
يقصد في هذا الكتاب بـ (نحن) المســلمون وبـ (الآخر) غير المســلمين من أهـل الكتاب وغيرهم ، فهو لفظ واسع جداً ، يطلق على كل ما يغايرك بأي شيء سواء كان في الذات ، أم في الصفات ، أم في المذهب ، أم في القوم ، أم القبيلة أم نحو ذلك ، ولكن أردنا به هنا : غير المسلمين ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، ولم نقل ( الضد ، العدّو ) للاستشعار بأن الآخر ليس بالضرورة عدواً ، أو ضداً بل يشترك معنا في بعض الأمور كما سيأتي ، ولأن الآخر يشترك معنا في كونه أمة الدعوة ، إذن فعلاقة الاسلام مع الجميع هو توصيل الرحمة إليهم ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)[1] .
لفظ الآخر في القرآن الكريم
وقد استعمل القرآن الكريم لفظ ( آخر ) أو ( الآخر ) ـ بفتح الخاء ـ و ( الآخرين ) كثيراً ، منها قوله تعالى في رؤيا الفتيين المسجونين مع يوسف عليه السلام : ( وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ )[2] فالمقصود به غير الفتى الأول ، ومنها قوله تعالى : ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )[3] فالمقصود به شاهدان من غير المسلمين .
فلفظ الآخر يقصد به في القرآن الكريم ما يقابل ما ذكر أولاً ويختلف معه بأي وجه خلاف ، سواء كان شخصياً أم غيره .
سبب اختيار هذا المصطلح :
اخترنا هذا المصطلح لأنه يشعر بالتكامل ، والتنوع ، والاختلاف الذي هو سنة من سنن الله تعالى التي تقضي بأنه لا بدّ من اختلاف الأديان والمذاهب والأفكار ، كما أن الاختلاف طبيعي في عالم المادة والألوان ، فقال تعالى : (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )[4] فهذه الآية توجه المسلمين إلى الاستفادة من الاختلاف وتأمرهم بالاستباق والمسارعة في الخيرات.
بل إن الله تعالى جعل الاختلاف في الملل والأديان والمذاهب سنة من سنن الله تعالى فقال تعالى : وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )[5] .
منطلقنا في البحث :
ننطلق في البحث من منهج الوسطية والاعتدال الجامع بين روح الاعتزاز بالاسلام ومبادئه وأحكامه وصلاحيته لكل زمان ، وبين ضرورة الاستفادة من كل ما هو حكمة ونافع مهما كان مصدره ، ومن الإيمان بأن هذا الدين هو رحمة وخير للناس أجمعين .
فنحن لسنا مع هؤلاء المتشددين الذين يرفضون الأخذ من الغرب أو الشرق مطلقاً ، ولا مع العلمانيين الذي انصهروا في بوتقة ثقافة الغرب ، والإحساس بالنقص ، ولا مع الذين يبحثون عن ثقافة التبرير ، والأشكال المتوافقة ولو كان ذلك بتكلف .
وكذلك ننطلق من ثنائية الفهم ، وشفعية الرؤية ، وضرورة الوعي الشامل للأدوات والوسائل والمآلات .
فالمراد من البحث هو :
بيان العلاقات بين الطرفين في حالات السلم والحرب والمعاهدات على ضوء الكتاب والسنة والسيرة النبوية العطرة ، وسيرة الخلفاء الراشدين بقدر الإمكان ، وما ذكره فقهاؤنا العظام بمختلف مدارسهم الفقهية.
ونحن نحاول ـ بإذن الله تعالى ـ أن نذكر أهم المبادئ التي تحكم هذه المسألة بشيء من التفصيل للمبادئ والقواعد العامة والتأصيل لأمهات المسائل مع الترجيح لما يرجحه الدليل دون التأثر بالماضي ولا بالواقع منطلقين من الفعل وليس من رد الفعل لما نراه على الساحات الإسلامية وغير الإسلامية .
ولكن الطريق نحو الآخر يمّر عبر طريق الذات (أي الذات الإسلامية والعلاقات الإسلامية ، الإسلامية) ومن هنا نذكر أهم المبادئ التي تحكم هذه العلاقات ، لأن الذات إذا كانت غير موجودة أو غير متماسكة فلا تقاوم ولا تقدر على أن تقف أمام الآخر ، ولا أن تحاوره حواراً عادلاً قادراً على كسب حقوقه ، إذ كيف نستطيع ( نحن ) أن نقف أمام الآخر إذا لم نكن متحدين متماسكين أقوياء ؟ !!! فالعالم المادي لا يحترم إلاّ القوي القادر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
سورة الأنبياء / الآية 107
-
سورة يوسف / الآية 36
-
سورة المائدة / الآية 106
-
سورة المائدة / الآية 48
-
سورة هود / الآية 118 – 119