الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن التطبيقات العلمية لأحكام الفقه الإسلامي هي التي تدفع بالفقه نحو التقدم والتطور والازدهار، وكما قيل: “الحاجة أم الإختراع”، لذلك شهد عصره الذهبي عندما كانت أمور المسلمين (أئمتهم وعامتهم) تدور عليه، وتبحث في إطاره، ولا يسمح بالخروج عليه، فنشطت قرائح الفقهاء وتفكيراتهم لتوضيح الحلول الشرعية ولإيجاد البدائل والمخارج على ضوء القواعد الكلية والمبادئ العامة للشريعة ومقاصدها العامة، ثم رعاية العرف والحاجة، وما يقتضيه رفع الحرج عن المسلمين في تعبدهم وتعاملهم فازدانت تلك العصور بعدد كثير من المؤلفات الضخمة في الفقه وفي فقه النوازل والحوادث، والفتاوى العلمية والأقضية والأحكام.
ثم أتى على الفقه الإسلامي حين من الدهر أصابه الجمود والتأخر بسبب جمود الأمة وتخلفها وبعدها عن الاجتهاد والتقدم والتحضّر، وانشغالها بالبدع والخرافات، فاستغلّ ذلك الوضعَ الاستعمار فجاء بغزوه الفكري والتشريعي والسياسي والاقتصادي فاستخر (فاستعمرنا) وطبق علينا قوانينه وتشريعاته، فأبعد فقهنا الإسلامي عن الحياة، وغيّبه عن الواقع وهمّش دوره على مسرح الأمة، ولأول مرة في تاريخ هذه الأمة تفرض عليها قوانين بشرية أجنبية تأتي بها دول محتلة لأراضيها، ويقبل بها مثقفوها. وحينما صحت الأمة الإسلامية فرأت ما حولها من العوائق والمصائب والمشكلات، وأنها أحيط بها من كل جانب. بدأت تتحرك نحو إصلاح ما أصابه الفساد، وكان نصيب الفساد للجانب الاقتصادي أكبر، حيث كان البديل الوضعي عن الاقتصاد الإسلامي هو المطبق في كل بلاد المسلمين، وبلغ الأمر إلى أن حدا ببعض المنتسبين إلى الدين أن يصدروا فتاوى بحلّ آثار هذا النظام الرأسمالي اليهودي من الربا ونحوه، كما أن الإحباط من إيجاد البديل الإسلامي كاد أن يعم الجميع، وهذه الظروف الصعبة قامت القائمة على الأمة التي بدأت تحارب هذا الاستعمار وتعيد الأمة إلى كتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم فبذلت المحاولات الجادة في هذا المجال من خلال الكتب والندوات والمؤتمرات الفقهية والفتاوى الجماعية بخطورة النظام الربوي حتى استطاع الفكر الإسلامي في مجال الاقتصاد أن يظهر ويثبت أقدامه، ويخطو خطوة رائعة نحو تطبيق من خلال البنوك الإسلامية، وشركات التأمين الإسلامي.
ومنذ ذلك الحين بدأ الفقه الإسلامي تدبّ فيه الحياة، ويعود إلى الحياة مرة أخرى، ويعاد إليه دوره المنشود في قيادة الأمة، وبدأ التفكير الجاد لإيجاد الحلول الشرعية لهذا الكم الهائل من النوازل والمستجدات المتراكمة، فانطلق الفقه انطلاقته الجديدة، وكثرت المؤلفات والبحوث الفقهية المعاصرة، وازدهر بالمؤتمرات والندوات والحلقات الفقهية التي أثرى بها كثير من القضايا المعاصرة، وساعد على وضوح الرؤية والاجتهادات الجماعية من خلال المجامع الفقهية بجانب الاجتهادات الفردية.
ومن هذا المنطلق يأتي دور البنك الإسلامي للتنمية ومعاهده المتخصصة في خدمة الفقه الإسلامي وتجديده من خلال فقه العمل، وفقهِ الحاجة وفقهِ النوازل وبالأخصّ في الاقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات المالية.
ولذلك حينما طلب مني الأخ الكريم الدكتور عمر زهير حافظ مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية: أن أكتب بحثاً عن: “الإجارة المنتهية بالتمليك” ليلقى في 14 رمضان 1418هـ ضمن الموسم الثقافي للمعهد، لم يسعني إلا الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة، والعمل على تنفيذها بكل ما أستطيع بذله من جهد وفكر، ثم طورت ما كتبته.
وسوف يتناول بحثي: الإجارة في الكتاب والسنة، لاستنباط المبادئ الأساسية لها، ثم بحثها في كتبنا الفقهية، ثم ينتهي البحث بالتطبيقات المعاصرة التي تكون الإجارة المنتهية بالتمليك أهم تطبيقاتها، ثم يختم بخاتمة تتضمن تلخيصاً للبحث ونتائج البحث وتوصياته.
والله أسأل أن يوفقنا لما فيه خير ديننا وأمتنا، ويسدد على طريق الحق خطانا، ويجعل أعمالنا كلها لوجهه الكريم، وأن يعصمنا عن الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل، إنه حسبنا ومولانا، فنعم المولى ونعم النصير.