السؤال: “لا يخفى على فضيلتكم الزحام الشديد الذي يكون يوم الخروج من مكة بعد انتهاء الحج، ويتعذر في كثير من الأحوال الوصول إلى الحرم لأداء طواف الوداع، وفي كثير من الأحوال يتوجب على الشخص المغادرة إلى المطار لإدراك طائرته، وبقاؤه لأداء طواف الوداع يستلزم عدم إدراك الطائرة، فما توجيهكم في هذه الحال”
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان الي يوم الدين.
وبعد
فمما لا يخفى أن طواف الوداع ليس من الأركان بالاجماع ، وإنما هو من الواجبات المختلف فيها ، حيث ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفية والحنابلة ، والشافعية على الأظهر) إلى أنه واجب ، مستدلين بحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلاّ أنه خفف عن الحائض) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح (3/585).
ووجه الاستدلال هو أن لفظ ( أمر ) حقيقة في الوجوب عند الجمهور ، وفي رواية لمسلم في صحيحه (2/963) عن ابن عباس قال : ( كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/586) : ( وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به ، وللتعبير في حق الحائض بالتحفيف ……… ) ، وترجم البخاري : باب : إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت حيث روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها : ( أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أحابستنا هي ؟ ) قالوا : إنها قد أفاضت ، قال : ( فلا إذاً ) قال الحافظ في الفتح (3/586) قال ابن المنذر : قال عامة الفقهاء بالأمصار : ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع ) .
وعلى القول بالوجوب يكون على التارك دم ( أي شاة ) ، وذهب مالك ، والظاهرية ، وابن المنذر إلى أن طواف الوداع سنة لا شيء في تركه . يراجع : الهداية مع فتح القدير (2/186) ومغني المحتاج (1/505) والمغني (3/449) وفتح الباري (3/585)
وقال الحافظ ابن حجر : ( والذي رأيته في ( الأوسط ) لابن المنذر : أنه واجب للأمر به ، إلاّ أنه لا يجب بتركه شيء ) . يراجع : فتح الباري (3585)
واستدل القائلون بأنه سُنّة ومستحب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص للحائض تركه دون فداء ، ولو كان واجباً لوجب بتركه فدية . يراجع : المصادر السابقة
ومن هنا نجد أن في الأمر سعة ومرونة ولذلك لا ينبغي التشدد فيه ، فلو أخذ أحد يقول هؤلاء العلماء الأعلام من المالكية ومن وافقهم لما ارتكب اثماً ، ولا نقص به حجه.
ومع ذلك فإن الذي يظهر لي رجحانه هو التفرقة بين حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون موعد طائرة الحاج في اليوم الثاني من أيام التشريق في حالة التعجل ، أو في اليوم الثالث منه بالنسبة لمن تأخر ، بحيث لو طاف طواف الوداع لفاتته الطائرة ، أو موعد الرفقة المحدد في السيارة أو السفينة ، ففي هذه الحالة فالحاج بين أمرين : إما أن يطوف طواف الوداع ، فيفوته طواف الوداع على الظن الغالب ، أو يترك الطواف ليدرك الطائرة أو السفينة أو السيارة العامة .
ففي هذه الحالة يجوز له ترك طواف الوداع ، لأنه معذورـ كما هو الحال فيما هو أكبر من ذلك في حالة المرأة الحائض حيث يجوز لها الطواف إذا كانت الرفقة تفوتها ، وهل عليها الدم ؟ فيه خلاف.
وفي هذه الحالة فما دام الشخص معذوراً فلا يجب عليه البدل ( من الفدية ، الدم ) قياساً على الحائض ، واستئناساًَ بما ذهب إليه المالكية وبعض الشافعية ، والظاهرية ، وابن المنذر.
الحالة الثانية : حالة حاج ( أو حاجة ) لم يكن لديه عذر ، وإنما ترك الطواف خوفاً من الزحام أو بدون سبب .
ففي هذه الحالة أن الترك يستوجب البدل أي شاة .
وننصحُ باتباع سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم ما دام ممكناً ، وأنه إذا وجد حرج فلا يشدد عليه ، بل يأخذ بهذه الرخصة ، فقال تعالى : {.. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .. } سورة الحج / الآية 78 وقال تعالى : {.. يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .. } سورة البقرة / الآية 185 .
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم