إن لفظ البيئة في اللغة العربية يقصد به في أصله : المنزل ، والمرجع ، والمآب ، فهو من ” باء ” ، بمعنى رجع ، ومنه ” تبوأ المكان ” أي هيأه ، ونزل به ، وأقام به  ، وهذا يعطي مدلولاً جميلاً من أن هذه الأرض هي مرجعك ، وبالتالي : فعليك أن تهتم بها ، وفي الحقيقة أنها منزلك الكبير في الدنيا ، مرجعك بعد الموت .


  ولكن البيئة بالمعنى الاصطلاحي هي ما عرفه المؤتمر العالمي للبيئة الذي انعقد في استوكهولم سنة 1972 بقوله : ( البيئة هي كل شيء يحيط بالإنسان )  وهذا يشمل المكان ، والهواء ، والرياح ، والحيوان ، والنبات ، والدخان ، والعناصر الغازية ، والضوئية ، وغيرها .


  وهذا المعني العام ليس بعيداً عما أشار إليه القرآن الكريم في كثير من الآيات منها قوله تعالى : ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ  مُفْسِدِينَ )  حيث إن الآية الكريمة ذكرت الأرض بيئة للإنسان بسهولها التي تتخذ منها القصور ، وبجبالها التي تنحت منها البيوت ، ونوهت بضرورة نعم الله تعالى التي لا تعدّ ولا تحصى ، ثم ختمت بالنهي الحاسم عن الفساد في الأرض ، وهو يشمل كل ضرر أو إضرار بالأرض ومن عليها .


 


حديث القرآن الكريم عن البيئة :


تحدث القرآن الكريم عن البيئة في عدد كبير من الآيات نذكرها كالآتي :


أولاً ـ الأرض ، حيث ذكرها القرآن الكريم ( 390 ) مرة في مناسبات مختلفة ، ركز فيها على مجموعة من الحِكَم والغايات ، وأنه سخرها للإنسان ، لينتفع بها ، ويصلحها ، ولذلك نهى فيها عن الافساد فيها ، والاضرار بها ، وخطورة الفساد في الأرض ، وأن الله تعالى خلقها في أبهى صور جمالها وكمالها وصلاحها ، وهيأها للإنسان ليعمرها بكل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم ، منها قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )  وقوله تعالى في وصف الظالم الفاجر المفسد :   ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) .


 


ثانياً ـ السماء ، والسموات ، ذكرها القرآن الكريم ( 311 ) مرة نبه فيها على أهمية السماء ، وما تنزل منها من الخيرات ، والغيث والبركات ، وأن الله تعالى جعل فيها وسخرها مع الأرض وما بينهما لينتفع بها الإنسان ، ويشكره تعالى عليها ، وإلاّ فإن الله تعالى قادر على أن ينزل من السماء بدل الخيرات العذاب والرجز ، وأن يمطرهم الأحجار ، والآيات العجيبة ، وغير ذلك .


 


ثالثاً ـ عناصر الأرض والسماء ، التي تسمى في عالم البيئة ( الجامدة ، والسائلة ، والغازات المختلفة ) .


  لم يكتف القرآن الكريم بما ذكره حول الأرض ، والسماء ، وما بينهما ، وإنما نزل لبيان العناصر المادية المكونة للبيئة ، التي تسمى : الطبيعة الجامدة مثل التراب ، والوديان ، والجبال ، والهضاب ، والصحارى ، والصخور والمعادن الصلبة بأنواعها بأنواعها المختلفة ، وكذلك العناصر السائلة ، والغازات المختلفة لما في باطن الأرض من تأثيرات على الأرض إما بالضغط ، أو بالحرارة ، أو بالانحباس المباشر ، كما في التفجيرات المائية أو الثورات البركانية  .


 


أ ـ ففي نطاق الجمادات الصلبة ، كرر القرآن الكريم لفظ ” التراب ” ومشتقاته 22 مرة ، بيّن فيها أن الإنسان خلق من تراب ، وكرر لفظ ” طين ” ومشتقاته 12 مرة ، وكرر لفظ ” الجبل ” ومشتقاته 39 مرة ، تحدث فيها عن أهمية الجبال ودورها في تثبيت الأرض ومنافعها الكثيرة ، وكرر لفظ ” حديد ” ست مرات ، تحدث فيها عن أهمية الحديد ومنافعه الكثيرة ، وأن الله تعالى قد من على نبيه داود عليه السلام بأنه ألان له الحديد ، وكذلك كرر لفظ ” الصخر ” مرة واحدة ، و ” الصخرة ” مرتين .


ب ـ كما تناول القرآن الكريم معظم عناصر الطبيعة الجامدة ، فكذلك تناول العناصر السائلة لها ، مثل ” الماء ” 64 مرة ، حيث بيّن أهميته ومنافعه ، وأنه الأصل للكون كله ، وللإنسان ، فالله تعالى خلق الإنسان وكل الحيوانات من الماء ، وأن الكون كله كان ماء في البداية ، وتكرر لفظ ” البحر ” مفرداً ومثنى وجمعاً 43 مرة ولفظ ” النهر مفرداً وجمعاً 53 مرة .


 


ج ـ وقد أولى القرآن الكريم بحماية الأرض من الغازات المضرة ، فبين أن الله تعالى جعل السماء سقفاً محفوظاً من جميع الأضرار المادية والمعنوية ، والغازات المضرة فقال تعالى : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ  )  وقال تعالى : وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ )  وقال تعالى : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ )  .


 


د ـ القوى الطبيعية من مثل : قوة الجاذبية ، والتفاعلات الخاصة بالكواكب والشموس ، والدوران ، حيث أشار القرآن الكريم إليها ، فقد تحدث عن نعم الله تعالى على عباده من خلال هذه الدورات والتفاعلات بين الكواكب والشموس والنجوم فقال تعالى : ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )  وقد بين القرآن الكريم أن الله تعالى سخر هذا الكون للإنسان وهيأه له حتى يكون قادراً على تعميره ، من خلال عدة نعم من أهمها أن الله تعالى خلق قوة جاذبية لمسك السموات والأرض فقال : ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )  .


  ومن هذه النعم نور القمر ، والقوة الحرارية للشمس ، والمنافع الخاصة بكل كوكب ، فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا  )   وقال تعالى : (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا )   فالوهج هو حرارة الشمس .


 ومن هذه النعم توارد الليل والنهار ، والرياح التي جعلها الله لواقح ، ومسيرات للسحب والأمطار ، وغير ذلك .


 


هـ ـ  الكائنات الحية المتمثلة في الحيوانات والنباتات التي سخرها الله تعالى للإسنان حتى يؤدي دوره في الأرض بالكامل ، وفي هذه المسألة نجد مئات الآيات التي تتحدث عن النباتات والأشجار ، والحيوانات وأنواعها ، ومنافعها .


 


و ـ العمران والبنيان :


 وكذلك تحدث القرآن الكريم عن دور العمران والبنيان وأهميتهما ، بل ان استعمار الأرض هو من أهم مقاصد خلق الإنسان واستخلافه فقال تعالى : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )  .


 


ز ـ التوازن البيئي :


وهنا وضع القرآن الكريم مجموعة من الضوابط للبيئة السليمة من أهمها : التوازن ، وعدم الاسراف والتبذير ، وعدم الافساد والاضرار ، فقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ  إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ  وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ  وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ  الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ )  .


 وقد أشار القرآن الكريم في كثير من الآيات إلى الحفاظ على التوازن المطلوب لأن الله تعالى خلق كل شيء بقدر وتوازن فقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )  وقال تعالى : (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ )  وقوله تعالى :  (مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ )  يدل على أهمية التوازن في هذا الكون كماً وكيفاً ، ومقداراً ووزناً ، ومادة ومعنى .


 


الحقائق والمبادئ القرآنية حول البيئة :


  إن القرآن الكريم ـ وهو دستور الأمة ـ إذ يتطرق إلى هذه العناصر البيئية يريد من خلالها بيان مجموعة من الحقائق والمبادئ من أهمها ما يلي :


 


1)         أن الكون بمجموعه صالح لا خلل فيه ، وأنه أنشئ على نظام بديع رائع ، وانه مهيأ لهذا الإنسان وإسعاده ، وفيه جميع عناصر الخير والبركات والصلاح .


 


2)         أن الأرض ( وما يحيط بها من فضاء وغازات ، وما فيها من جبال وصخور ومعادن ) قد خلقها الله تعالى بدقة متناهية ، وان كل شيء فيها حسب ميزان دقيق ، وكل شيء موزون للوصول إلى أرض موزونة ، وكون متوازن كماً وكيفاً ، ومقداراً ، مادة ومعنى ، طاقة وغازات … .


 


3)         أن الأرض سلمت إلى الإنسان ، وهي صالحة خيرة نافعة متزنة موزونة ليس فيها خلل ولا نقص ، لذلك عليه أن يحافظ عليها ، ولا يفسد فيها فقال تعالى : (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )  .


 


4)         أن الإنسان وحده هو المسؤول عما حدث ويحدث للبيئة من فساد ، ومشاكل بيئية ، فقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )  ، وبما أنه هو المسؤول فعليه أن يسعى جاهداً لاصلاح خطئه ، وإلاّ فيكون آثماً يستحق العذاب في الدنيا والآخرة .


 


5)         ربط البيئة بالعقيدة والقيم ، حيث إن القرآن الكريم يربط بين البيئة والدلالة على خالقها المبدع القادر فقال تعالى : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )  وقال تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ )   ثم بين موقف المؤمن من ذلك فقال تعالى : (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )   وقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)  .


فقد ذكر القرآن الكريم هذه المخلوقات ( البيئية ) لتكون دليلاً وشاهداً وبينة على وجود الإله الخالق القادر المتصف بصفات الكمال كلها فقال تعالى :     ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ  أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ )  .


وكذلك ذكر القرآن هذه المخلوقات دليلاً على الآخرة ، وعلى إعادة الخلق ، فقال تعالى : ( …. وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ )  .


 


6)         ربط البيئة بالجمال والزينة ، فقال تعالى : (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ )  وقال تعالى : (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ )  .


 


7)         البعد الأخلاقي من خلال الآيات الكثيرة الدالة على أن هذه الدنيا كلها للابتلاء ، وبالتالي فلا يجوز فيها التكبر والتجبر والعنف والايذاء ، بل يجب الشكر والتواضع ، والتحلي بالقيم الفاضلة ، والأخلاق الراقية في التعامل مع كل من حوله من إنسان أو جماد ، أو حيوان ، فقال تعالى :  ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ )  .


اعلى الصفحة